ادارة ندوة كتاب البنك العثماني

                                                                    

قد يتبادر الى الاذهان من خلال عنوان الكتاب ” البنك العثماني” ان الموضوع يتمحور حول الودائع والتجارة وكل ما له علاقة بالصيرفة والمال. انما لبه الحقيقي مر المذاق، يخدش الوجدان الانساني بقحة. ويتناول الاتجار بالانسان والوطنية، بالكرامة والجدارة، بالحرية والقومية. وهو يمسخ الانسانية بابشع صورها واحط دركها. كان صيرفة السلطان عبد الحميد الثاني واعوانه من جمعية الاتحاد والترقي والطورانيون جميعهم بالارمن، فتم شراؤهم قتلا، وبيعهم تهجيرا وذبحا ونهبا واسترقاقا. وبالرغم من هذه المعاناة، استقبلوا في مصر عامة وفي الاسكندرية خاصة على مضض، فعانوا عذابات على يد فئات، ومساعدة على يد آخرين. اما مسرح هذه الرواية فكان الاوضاع الاجتماعية والسياسية في السلطنة العثمانية، وفي مصر اواخر القرن 19 ومطلع القرن العشرين.

ايها الحضور الكريم، منذ بدأ الانسان يعيش في جماعة، كان ينشد الاحترام والجدارة عنواني الحرية اثبات لذاتية وجوده ودوره في الجماعة. والحرية هي فعل مساواة واعتراف بالآخر والتعامل معه بندية تامة. والانسان كما بات واضحا فطر بوجه العموم على حب السيطرة، وخاض في سبيلها صراعات وحروبا غير منتهية. وحتم على المهزوم اختيار احد حلين اما الاستمرار بالقتال حتى الموت، او الاقرار بالهزيمة والخضوع لمشيئة المنتصر، ما اسس لتراتبية اجتماعية معيارها القوة والعنف، والحصول على الثروة، وافرز مصطلحات ابدية: السيد والتابع، الحاكم والمحكوم، المنتج والمستفيد، الفقير والغني، المتجبر والمنكسر، الطاغية والضحية. واسس لثورات وحروب داخلية، واخرى خارجية شبه مستمرة ما تزال مستعرة حتى اليوم.

من البديهي القول: ان وعي الشعوب لتاريخها فيه من الخطورة والحدة ما يجعل الممالك والامبراطوريات والسلطنات تعيد التفكير بالعلائق بين مكوناتها الاجتماعية ذات الاتنيات المتنوعة. لأنه، على المدى البعيد، سيفرز صراعات اما من اجل ان تستكمل السلطة هيمنتها، او لأن المحكوم المستضعف سيناضل تحقيقا للحرية والمساواة. وتعتبر السلطنة العثمانية احدى نماذجه الصارخة، فهي توسلت الحروب في توسعها، حتى باتت دولة حربية عسكرية بامتياز، ذات نظام تيوقراطي، بعد ان حصر السلطان في شخصه عرش الحكم وسدة الخلافة بعد قضاء السلطان سليم الاول على السلطنة المملوكية في معركة الريدانية عام 1517 وألزم الخليفة العباسي التنازل له عن الخلافة، التي باتت وراثية في سلالته . وصارت كيانا جغرافيا عجيبا من حيث تنوع الاتنيات والاعراق والثقافات، اتسمت السلطة بعدم المساواة ومحاباة افرقاء على آخرين لا سيما المسلمون ممن اصولهم تركية، وبالقمع والشدة تجاه غير المسلمين، وكل من يحاول الخروج على الروحية العثمانية، او يحاول التمرد.

 ولما ادرك العثمانيون ان الانحلال بدأ ينخر المجتمع والمؤسسات شرعوا بالاصلاح ادراكا منهم لاهميته منذ عهد السلطان سليم الثالث على مستويين : الانفتاح على الغرب، وتطوير هيكلية المؤسسات من دون ان ينجحوا. وباتوا في متناول الامبراطوريات الاوروبية التي اطلقت على السلطنة اسم” الرجل المريض”

وفي القرن 17م. برز وعي شعبي ارمني تجاوز الحالة الاجتماعية الى الوضع السياسي، ودفع الكنيسة الارمنية باتجاه الغرب لتحرير ارمينيا من المهانة التي كان يعيشها الارمن. وخشي العثمانيون الضغوط الاوروبية، فنفذوا اصلاحات طالت جوانب جديدة من الحياة الاجتماعية. فاعطى خطي شريف كلخاناه ( تشرين  الثاني1839 )، الذي اصدره السلطان، الرعايا غير المسلمين حقوق الملة، وطمأنهم بكل ما يتعلق بحياتهم وممتلكاتهم. وأكد على الاصلاح في جميع مؤسسات الدولة” على ما يقضي في ذلك النص المقدس لشرعنا“. بما يعني ان الهدف المبتغى من الاصلاح لم يكن سوى احياء متطلبات الدين الاسلامي بعد ان كانت السلطنة ترهلت، وابتعدت عن احكامه لا سيما في الجهاد. وهدف ايضا الى اعلاء شأن الامة الاسلامية. ما يعني ان لا تأكيد على اعطاء غير المسلمين الحقوق كاملة كما نص عليها ” كلخاناه”، بدليل فشله بعد ثلاث سنوات من تطبيقه.

 انما الاصلاح الاهم، من حيث النصوص، جاء خلال مؤتمر باريس، على اثر حرب القرم(1853-1856) التي ناصر فيها الاوروبيون السلطنة ضد روسيا، وكان ثمنا لتلك المساندة الفعالة، ومنعا لانهيار”الرجل المريض” نهائيا. فاصدار السلطان عبد الحميد (خطي شريف همايون) في 18 شباط 1856 الذي اكد على احكام كلخاناه وساوى بين كل الرعايا امام القانون والضريبة، والشهادة في المحاكم، وفي الخدمة العسكرية – بعد ان كانت الخدمة العسكرية حكرا على المسلمين- وفي الوظائف العامة.  وازال ايضا كل تعبير او اصطلاح يميز بين الرعايا.

لم ترض هذه الاصلاحات رجال الدين المسلمين لأنها حرمتهم الكثير من امتيازاتهم، كما خشي الحكومة العثمانية وكبار رجال الدين المسلمين ان تؤدي الى ثورة المسيحيين للحصول على كل تلك الحقوق. كما اثارت غضب الفئات الاجتماعية المسلمة التي لم تعتد المساواة بالمسيحيين. وفي الوقت عينه عمدت السلطة بكل اجهزتها الى العمل على افشال الاصلاحات، فجهدت لاذابة الاقليات بخاصة الارمن في المجتمع العثماني، ومنعتهم من الحصول على دستور بعد ان تقدموا به اكثر من مرة، وسمحوا لهم بنظام اساسي فقط. وفي الوقت عينه حرضت وآزرت الاكراد والشركس ضدهم، ما زاد في مأساتهم ودفعهم الى النزوح الى المدن، وصار وضعهم اكثر حرجا عثمانيا عندما عمل الروس على تحريرهم على اثر معاهدة سان ستيفانو. ما زاد في تشدد العثمانيين ضدهم لتبدأ مرحلة مرعبة من الجرائم العثمانية غير المبررة، وصارت ولما تزل عارا ملصقا على جباههم.

اما مصر فقد كانت انذاك تحت الحماية البريطانية، وتخضع اسميا للسلطان العثماني، ويحكمها خديوي من سلالة محمد علي باشا، احد ابرز رواد الاصلاح في المشرق العربي. انما خلفاؤه نسفوا كل انجازاته، وصاروا دمى في ايدي الغرب لاسيما الفرنسيون والانكليز لاسباب متنوعة لا مجال لذكرها الآن. وساد عهودهم حكم الباشوات والمحسوبيات، وازداد وضع الفئات الفقيرة بؤسا. وككل مجتمع تداخلت فيه تيارات داخلية بعضها محافظ وبعضها الاخر رجعي متخلف، فضلا عن براعم ثقافية جهدت لكسر التقليد المثقل بالموروث متأثرة بتيارات خارجية عنوانها التطور والاصلاح. وبالتالي نشأ صراع بين الموروث والحداثة التي رفع لواءها مثقفون بخاصة ممن تخرجوا من المدارس الاوروبية، وبعض طلاب الجامعات. ونشأ صراع طبقي بين التقليديين، والاخوان المسلمين، والمتسلطين من حاشية الخديوي كل يدفع المجتمع في ما يناسبه من دون ان يختلفوا في ما بينهم بعنف، وكانوا شبه متحدين ضد من كانوا يريدون تطوير مصر ودفعها نحو الحداثة في مقاربة لردم الهوات بين الطبقات الاجتماعية، وايقاظ الوعي السياسي وتعميمه.

وسط كل تلك التجاذبات والمناخات المريضة، شُرّد الارمن واسشتهدوا وعانوا الويلات، وباتت قضيتهم دمعة حمراء سكبتها عين التاريخ على وجنات الانسانية وتركت عليها كلوما وقروحا لما تندمل بعد. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *