ادارة ندوة كتاب الدكتورة سعاد سليم ابو الروس “الوقف الارثوذكسي خلال العهد العثماني “

ان الحركة الثقافية – انطلياس في اطار نشاطات المهرجان اللبناني للكتاب، تنظّم هذه الندوة حول كتاب الصديقة والزميلة الدكتورة سعاد ابو الروس سليم المعنون ” الوقف الارثوذكسي في لبنان خلال العهد العثماني”، نظرا لاهميته، وتعميما للفائدة حول موضوع الاوقاف في لبنان.     

ايها الاصدقاء

منذ ان استقر الانسان في جماعة نشأت علاقاته الجدية بالارض، وعلى رغم انتظام اموره الاجتماعية والقانونية او العرفية بخاصة في الاميراطوريات الكبرى استمرت الاشكالات حول ملكية الارض واستغلالها،  وقد تباينت احكامها في ما بين الدول.

وان عجز الانسان عن تفسير معنى الوجود ومسألة الخلود دفعه الى ابتداع الآلهة ليلوذ بها، فشيّد لها الحكام على وجه العموم الكثير من الابنية الدينية، وخصصوا لها الكهّان ومساعديهم، وافردوا لها الاراضي اما اقطاعا او استغلالا. لأنها وحدها كانت باعتقادهم قادرة على السيطرة على مصائر الناس والتأثير باحوال الطقس ، والتخفيف من الكوارث، والبراء من الامراض، والانتصار في النعارك وهكذا… واعتقد الناس انهم كلما تماهوا في عبادتها وقدّموا لها القرابين والهدايا والهبات واكثروا من وهبه الاراضي لها، بالمقدار عينه تمنحهم بركاتها وتستجيب لطلباتهم. والى ذلك شكّل وهب الاراضي لأماكن العبادة احد اهم ركائز نشؤ نظام الاوقاف.

وعجزت الديانات التوحيدية عن محو تلك العادات لأنها باتت في صلب الثقافة العامة الاجتماعية والتراثية. واستبدل المؤمنون المسيحيون الآهة المتعددة بالآه الواحد والقديسين، وشيّدوا لهم الكنائس والاديار، واوقفوا عليها الاراضي. وفرضت الانظمة الديرية على رهبان الاديار نمطا قاسيا من حياة التقشف والزهد فمارسوا الى جانب عباداتهم، وما تفرضه عليهم حياتهم الدينية من علاقة اجتماعية واخلاقية ودينية ورعائية تجاه محيطهم الاجتماعي، العمل القاسي بالارض، فباتوا فلاحين او مزارعين في اديارهم واستصلحوا الاراضي.

واذا كانت المسيحية قد اقرّت نظام الوقف فان الاسلام حدد له شروطا خاصة، فالارض في الاسلام هي ملك لله، ويحقّ للخليفة او من ينوب عنه اقطاع الاراضي اوتمليكها. ولما كثرت الاماكن الدينية الاسلامية كالمساجد، والجوامع، والتكايا، والزوايا، والربط، والترب والمدارس…التي انشأها الحكام او اصحاب المراكز السامية، و اهل الخير والصلاح، واوقفوا عليها الاراضي والمعاصر وما الى ذلك لكي يرتزق بها القيمون عليها، وهي في المنظار الاشلامي الشرعي وقفا ابديا لا رجوع عنه.

والجدير ذكره ان العالم الاسلامي المشرقي، بوجه عام في العصور الوسطى بدءا باواخر العصر العباسي الثاني وانتهاء بعهد المماليك، قد حكمته انظمة عسكرية تمتع بموجبها اولئك الحكام الاغراب بحق الانتفاع بالارض من طريق الاقطاع اما استغلالا او تمليكا، وبتعبير اوضح اُعطي الاقطاع للوظيفة. وكان يسقط عن صاحبها بمجرد تركه الخدمة. وكان بعض اصحاب ذي الشأن قد ملكوا الكثير من الاراضي ابان ممارستهم لوظائفهم، ورغبة منهم بتوريث بعضها في ذريتهم، لكي لا يسترجعها بيت مال المسلمين، ابتدعوا نمطا جديدا من الوقف عرف ” بالوقف الذري”. وهي طريقة احتيالية على الشرع ان جاز التعبير، بحيث كانوا يوقفون الكثير من الاراضي التي كانت في حوزتهم اما على تربة او مدرسة شيّدوها، او مسجد بنوه او غير ذلك مما ذكرنا من الابنية الدينية والاجتماعية والثقافية، ويذكرون في وقفياتهم عدد القيّمين على الوقف ومهام ومقدار راتب كل منهم،  ويجعلون احد ورثتهم قيّما عاما عليه يتوارث مركزه ابناؤه من بعده. وانتقل هذا النمط، بنسب متفاوتة، الى الاوقاف المسيحية، فعمّ المناطق المشرقية كلها ومنها لبنان، ولم يكن حكرا على مذهب محدد، بل شمل كل المداهب المسيحية.

ودرج الحكام بخاصة السلاطين وكلما كانت تزداد الاملاك الموقوفة نتيجة مساهامات المؤمنين لاهداف دينية محضة، او غايات اجتماعية اما تقربا من الله في المطلق، او ايفاءا لنذور، على السطو عليها متوسلينن انواع الذرائع، كالاستعداد لمجابهة خطر خارجي، او لبناء اسطول، او لأن قحطا ما قد ضرب البلاد… ولم تسلم الاوقاف المسيحية بدورها من عملية السطو تلك، فتوسّل السلاطين ذرائع لايمكن تصنيفها الا في خانة السلب لزيادة اموالهم، او لتوفير بعضها لصالح بيت المال الذي يكونون شبه افرغوه  من الاموال،  كأن يُزعم ان الافرنج سطو على مراكب تجارية اسلامية، او اعتدوا على ثغر اسلامي ما، وما الى ذلك.

اما الاراضي الاقطاعية في العهد العثماني فقد توزعت وفق تنظيم جديد: التيمار، والزعامت، والخاص الهمايون. وغدت اراضي الاوقاف المسيحية جزءا من اراضي التيمار، ويسري عليها القانون العثماني الذي كان يميّز بين اراضي الملك التي تخضع لضريبة الخراج، والاراضي الاقطاعية الاخرى التي تضمّن وفق النظام المذكور. ولم يسر الاقطاع العثماني على نمط واحد: فقد بدأ بنظام فرسان السباهية، ثم الملكانة فالالتزام  بانواعه المتعددة. ولم تكن دائما مواقف السلاطين والولاة والحكام الاقل شأنا متطابقة الرؤى الاقتصادية والمواقف تجاه المسيحيين ومنها مسألة الاوقاف، فهي تنوعت بين تأزيم وتساهل، بخاصة انه يمكننا ان نميّز في العهد العثماني بين ثلاثة مراحل محددة المعالم: القوة والازدهار، الانحطاط، التنظيمات على الرغم من كونه جزءا من عهد الانحطاط. وهي من دون شك كانت بالغة التأثير على حكام المقاطعات اللبنانية.

ايها الاصدقاء، لن اتطرق بالكلام على الاقطاع العثماني الى اكثر من ذلك لأنه يتقاطع مع موضوع هذه الندوة من حيث علاقته العضوية بالاراضي الوقفية، علما ان لي مساهمات واسعة فيه، ولا سيما الدرسة المعنونة ” الاقطاع العثماني بين الحداثة والتقليد”، فاسحا في المجال للمحاضرين الكرام للكلام عليه.

في 21 – 3 2009

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *