ادارة ندوة كتاب هوية الكسروانيين للدكتور لطيف لطيف.

ايها الاصدقاء نناقش في هذه الندوة كتاب الدكتور لطيف الياس لطيف المعنون ” قراءة جديدة في مذهب الكسروانيين ابان الحملات المملوكية”، وهو موضوع شائك وشيّق في آن. وقد اسرني منهج الدكتور لطيف العلمي الصارم الدقيق للتبحر بكل جوانب الموضوع منهجا ومضمونا بخاصة انني مختص بالعهد المملوكي من جهة، ودرّست مناهج التأريخ عند العرب والمسلمين في العصور الوسطى مدة ثلاثين سنة من ناحية ثانية.

ايها الاصدقاء اعتمد التأريخ في العصور الوسطى في المشرق العربي على عدة انماط ولعل من ابرزها: التاريخ العام الشامل الذي يتناول فيه صاحبه كل الاحداث في المشرق العربي مركزا على الكبرى منها، بخاصة تلك التي تؤثر على تطور الاوضاع في حاضرة الدولة. ويمتاز عنه التأريخ الاقليمي او المحلي بتدوين الاحداث التي وقعت في الاقليم الذي ينتمي اليه، من دون تجاهل الاحداث الكبرى من حيث تفصيلها بقدر انعكاسها على اقليمه، وتقدير اهميتها من زاويته الشخصية. ويعنى منهجي التراجم ولطبقات بكتابة سير موجزة لشحصيات مشهورة ( c.v.) تتناول مآثرهم ومثالبهم في آن واحد، ويشمل الاول شخصيات متنوعة غير متجانسة في حين ان الثاني يدون اخبار شخصيات متجانسة من حيث العمل مما يجعل من المنهجين مفاتيح للتأريخ العام لأن شخصياتهما تركت بصمات واضحة على احداث البلاد. اما منهج السيرة  فهو يؤرّخ تفصيليا لشخصية مشهورة ربما ترد فيها معلومات قد لا نجدها في مصدر آخر ما يجعل الاطلاع عليها ضروريا لتفسير بعض الاحداث. والى جانب هذه المناهج انتشرت كتب الادارة التي تركّز بشكل اساسي على نظم الحكم من دون ان تهمل التأريخ للاحداث التاريخية المهمة. وتكمن اهمية هذه المناهج بان بعضها يضيء على البعض الآخر بطريقة تكاملية، وتساعد المؤرخ على فهم الاحداث بطريقة افضل، وتمكنه من الاجتهاد عند غموض الحدث. وبالتالي يصبح لزاما على المؤرخ دراستها كلها.

ومن المؤسف حقا ان الموضوع الذي نناقشه اليوم لم يتناوله في مكانه وزمانه اي من المؤرخين اللبنانيين في العصور الوسطى صمن مفهوم التاريخ الاقليمي الذي لا يضيئ على الاحداث فقط بل يفصّلها، وهو عادة اكثر دقة وشمولا من التاريخ العام الذي يركز على الاحداث الكبرى في الاقاليم او يذكرها سريعا انطلاقا من تأثيرها على الدولةولم يؤرخ للحملات المملوكية على لبنان حين وقوعها اي من المؤرخين اللبنانيين، انما تناولها بعضهم في فترة لاحقة شأن صالح بن يحي في كتابه تاريخ بيروت، ما يحتّم علينا كمؤرخين لبنانيين الاعتماد على كتب التراجم والطبقات والسير والادارة وبخاصة على التاريخ العام لمؤرخين مصريين او من بلاد الشام.

ويقتضي المنهج السليم تحديد المصطلحات التي يشكل عدم الالتباس في مضامينها نقاط ارتكاز للتأريخ موضوعي يجنب المؤرخين الشطط والتفسيرات الكيفية. ويحوي كتاب الدكتور لطيف عددا من المصطلحات الرئيسة: كالرافضة، والظنيين، المارقين، اهل البدع، التيامنة، الدروز، الموحدين، جبال الظنيين، كسروان…من المفضل تحديد معانيها قبل استخدامها.

الى ذلك، يكتسب موضوع الكتاب ابعادا ايديولوجية ومذهبية بامتياز، ويتنازعها عدد من المؤرخين اللبنانيين المحدثين، ويزعم كل منهم ان الكسروانيين كانوا في اواخر القرن الثالث عشر ومطلع الرابع عشر على مذهبه الديني ناسبا اليهم وحدهم مقاومة ظلم الماليك للبنان واللبنانيين من دون ان يدرس الاطار الغام للحملات الملوكية من حيث اسبابها وابعادها، ومن دون ايضا ان يدرس بنية النظام العسكري الاداري المملوكي المرتبط غضويا بالنظام الاقطاعي، او ان يدرس موقف المماليك من الفئات الاجتماعية في دولتهم، بخاصة بخاصة نظرتهم وموقفهم من اجناد الحلقة.

ومن اجل فهم اوسع بل اوضح لندوتنا هذه سأوجز الاطار التاريخي العام في المشرق العربي الذي تشكل الحملات المملوكية جزءا منه او على الاقل انعكاسا لبعض تحولاته.

شكّل انتصار المماليك على المغول في عين جالوت عام 1260 نقطة تحول في تاريخ المشرق العربي والاسلامي: فهي من جهة وضعت حدا لانتصارات المغول، ومنعت سقوط آخر حصون المسلمين بعد ان كانت كل حصونهم الاخرى قد سقطت ابتداءا بالدولة الخوارزمية وانتهاءا بالخلافة العباسية في بغداد وما رافق ذلك من استباحة بعض المدن الاسلامية الرئيسة. واذاك لم تكن بعد دولة المماليك قد ثبّتت اقدامها نتيجة الصراعات الشديدة والمتلاحقة بين كبار الامراء على عرش السلطنة، وهذذ الصراعات سيتشكل ابدا سمة دولة المماليك حتى سقوطها.

وجهد المغول للثأر من المماليك واستغلوا سنة 1281 تمرد نائب الشام سنقر الاشقر على السلطان قلاوون واستنجاده بهم، وان كان قد تراجع عن ذلك لاحقا، فاغاروا على حلب وحماه واحرقوما ولكنهم انهزموا قرب حمص، وبالتالي لم يحقق اي من غاياتهم الكبرى.

وتجدر الاشارة الى انه بعد ان تفسّخت الامبراطورية المغولية نشأت دولة الإلخانيات في بلاد فارس واعتنق حكامها الاسلام على المذهب الشيعي الاثني عشري، وادى ذلك الى دفع مغول فارس  لاختيار احد امرين اما الخضوع او التبعية الدينية الاسمية لسلطة المماليك الدينية الباسطين سلطانهم على الاماكن الاسلامية المقدسة او انتزاع تلك الاماكن منهم، ما يحتم عليهم انتصار كبيرا على المماليك. وهذا المحور هو الذي يفسّر انتهاز الالخان الكبير غازان سنة 1299 فرصة اختلال الاوضاع المملوكية الداخلية بعيد وفاة السلطان الاشرف خليل، للهجوم على حلب وحماه وتدميرهما، ثم الانتصار على الجيش المملوكي المفتقر الى قيادة حقيقية في معركة وادي الخازندار قرب حماه، فتشتت من نجا المماليك بكل اتجاه، فاختار بعضهم الهروب عبر الساحل اللبناني حيث كمن لهم الكسروانيون عند وادي نهر الكلب فقتلوا عددا منهم بين امراء وجنود، وقبضوا على آخرين وباعوهم من الافرنج ما استدعى عضب المماليك. وزاد في الطين بلّة ان غازان اكمل زحفه نحو دمشق واستباحها بمساعدة بعض الشيعة والدروز ممن تركوا بصمات شنيعة بخاصة في جبل قاسيون، وحفظت تلك الاعمال المصادر المعاصرة للحدث وجعلت منها مبررا للحملات المملوكية على كسروان وتصنيف سكانه بالمارقين والخارجين على السلطة ويحل قتلهم تبعا لفتوى ابن تيمية ما جعل قتالهم واجبا دينيا.

ويتجلّى بصورة افضل الصراع على زعامة العالم الاسلامي بحملة غازان الجديدة على بلاد المماليك عام 1302 حيث انهزم في فلسطين في معركة مرج الصفر. فصار الكسروانيون متهمين بامرين لا تهاون بهما عند المماليك السنة: التعاون مع الصليبيين قبل جلائهم عن الشرق وبعده، ومع المغول عدوي المماليك، وبالتالي صار تأديبهم واجبا شرعيا. 

ولست ادري ايها الحضور الكريم لماذا تسابق بعض المؤرخين اللبنانيين لجعل الكسروانيين على مذهب كل منهم ناسبا الهيم الفضل في مقاومة المماليك!! متجاهلا عن عمد نصوصا وردت في كتب التاريخ العام لمؤرخين مشهورين اثرت عنهم الموضوعية ومعظمهم شغل مناصب ادارية في ديوان الانشاء كالعمري والنويري والمقريزي والقلقشندي وغيرهم، او كان قريبا جدا من السلطة المركزية شأن ابو الفداء. او لماذا عمد بعضهم الى اجتزاء النص الواخذ واستخدموا منه ما يناسبهم. ونتساءل ايضا لماذا لم يقارن بعض المؤرخين المحدثين النصوص المحققة الصادرة عن اكثر من دار نشر، لأن بعض المحققين ينزع الى تحوير المخطوط باسقاط كلمة من هنا او هناك. ولعمري انها حطوات بديهية ندرّسها لطلابنا بدءا من السنة الاولى الجامعية، ولا اعتقد ان من تناول الموضوع كان جاهلا لها، انما كان له موقف مسبق من الاحداث.

ونطرح سؤالا آخر لا يقل اهمية عمّا سبقه لماذا لم يعمد المؤرخ الى اعادة تركيب الاحداث على ضوء ما وفرت له نصوص المصادر المتعددة من معلومات، انما نحا الى تسخّير بعضها عمدا لتتلاءم مع موقفه المسبق من الاحداث مستخدما نظريات تعتبر ساقطة في علم التاريخ كالحتميات، والفرضيات او الاجتهادات الكيفية المفتقرة الى المسوّغات الموضوعية، ومتجاهلا ان الحقيقة في علم التاريخ هي دائما مطلقة ويظل الوصول اليها نسبيا ومرهونا بما توفره الاصول والمصادر من معلومات.

ايها الاصدقاء بعد هذه المقدمة الضرورية والطويلة نسبيا نترك الكلام للزميلين الصديقين العميد احمد حطيط والدكتور الياس القطار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *