ادارة ندوة مناقشة كتاب جوزيف لبكي ” الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010

                                                          

ايها الحضور الكريم، في اطار المهرجان اللبناني للكتاب، تعقد الحركة الثقافية – انطلياس، هذه الندوة لمناقشة كتاب العميد جوزيف لبكي المعنون “الانتشار الماروني في العالم واقع ومرتجى 1840-2010

الموارنة جماعة دينية مرتبطة بالقديس مارون، كاثوليكية المشرب والمعتقد، مشرقية المحتد والثقافة، لبنانية الهوية، عربية اللغة والانتماء، بل متجذرة بالعروبة الثقافية. والامة المارونية كاصطلاح ومعتقد مرتبطة بتاريخ الموارنة منذ نشأتهم، جسّدها مؤرخون موارنة خلال العصور الوسطى وبعض الحديث،  ولا سيما  البطريرك اسطفان الدويهي الذي لم ينظر اليهم كطائفة قائمة بذاتها فحسب، انما كأمة تتمتع بكل المقومات. وتبعا لهذه الرؤية دوّن كل ما يتعلق بهم منذ نشأتهم في القرن الخامس + في وادي العاصي وحتى عصره. وهذه الطائفة الامة المتكاملة الشروط، كما يراها الدويهي، تتوضح معالمها في كتابه “مقدمو جبة بشراي” لأنها خضعت لرئيس ديني اعلى هو البطريرك الذي كان يدير معظم شؤونها ان لم يكن جميعها، ويساعده رئيس  ديني آخر هو ” الشدياق” الذي احتل ادنى درجات الكهنوت، وفي مرحلة ما ارفع المناصب الزمنية بل العسكرية، الى ان تولى القيادة الزمنية المقدمون.  فصارت الطائفة الى حد بعيد تيوقراطية الادارة، لها جيشها الخاص يقوده عدد من المقدمين كانوا يخضعون الى مقدم بشراي. ولم يكن هذا التدبير  مستحدثا انما تزامن مع نشوء البطريركية المارونية، وتمركزها في “كفر حي” لبنان على يد القديس يوحنا مارون اول بطاركة الموارنة، على اثر التهجير القسري الاول الذي اصابهم في وادي العاصي بعد ان قتل منهم حوالى 350 راهبا. ويمكن تسميته الانتشار الماروني الاول.

لم يتقوقع الموارنة اراديا في عزلة عن محيطهم، انما الاعتداءات والاضطهادات المتكررة اوجبت عليهم التحصن في جبل لبنان الشمالي. فمنذ بدايات العصر الاموي وتحديدا على عهد عبد الملك بن مروان اعتصموا في جبالهم المنيعة وشبه استقلوا بها، وحافظوا عليها، واسسوا ما يشبه الامة الدويلة المارونية التي حصّنتها المقدمية ونسجت ابرز خصائصها ومميزاتها.

لن نوغل الآن في الكلام على المحن التي تعرّض لها الموارنة عبر الزمن التاريخي، انما سنكتفي بالاشارة الى ما يرتبط بالانتشار الماروني في العصور الوسطى ونجعله مقدمة للانتشار الواسع الذي تناوله العميد لبكي. ولعل ما  افرزته ثورة المنيطرة 759-760 باسبابها ونتائجها يمكن تسميته التهجير القسري الثاني او الانتشار الماروني الثاني ، فهي تجسد تعبيرا صارخا عن رفض الموارنة المذلة، والتبعية العمياء المقيتة، وأسست لخيفتهم على وجودهم واستمرارهم من طغيان الحكام المركزيين والاقليميين، وعقم سياساتهم واستبدادهم.

 اما التهجير الثالث او الانتشار الماروني البطيء فكان نتيجة سيلسة الممالكي عموما، لا سيما حملاتهم على جبة بشري وعلى كسروان، بما خلّفت من دمار ومآسى، واضطهادات متنوعة يندى لها جبين التاريخ. فهذا العهد قوقعهم في جبالهم في بداياته، وسمح لهم في نهاياته وفي مطلع العهد العثماني الانتشار الارادي لاعادة احياء الاماكن التي فرغتها الحملات المملوكية من سكانها الشيعة والدروز والمسيحيين. فكسروا جدران العزلة التي فرضت عليهم قسرا وتمددوا في رحاب جبال لبنان، وتمازجوا مع العائلات الروحية اللبنانية الاخرى. 

ايها الصدقاء، لست بوارد التأريخ للموارنة بمآسيهم ونجحاتهم، لأنه مسار طويل وشاق. وشاب تاريخ الموارنة ظلام امس لم يبدأ بالتفتح الا في العهد الصليبي من دون ان يزدهر، لأن مؤرخي التاريخ العام العربي والاسلامي اهملوا  في حولياتهم الكلام على احداثهم الا بمقدار ما كانت تتقاطع مع مجريات التاريخ العام، ولم تذكرهم كتب السير والتراجم. وبالتالي صاروا، من هذا المنظار، وكأنهم على هامش التاريخ. وفي الوقت عينه ضاعت معظم مدونات  مؤرخيهم، والقليل الذي نجا منها نظر الى الموارنة كأمة قائمة بذاتها، متجذرة بارضها، تستميت بالدفاع عنها.

وباتت المارونية من هذا المنظار _ منظار المؤرخين الموارنة بعامة-اندماجا بين الارض والشعب والدين، من دون ان تتحول الى ايديولوجية وفق الاصطلاح المستحدث. لهذا اعتنى مؤرخون موارنة بالمدونات التاريخية القليلة التي حصلوا عليها، موزعة بين الكهوف والاديار، ودرسوا محتوياتها مستقرئين ماضى معرفته ضنينة.

ومع تقلب الاحوال تبعا للظروف السياسية، وتطور الافكار واختلاط المشرقي منها بالغربي وبالعكس، باتت المارونية اصطلاحا دينيا سياسيا، تحددت معالمه ورؤآه؛ بتجديد الانسان في انسانيته، والثقة المطلقة  بقدراته على التطور والتكيف تبعا لعاديات الزمن وتقلب الظروف. ولم يكن يوما ايمانها، الراسخ في جذوره، جامدا، بل متطورا  يتماهى مع الفكر الانسانيّ النزعة. واستمر الموارنة ابدا تواقين الى الحرية ينشدونها في كل بقاع الارض، كلما كانوا يحرمون منها في وطنهم الام.

ايها الحضور الكريم، ان كلامي هذا على الموارنة في العصور الوسطىى ليس الا مقدمة تنسجم  مع سياق كتاب “الانتشار الماروني”. لان جوزيف لبكي اكمل هذا المسار، واضاف اليه مدماكا مهما فتتبع اوضاع الموارنة في بلاد الاغتراب لأنهم لبنانيون بالدرجة الاولى، ودوّن تاريخهم الاجتماعي والاقتصادي، والديني، والسياسي. فتحدث عن اسباب الهجرة من لبنان من دون ان يجعلها حكرا عليهم، انما ربطها بهم لأنهم كانوا الاكثر استهدافا من غيرهم في زمن المجاعة والنكبات التركية، فعلى الجبل اللبناني موطن الموارنة تركزت الاساآت التركية الظالمة.

واستمر، على ما يرى جوزيف لبكي، استهداف المسيحيين عموما والموارنة ربما بشكل اخص ابان الحرب اللبنانية 1975-1990، على مختلف المستويات؛ في المؤسسات الدستورية وفي السلطة التنفيذية والادارة العامة. فاضافة الى ذلك، فند اسباب الهجرة تفنيدا فذا. وتحدث عن احوال المسافرين في بؤسهم ومعاناتهم. كما عن كيفية حلولهم في بلاد الاغتراب في القارات كلها. واننا لنجد في طيات هذا السفر الضخم والغني اسماء لدول ومناطق قد لا نكون قد سمعنا بها قبلا، او ادركنا انها دول ذات سيادة او موجودة اصلا على الخارطة العالمية، بحيث تتبع جوزيف لبكي شؤون وشجون اللبنانيين فيها، ما يؤشّر على دقته في البحث والتقميش. ونهج في تأريخه خطة واحدة عممها في كلامه  على كل القارت ودولها، ويطلق على هذا المنهج التأريخ حسب الموضوع. فتتبع احوال المهاجرين الموارنة في حلّهم وترحالهم، في نجاحات بعضهم، وفشل البعض الآخر. وفي تعاضد معظم اللبنانيين لمساعدة من تصيبه نازلة. واجتهد بإبظهار سعيّ معظمهم للمحافظة على التقاليد والعادات اللبنانية، والحنين الدائم الى الوطن الام. وارتباط معظمهم بهويتهم الدينية، فكشف عن الجهود التي بذلوها للحصول على مؤسسات دينية او على الاقل تكوين رعية صغيرة يرأسها كاهن لبناني ترتبط بالبطريركية الام. من دون ان يغفل على الكلام عن اسباب تبديل اسماء بعض الموارنة لتنسجم مع المعايير اللغوية في الدول التي حلوا فيها لاسيما تلك التي تتحدث الاسبانية والبرتغالية، فضاعت اسماؤهم العربية، وبات من الصعوبة بمكان تقصي احوالهم.

 لن اخوض اكثر في تفاصيل كتاب الانتشار الماروني في العالم، فاسحا في المجال امام المحاضرين الاصدقاء الزملاء الكرام، ليتحفونا بما تكون لديهم من آراء تفصّل الكتاب، بهدف اغنائه بالملاحظات الموضوعية، لا سيما انهم اهل اختصاص ومعرفة. وتشي سيرهم الذاتية، بما تضم من مؤلفات قيمة، بقدراتهم العلمية.

قد اكون محابيا ان اوغلت بالكلام على جوزيف لبكي الصديق اولا، ورفيق الدرب ثانيا في قسم التاريخ، وعميد كلية الآداب ثالثا، ومن المغالات الا اقول انه ليس طارئا على البحث  والتأريخ فباعه طويلة جدا في هذا المجال، حسبنا ان نذكر  بعض كتابه ومؤلفاته لمن يجهلها  مثل ” اضواء على المسألة اللبنانية 1908-1914″، “بعبدات بين المارونية والروتستانية واللاتينية” ولا سيما كتابه “متصرفية جبل لبنان”، وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *