الحملات المملوكية على كسروان.

ألقي هذا البحث في المعهد الثقافي الفرنسي في بيروت بتاريخ 22 – 1 – 2014

ان موضوع الحملات المملوكية على كسروان اشبع درسا، ومع هذا يستوقفني في هذه المداخلة ثلاث نقاط نقاط اساسية لا بد من ابراز دورها في هذا الشأن، لأنها باعتقادي تتقاطع مع بعض اسباب الحملات التي درسها المؤرخون، وتضيء على بعضها الآخر، وبالتالي يصبح النقاش أكثر غنى واثارة، والافادة اعم. اما النقاط فهي:

1 – محورية معركة عين جالوت كنقطة تحول في تاريخ المشرق العربي عامة، وفي تدعيم ركائز دولة المماليك. باثبات جدارة المماليك بحكم مصر والشام، وبالعمل على طرد كل القوى الغريبة غير المسلمة، واخضاع كل المناطق العاصية. ومنها كسروان.

2 –  استناد الجيش المملوكي على اجناد الحلقة كعنصر اساسي في بداية عهدهم، وتبيان علاقتهم التنافسية في ما بعد بالمماليك السلطانية، ودورهم في الحملات على كسروان.

3 – فساد المماليك منذ نشأتهم والصراع المستمر في بين كبار الامراء، حتى في احلك الظروف، ودوره في الحملات.

1 – اثبات جدارة المماليك: درس معظم المؤرخين الحملات المملوكية وكأنها عمل منفصل عن الوضع الداخلي عند المماليك. فلم يتطرقوا الى السلوك العدائي لكبار الامراء  بعضهم ضد البعض الآخر. فمنذ قيام دولتهم لم يبالوا بجدية بالمخاطر المحدقة بهم، الا في حالات نادرة. فمنذ  استيلائهم على السلطة في مصر  عام 1250 استمر امراء  البحرية الكبار المعروفون بامراء المائة بالصراع على السلطة، وانقسموا على انفسهم وتحاربوا تكرارا، لأنهم كانوا في العرف المملوكي متساويين تماما في المنزلة، ويعتبرون السلطان اول بين متساويين ليس الا. هذا الامر يفسر قلة مبالاتهم بالخطر الايوبي على دولتهم الفتية. حتى ان بعضم التحق بخدمة ايوبيي بلاد الشام الطامعين بعرش مصر، نكاية بمن بيده السلطة، اما لأنه لم يعطهم اقطاعات تتناسب مع ما يطمحون اليه، او لرفضه الخضوع لسطوتهم  والتناغم مع اهوائهم. ما اضعف منزلتهم عند المسلمين عامة، وسمح للايوبيين مرارا العمل على استرداد عرش مصر السليب. ولكن الخطر المغولي وحدهم آنيا في معركة عين جلوت 1260، من دون ان يزيل الاحقاد والاطماع الدفينة، لأن مصيرهم كان على المحك. ومن العسير نفسير قتل السلطان قطز بطل عين جالوت على يد بيبرس، الذي تبوأ العرش مكانه، الا من هذا المنظار، وهو دليل قاطع على تجذر معظمهم بقلة الوفاء والخيانة.

اراد بيبرس اثبات جدارته، اولا بازالة المؤامرات الداخلية وهو الخبير بها تماما، ومن ثم وتأمين حدود الدولة بازالة ما يمكنه من الخطرين المغولي والصليبي. فجهد يضرب القوى المناوئة في بلاد الشام الداخلية، وعلى اطرافها الشمالية، ويسترد المدن الساحلية من الصليبيين من دون ان يتمكن منها كلها. ونجح قلاوون ومن بعده ابنه الاشرف، بتحرير السواحل من الصليبيين. وبقيت مناطق داخلية حليفة للاعداء عصية على الدولة كان لابد من اخضاعها. وهنا تداخلت اسباب كثيرة في ما بينها حتمت على المماليك اخضاع الكسروانيين، لن اكررها بل سأحاول تبيان تقاطعها مع نقاط هذا البحث الاساسية.

من الواضح ان الشعور الديني والمذهبي بلغ مستويات عالية جدا منذ دخول الصليبيين الى الشرق، وازداد حدة بهجوم المغول على البلاد الاسلامية والقضاء على دولها تباعا كالخوارزمية وسلاجقة الروم، ومن ثم انهاء الخلافة العباسية في بغداد 1258. فبات المسلمون في ضياع ديني ان صح التعبير. وزاد في الامر سوءا استغلال هولاكو الصراع السني الشيعي الذي ظل محتدما في تلك الاوقات الحرجة بل المصيرية، فاتخذ احتياطات امنت سلامة قبر الامام علي بالنجف من التدمير. وتشير بعض المصادر الى مساعدة الشيعة للمغول. ما اجج الصراع المذهبي الاسلامي.

 كانت دولة المماليك الوحيدة التي تمكنت من ايقاف المد المغولي، لذا توجب على سلاطينها الاستعداد للتصدي لهجمات المغول المتوقعة، والعمل ايضا على طرد الصليبيين من سواحل بلاد الشام، وتحصين دولتهم ضد كل الاغراب. ما يعني  الاقتصاص من كل من يساعد اعداء الاسلام او يعتقدون انه سيساعدهم. وباعتقادي انهم كانوا يحاولون حفظ انفسهم من السقوط اكثر من التزامهم الديني، لأن تاريخ المماليك يشي بذلك. وباتوا بنظر  معظم المسلمين حماة الاسلام، ما اوجب على السلاطين مجاراة بعض رجال الدين السنة ممن كانوا يرغبون بتحويل كل السكان على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم الى الدين الحنيف. ويحتل ابن تيمية مركزا متقدما في هذا الاطار، ويليه آخرون لا سيما تقي الدين السبكي،( كتابه الدسائس في الكنائس)، والشيخ خضر بن ابي بكر العدوي وغيرهم… الذين أججوا الصراعين الديني والمذهبي،  ما حتم اخضاع المتمردين في جبل لبنان من الشيعة، والدروز والموارنة، تبعا لهذه المقولة، التي تبناها مؤرخي العصور الوسطى ومعظم المحدثين .

ولكن هل هذه الدوافع وحدها هي التي حدت بالمماليك التصرف بوحيشية قاتلة ضد الكسروانيين ؟!! وبالتالي الى اي حد كانت قوة الكسروانيين فاعلة او قادرة للخروج على السلطة المملوكية واعلان دولتهم  او الامارة المستقلة عن الدولة ان جاز التعبير؟!! وهل كانوا على درجة عالية من الغباء للوقوف بوجه سلطة تمكنت من المغول، واستولت على الكثير من المدن والابراج الصليبية، ام كان موقفهم دفاعيا محضا ؟!

يستوقفني امر في غاية الاهمية: هل عرض المماليك على الكسروانيين الخضوع للسلطة الجديدة والانخراط في الحلقة، والافادة من مميزاتها الاقطاعية؟! ام طلب منهم فقط وفقا للمؤرخين المعاصرين التخلي عن مذهبهم واعتاق الاسلام على المذهب السني، انها اسئلة بل معادلات بحاجة الى نقاش معمق.

هناك سؤال آخر قد يكون اكثر اهمية: لماذا لم تعط المناطق الكسروانية بعد اخضاعها، بالوحشية التي صوّرتها المصادر، والتي افقدت الكسروانيين كل مقدرة قتالية، وكل امكانية للعيش البسيط، الى التنوخيين حلفاء المماليك، وهم اجناد في الحلقة المملوكية؟! ما يدفعني للكلام على النقطة الثانية: اي علاقة اجناد الحلقة بالجيش المملوكي، وبالسلطان والامراء.  

2 – دور اجناد الحلقة: نشأ مفهوم الحلقة، كجيش مرتزق من الاقطاع منذ شيوع انظمة الاقطاع العسكري في المشرق العربي، وتحديدا منذ العصر العباسي الثاني. واخذت ابعادها الحقيقية في العهد السلجوقي من دون ان يسمى افرادها يومئذ اجناد حلقة، على الرغم من التشابه الكبير في المميزات. وفي العهد الايوبي اتضحت تماما الخصائص الرئيسة لاجناد الحلقة الذين شكلوا عصب الجيش.

ضمّت الحلقة في العهد المملوكي ثلاثة انواع رئيسة: الاجناد الاساسيين ممن حق لهم قانونا بالاقطاعات، وكانوا يشكلون في بداية العهد المملوكي عماد الجيش، بل كانوا جند السلطان المختارين (نجوم، 7، 160-161)، ومن ثم شكلوا غالبية الجيش المملوكي، وكان نصيبهم من الاقطاعات اربعة قراريط من اصل اربع وعشرين قيراطا، وهو مقدار وافر جدا يدل على منزلتهم الرفيعة. ويعتبر ابن تغري بردي ان الحلقة  ظلت في مطلع عهد بيبرس جند السلطان المختارين، ولما انتصر على التتار سنة 671ه خلع على مقدمي الحلقة ما يليق بكل واحد منهم. تبدلت بنية الجيش عندما انشأ السلطان قلاوون فرقة المماليك الجراكسة، وصارت نوعين: المماليك السلطانية، واجناد الحلقة. يتوزع المماليك السلطانية الى اربع اقسام: الاجلاب، القرانصة، والسيفية، واولاد الناس. وسكن هؤلاء جميعهم في الطباقات اي الثكنات العسكرية. وتكوّن القرانصة من مماليك السلاطين السابقين اي مماليك بيبرس واولاده، ومن تلاهم من سلاطين توفوا او قتلوا او عزلوا. اما السيفية فكانوا مماليك الامراء السابقين ممن توفوا او عزلوا. وعرف ابناء السلاطين باولاد الناس. وانتسب الى الحلقة ايضا جماعات من الوافدية متعددي الجنسيات او الاعراق: كالخوارزمية، والشهرزورية – نسبة الى مدينة شهر زور – السليمانية اليوم_ الهاربين من وجه هولاكوا. ومغول، تركمان، اتراك واكراد وغير ذلك…وبالتالي لم يعد اجناد الحلقة متجانسين من حيث العرق، والتربية والعادات، وجرى  تنافس شديد في ما بينهم على الاقطاعات والنفوذ والمراتب. كما تنافسوا في ما بعد مع المماليك السلطانية الذين صاروا يتاقضون، اضافة الى  جوامكهم، (رواتب) عينه اي اقطاعات في الحلقة متجاوزين القوانين المرعية الاجراء، التي تجيز لهم الجوامك فقط. ما ادى الى تنازع بين اجناد الحلقة على الاقطاعات.

اما الفريق الثاني من اجناد الحلقة فتشكل عموما من العربان على اطراف الصحراء، والقبائل في ارجاء الدولة، ولا سيما في الثغور،  وكان منهم التنوخيون. ونالوا جميعهم اقطاعات مقابل خدمات يؤدونها، كتأمين طرق البريد، والدفاع عن مناطقهم ضد الغزاة، والخلود الى السكينة، من دون ان يتمتعوا بمناصب ادارية التي احتكرها المماليك والمتعممون. وحرص المماليك على الا يرتقي هؤلاء سلم الامرة الا بدرجات متدنية، وقلما حصل احدهم على امرة اربعين او طبلخاناه.

شكل الوافدية اي القبائل والعناصر التي قدمت الى مصر وبلاد الشام هربا من هولاكو ولاسباب اخرى، ركائز اساسية في اجناد الحلقة في عهدي بيبرس وقلاوون، فاقطعوهما مناطق ساحلية للدفاع عنها. واستأمنت جماعات من مغول القبجاق في ايام بيبرس على دفعات، ومنهم من جاؤا بعيالهم مثل الشهرزورية (ابن واصل، مفرج، ج2، ص 406-407) Poliak, Le caractere colonial de l’etat mamlook, R.E.I, 1953m, cahier III. P. 233 ( وأثرت عادات وتقاليد الوافدية لاسيما المغول والتتر في الانظمة المملوكية العسكرية والاقطاعية، لدرجة صار التقاضي المرتبط بالاقطاعية يخضع لليسق المغولي وليس للشرع الاسلامي. Poliak. Some notes on the feudal system of the mamlouks, L.R.A.S. 1937, p 97 ا

اما الفريق الثالث (لا يعنينا في هذه الدراسة ) فتشكل من المتعممين وبعض المدنيين ممن اشتروا حقوق بعض اجناد الخلقة.

وتجدر الاشارة هنا الى انه بعد ان تفسّخت الامبراطورية المغولية نشأت دولة الإلخانيات في بلاد فارس واعتنق حكامها الاسلام على المذهب الشيعي الاثني عشري، ما دفعهم لاختيار احد امرين: الخضوع او التبعية الدينية الاسمية لسلطة المماليك الباسطين سلطانهم على الاماكن الاسلامية المقدسة او انتزاع تلك الاماكن منهم، ما يحتم عليهم انتصارا كبيرا على المماليك. وهذا الامر يفسّر انتهاز لخان الكبير غازان سنة 1299 فرصة اختلال الاوضاع المملوكية الداخلية بعيْد وفاة السلطان الاشرف خليل، للهجوم على حلب وحماه وتدميرهما، والانتصار على الجيش المملوكي المفتقر الى قيادة حقيقية في معركة وادي الخازندار قرب حماه، وتشتيت من نجا منهم بكل اتجاه. فاختار بعضهم الهروب عبر الساحل اللبناني حيث كمن لهم الكسروانيون عند وادي نهر الكلب فقتلوا عددا منهم امراء وجنود، وقبضوا على آخرين وباعوهم من الافرنج ما استدعى غضب المماليك، وكان  ذلك خطأ فادحا لن يغفره المماليك ابدا .

وزاد في الطين بلّة زحف غازان على دمشق واستباحها بمساعدة بعض الشيعة والدروز ممن تركوا بصمات شنيعة بخاصة في جبل قاسيون، وحفظت تلك الاعمال المصادر المعاصرة للحدث وجعلت منها مبررا للحملات المملوكية على كسروان، ولتصنيف سكانه بالمارقين والخارجين على السلطة، فهدروا دماءهم تبعا لفتوى ابن تيمية ما جعل قتالهم واجبا دينيا حسب ما تورده الحوليات. ما يدفعني للتساؤل:هل خضع المماليك الى فتاوى ابن تيمية وتأثروا به، وبالتالي كم كانت منزلته رفيعة عند السلاطين وعند نظرائه من عالماء عصره؟! ونحن نعلم انهم جهدوا للحط من قدره، وألّبوا السلطة المملوكية عليه، فتعرض في اواخر حياته للضرب، والسجن والاهانات المتنوعة، ومات مسجونا بقلعة دمشق.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل تصرف الكسروانيون تجاه المماليك بداعي العداء المطلق او بقصد الربح المادي؟ وهي عادة كانت متبعة في كل ارجاء المشرق العربي، بل في العالم القديم كله. اي الافادة المادية من الجيوش المنهزمة. بخاصة ان المماليك ما كانوا بعد قد بسطوا سيطرتهم على كسروان؟! وما كان سكانه  من رعاياهم.

ويتجلّى الصراع على زعامة العالم الاسلامي بصورة افضل بحملة غازان الجديدة على بلاد المماليك عام 1302 حيث انهزم في فلسطين في معركة مرج الصفر. فصار الكسروانيون متهمين بامرين لا تهاون بهما عند الأئمة السنة المتطرفين وعند المماليك السنة ايضا المحتاجين لتأييد اولئك الأئمة على حد زعم البعض: التعاون مع الصليبيين قبل جلائهم عن الشرق وبعده، ومع المغول عدويّ المماليك، وبالتالي صار تأديبهم واجبا شرعيا حسب مؤرخي العصور الوسطى ومعظم المحدثين، من النظر الى القضية من الناحية الاستراتيجية العامة للدولة.

على هذا لا بد من السؤال: هل فعلا كان المماليك بحاجة الى فتاوى شرعية لقتال الكسروانيين، ام ان الفتاوى الدينية المتشددة تقاطعت مع استرتيجيتهم العامة القاضية بالسيطرة على كل المناطق في بلاد الشام لاحكام السيطرة التامة عليها، لتمنع اولا تسهيل عودة الصلبيين الى السواحل او غزوها على الاقل، ولتأمين الخطوط التجارية بين المناطق المملوكية كلها، لا سيما ان مرافئ بلاد الشام كانت مشهورة بمواقعها البالغة الاهمية.

وفي الاطار عينه الى اي مدى كان المماليك متقيدين بالموجبات الدينية، اي بالشرع الاسلامي؟ وسير معظم سلاطينهم وكبار امرائهم تشي بالخروج على التقاليد والتعاليم الاسلامية، حتى في بعض الامور الدينية البديهية. اما السؤال الابرز الذي يحضرني، وقد اهمله المؤرخون: هل كان الكسروانيون اشد خطرا من الاسماعيلية على المماليك؟! فاذا كان الدور المذهبي يحتل اولوية عند المماليك، لماذا لم يطلب بيبرس من الاسماعيلية التخلي عن مذهبهم قبل قتالهم، ام ان الاستتراتيجية المملوكية كانت تقضي اخضاع كل من شكل حطرا على الدولة الفتية؟   

3 – فساد المماليك: منذ قيام الدولة المملوكية رافقها صراع شبه دائم بين كبار الامراء على السلطة، وهذا امر ادركه بيبرس الخبير الابرز بعقلية المماليك وتطلعاتهم لأنه كان رائدا فيه. لكي يتمكن من الحكم، كان عليه التصدي للمماليك المعزية – نسبة الى المعز قطز- وغيرهم بمن فيهم خشدادشيته من البحرية. فعمد  الى استقدام اعداد كبيرة من الارقاء القبجاق وجعلهم مماليكه الخاصكية، وصار يعتمد عليهم في معظم مهامه خوفا من غدر البحرية. فتحول الجيش عدة اقسام: المماليك السلطانية الجدد، والبحرية، والمعزية، واجناد الحلقة بمن فيهم الوافدية على تنوع اجناسها.

ولما اغتصب قلاوون العرش من سلامش ابن بيبرس سنة 1279 ناصبه المماليك الظاهرية (نسبة الى الظاهر بيبرس) العداء. فاسس سنة 1281 فرقة المماليك الجراكسة واسكنها ابراج القلعة وجعلها مميزة عن بقية الجيش، فاخلصت له. وسار ابنه الاشرف خليل على خطاه حتى بلغت اعداد البرجية في نهاية عهده 5700 مملوك. ما ادى الى انقسام الجيش عنصريا الى قسمين: الاتراك بزعامة بيدرا، والبرجية الجراكسة بزعامة السلطان.ولاحت علامات الغدر في اكثر من مناسبة، واجتهد كل معسكر للانقضاد على الآخر، وبات الاشرف خليل هدفا للاتراك، حتى تمكن بيدرا من قتله غدرا سنة 1293.

لماذا قتل الاشرف خليل، ألأنه حقق انجازا هائلا عجز عنه حكام عظماء كصلاح الدين الايوبي وبيبرس الاول، وقلاوون؟ بأعتقادي قتل لاسباب اخرى اقل اهمية بكثير من ذلك، تمثل بتعلقه الكبير بالمماليك البرجية، وخروجه على التقاليد المتبعة راضاء لهم: اذ سمح لهم بالنزول من القلعة الى القاهرة نهارا على ان يبيتوا في الطباقات ليلا، ورقاهم الى سلاحدارية، وجمدارية، واوشاقية، وجاشنكيرية. اي انه استمالهم اليه محققا لهم اهدافا لا يمكن لمن يأتي بعده استرجاعها منهم الا بالقتل او العزل، وكان للامرين محاذير خطيرة. فتعلقوا به وتفانوا بالمحافظة عليه وصونه من الاعداء، ما ادى الى نقمة الامراء الكبار ممن شكلوا جهازه الاداري والعسكري، لأنهم كانوا شبه مقتنعين ان السلطان سيتخلص منهم تباعا كلما سنحت له الظروف، ليحل مكانهم مماليكه. وهكذا انقسم الجيش والجهاز الاداري بين البرجية والاتراك. ولما قتل الاشرف حليل غدرا غدت البرجية بدون  قيادية حقيقية وهدف، وثارت على  كل من يعترض طريقها، ودأبت تسعى للنيل من قاتل استاذها. ما حتم اعطاء العرش للناصر محمد بن قلاوون وهو بعد طفل، ولم تهدأ البرجية نسبيا الا بعد ان قتلت بيدرا. ولكن الانقسام بين البرجية والاتراك استمر واستغله كبار الامراء، وتزاحموا على الرئاسة، فتوالى على العرش في هذه الفترة العصيبة والوجيزة 1293 – 1308 خمسة سلاطين: محمد بن قلاوون، كتبغا، لاجين،محمد بن قلاوون للمرة الثانية، وبيبرس الجاشنكير.

تلازم الصراع على العرش مع تنافس الامراء على الاقطاعات والمراكز الاسياسية في الادارة، التي شكلت سببا وجيها في الولاء للسلطان او لمنافسه. ما يعني ان الولاء خلا من اي بعد انساني، والشعور بالمسؤولية، ولا بخطر المغول المحدق دائما بهم. وليس ادل على نفسية واخلاق المماليك سوى تحذير السلطان ايبك للامير عمر مغيث الايوبي منهم قائلا:” البحرية قوم مناحيس اطراف – الطرف هو الرجل الذي لا يثبت على صحبة احد- لا يقفون عند الايمان، ولا يرجعون الى كلام من هو اكبر منهم، وان استأمنتهم خانوا، وان وثقت بهم غدروا…فانهم غدارون مكارون خوانون…” فصار ابعاد المنافسين او قتلهم هدفا رئيسا عند معظم السلاطين.

على هذا، فان استعراضا بسيطا لامراء حملة 1292 نجد من ان قائدها الامير بيدرا قاتل الاشرف خليل، ويخطئ ابن كثير ويسميه بندار، والامير سنقر الاشقر الذي لا تخلو مؤامرة من اشتراكه بها، وغيرهما من كبار الامراء المنافسين ليس للاشرف خليل، بل ايضا بعضهم للبعض الآخر. ويقول ابن كثير: وخرج الشيخ ابن تيمية ومعه كثير من المتطوعة والحوارنة، وهم في حقيقة الامر اجناد في حلقة دمشق. اما في حملة 1300 حسب رواية المقريزي فقد شارك فيها نواب البلاد الشامية باجنادهم وهم من اجناد الحلقة، وشارك فيها سنقر الاشقر ايضا.

يمكن اضافة الى اسباب حملات 1292 و1300، 1305  التي تناولها معظم مؤرخي المماليك والمؤرخون المحدثون، سببين اضافيين: ابعاد بعض الامراء ممن كانوا يشكلون خطرا على السلاطين اما بسبب زعامتهم على فريق من المماليك، لأنهم قد يقتلون في المعارك، وستخلو الساحة بغيابهم من المؤامرات لفترة تتيح للسلطان التقاط انفاسه. وفي هذا السياق يمكن تفسير  قيادة بيدرا حملة 1292. اذ على الرغم من كثرة المماليك واهمية القائد نائب السلطان من حيث المنزلة الادارية وزعامته للاجناد الاتراك، وانهزامه شر هزيمة، واتهامه بالخيانة والرشوة وقلة الدربة، لم يتمكن الاشرف خليل من عزله او انه لم يجرؤ، على الرغم من الاسباب الموجبة لذلك، ومع قناعته انه كان رأس المتآمرين عليه، مخافة ثورة المماليك الاتراك. وعوضا عن ذلك حاول متأخرا استرضاءه، وارسل له مائة ألف دينار.

ام السبب الثاني فكان استخدام القسم الاكبر من اجناد الحلقة في تلك الحملة، لأنهم باتوا يشكلون عامل عدم ارتياح في القاهرة على الاقل، لاسيما بعد ان منح السلاطين مماليكهم اقطاعات على حساب الحلقة في الروك الحسامي 1298. وفي الوقت عينه كانوا يشكلون قوة هائلة في النيابات الشامية كانت قادرة على تغليب فريق على آخر. هذا فضلا عن ان كثرة تغيير السلاطين وانتساب مماليك سلطانية الى كل منهم، سبب ازعاجا كبير للسلاطين الجدد، ولاجناد الحلقة بالذات. بحيث كان يتوجب على كل سلطان جديد الاعتماد على قسم من مماليك السلطان السابق، واحيانا على مماليك السلطان الاسبق، ويطلق على هؤلاء اسم القرانصة، وكانوا يقّضون مضجع السلطان القائم بطلباتهم غير المنقطعة وسوء تصرفهم، وهو كان بامس الحاجة اليهم ريثما يكبر مماليكه الخاصكية، فيحيل القسم الاكبر منهم الى اجناد في الحلقة. وكان القسم الاخر من مماليك السلاطين السابقين يحولهم السلطان القائم مباشرة الى اجناد في الحلقة بعد وفاة او عزل اساتذتهم. ولكثرة ما ضمت الحلقة من اجناد متعددي الولاآت، لم يعد تضامنها مكفولا، وصارت مصدر ازعاج، شأنها يضعف تدريجا، حتى شبه انهارت في مطلع القرن الخامس عشر.

لآهمية العامل الاقتصادي في حياة المماليك لاسيما الامراء عدل السلطان لاجين 1298 انصبة الاقطاع لكامل مستحقيها بالروك المعروف باسمه (الروك الحسامي) فكان نصيب اجناد الحلقة قبل الروك وافرا: اربعة قراريط، وكان يحق لهم توريث اقطاعاتهم لابنائهم لكي تستمر الحلقة قوية ولا تتناقص اعدادها. ولما ازدادت اعداد الحلقة بالوافدية وبالقرانصة واولاد الناس والسيفية، بات من الضروري منع التوريث لتظل الانصبة الاقطاعية مقبولة وتمكن صاحبها من العيش. وكان من دواعي الروك الحسامي ايضا حصول بعض كبار الامراء على اقطاعات تفوق بكثير ما كان يحق لهم اما بسب توددهم الى السلاطين، او ان هؤلاء استمالوهم املا بالا يتآمرون عليهم. انما اثبتت الاحداث انه كلما كانت تزداد الامكانات المادية للامير يصبح اشد خطرا، وكان بعضهم يوظف امواله باستجلاب الامراء والاجناد، للوثوب على العرش، او دفع احد الامراء الضعاف اليه فيحكم من خلاله. وبموجب هذا الروك ضمت اقطاعات  اجناد الحلقة الى الامراء واجنادهم من السيفية عشرة قراريط فقلت كثيرا. وبلغت حصة المماليك السلطانية وحدهم عشرة قراريط، وتنعم السلطان باربعة قراريط كاملة، واحتفظ السلطان بقيراط للحالات الطارئة او الخاصة. ما يعني ان الاستغناء عن اجناد الحلقة بات هدفا، وكذلك تعزيز شأن المماليك السلطانية.

احتل الدور الاقتصادي دورا بالغ الاهمية في تفشي الفساد في العهد المملوكي لا سيما في الفترة التي تلت عهد السلطان قلاوون، وصار ولاء كبار الامراء للمال أكثر مما هو لخدمة السلطان ومنعة الدولة. لذلك جهد السلاطين للتخلص من امراء المائة الطامحين الى العرش، والذين كانوا يهددون استقرار البلاد، اما بالقتل او بارسالهم في حملات عسكرية خارج القاهرة ودمشق المركزين الاساسيين للتآمر. وينطبق هذا الامر على الامير بيدرا وكبار معاونيه في حملة 1292 على كسروان. وقل الامر عينه عن حملة 1300 التي قادها آقوش الافرم، وساعده سنقر الاشقر احد اهم طابخي المؤامرات. لاسيما ان السلطة المملوكية كانت في الفترة الممتدة ما بين 1293 و1309 في حالة فوضى سياسية عارمة وصراع عسكري مخيف. فكان ابعاد الامراء والاجناد المعادين للسلطان في حملات خارجية يريحه نسبيا.

اما حملة 1305، وان تقاطعت اسبابها مع الحملتين السابقتين، فان سببا رئيسا يبدو لي شديد الاهمية تمثل بهيبة الدولة واستراتجيتها العامة، القاضية بقطع دابر المخلين بالامن، وفرض هيبة الدولة. لا سيما بعد معركة مرج الصفر سنة 1302. التي تجرأ فيها المغول وتوغلوا في عمق الدولة الى فلسطين.

اخيرا، يستوقفني في تاريخ صالح بن يحي ملاحظات اساسية تجعل السبب الديني والمذهبي يأتي في المرتبة الثانية على الاقل؛ كان التدمير الذي لحق بالكسروانيين وبممتلكاتهم رهيبا، ومع ذلك تم استخدام بعضهم في حلقة طرابلس، اي انهم صاروا اجناد في حلقتها. واعطي فريق آخر وظائف مدنية في طرابلس ايضا. ولا ندري ماذا يقصد ابن يحي بالمدنية، لأن الوظائف المدنية كانت من حق المتعممين وحدهم. فهل هذا يعني ان من لجأ الى طرابلس بدّل مذهبه وخضع تماما للسلطة المملوكية جريا وراء المكاسب، وانتهك الولاء المذهبي والمناطقي؟!!

على هذا، ألم يكن اجدر بالمماليك اغراء الكسروانيين بوظائف في حلقة طرابلس اي حماية الخط الساحلي الممتد من المعملتين حتى مغارة الاسد الذي اعطي سنة 1305 الى الامير علاء الدين بن معتب البعلبكي ووابن صبح، ثم استرد منهما واعطي العسافيين التركمان الاغراب. علما ان دورهم اقتصر على الامن فقط، وتأمين الخط الساحلي من هجمات الاعداء. في حين ان الادارة على كل مستوياتها كانت حكرا على المماليك وحدهم، وساعدهم في الوظائف الديوانية غير العسكرية المتعممون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *