العوامل البعيدة لصراع الطوائف في لبنان

عند الفتح العربي الاسلامي هاجر قسم من السكان اللبنانيين، وكانوا مسيحين، مع البيزنطيين والقسم الآخر لجأ الى الجبال معتصما بها. ويزعم بعض المؤرخين، لدوافع ايديولوجية او دينية اسلامية، ان لبنان كان خاليا من السكان. انها نظرية ساقطة. ومن الواضح ان هوية الجبل السكانية السياسية تحددت: باستقرار المردة – الجراجمة في الجبل بعد تفاهمهم مع الامويين، ومن ثم قيام المقدمية المارونية الذراع الاداري والعسكري للموارنة في ظل البطريركية. وبقيام الامارة التنوخية في منطقة الغرب الخاضعة مباشرة لسلطة الخلافة العباسية والمنفذة تعليماتها، وخضعت فيما بعد للسلطات العسكرية التي صادرت صلاحيات الخلفاء السياسية والعسكرية. وباستقرار جماعات من الشيعة في جبل عامل. وحدث تحوّل في اتنية السكان وفي طوائفهم ومذاهبهم في المدن خلال العهدين الفاطمي والصليبي. واحدث العهد المملوكي، نتيجة الحملات العسكرية على لبنان ولا سيما بعد سنة 1305، تبدلا ديموغرافيا عميقا باسكان قبائل كردية وتركمانية على امتداد الساحل من انطلياس وصولا الى مغارة الاسد في معاملة طرابلس، وبافراغ السفوح الجبلية من السكان الشيعة والدروز، ناهيك بقدوم قبائل عربية جديدة الى لبنان كالشهابيين والمعنيين…وتحويل سكان المدن الساحلية في العهدين  المملوكي والعثماني الى اغلبية سنية.

ان التركيب السكاني المذكور بتعدد الطوائف والمذاهب استمر موضوع خلاف بين الطوائف على مستويين سوسيولوجي واقتصادي، وهما بلا شك مرتبطين عضويا. وكان اي تحوّل في هذا البنيان سيشكل عامل صراع، يهز بنيان الجبل. لأن الحكم الذاتي كان سمة المجموعات الطائفية اللبنانية، وشكل عوامل قسمة بين اللبنانيين. ومن المفيد التوضيح ان المسيحيين في لبنان لا سيما الموارنة كانوا دائمي القلق على مصيرهم، ويخشون باستمرا ابناء وطنهم من الطوائف الاخرى الذين كانوا شبه مرتبطين بالقوى السياسية المهيمنة على الحكم خىلال العصور العباسية، بخاصة الفاطميين الذين كانوا دائمي الصراع مع القوى السنية لا سيما السلاجقة. وصاروا اشد ارتباطا بهم في عهود الصليبيين والسلاجقة والايوبيين، وعلى الاخص في العهد المملوكي حيث تم فيه اضطهاد المسيحيين. وحدثت معارك بين الفرقاء جميعهم.

ادت هذه العوامل الى احقاد بين الافرقاء اللبنانيين لاسيما بين التنوخيين والموارنة على اثر المعارك التي حدثت بين الفريقين. ولعب الوجود الصليبي دورا في اذكاء الخلاف بين المسيحيين، الذين لم يفيدوا من وجودهم الا جزئيا، والمسلمين الذين اعتبروا المسيحيين حلفاء طبيعيين للصليبيين، من دون ان يأحذوا بالاعتبار الصراع الماروني الصليبي، الذي اندلع بسبب التدخل الصليبي في الشؤون المارونية الداخلية.

ساهم عهد الامير فخر الدين الثاني، ومن ثم عهود الامراء الشهابيين بتطوّر ديموغرافي اساسي لصالح المسيحيين الذين تسربوا تدريجا نحو المناطق التي خلت بسبب الحملات المملوكية، كما بانتقالهم الى المناطق الدرزية مشكلين ايدي عاملة. ومن ثم تطوّرت ملكياتهم عن طريق عقود الشراكة، وبفضل انتشار الاديار برعاية من الامراء الشهابيين، التي ازدادت املاكها تدريجا وازداد معها بشكل ملحوظ عدد السكان المسيحيين. وطرح هذا المتطور، غير المنتظر مفهوم السلطة في الاجتماع السياسي التعاقدي بين الدروز والمسيحيين، ودفع الى ضرورة تعديل التراتب بينهما في الاجتماع السياسي، وشكّل عاملا اساسيا في اعتناق بعض الامراء من اللمعيين والشهابيين المسيحية.

حاول الامير بشير الثاني اقامة توازن بين المكونات الاجتماعية وفق رؤية جديدة توازن بين الطوائف وتضعف المقاطعجية. ولتحقيق هذه السياسة، ومنعا لأي انحياز لأي فريق داخلي، تبنى الامير بشير الشرع الاسلامي المدني وطبّقه على كل الرعايا مسيحيين ودروزا. لأن القضاء كان قبل ذلك من اختصاص المقاطعجية، فمن اجل اضعافهم وبسط سلطته كاملة على ارجاء البلاد عمد الامير الى اختيار قضاة من كل الطوائف درسوا الشرع الاسلامي، وصاروا يطبقونه في كل المعاملات المدنية. ولم يحدد لهم اماكن اقامة ثابتة للقيام بمهامهم بل كانوا يتجوّلون في ارجاء الجبل يفضّون المنازعات. ونذكر من القضاة المسيحيين البارزين: حنا حبيب مؤسس جمعية المرسلين، ويوسف اسطفان قبل ان يصبح مطرانا.

وامعن الامير باضعاف المقاطعجية الذين كان الامن من اختصاصهم فكانوا يسجنون، ويسوطون، ويلاحقون المخلين به. فجند جيشا محترفا من دون ان يكون افراده من رجاله، جعله يرابط في الثكنات ويتلقى اوامره مباشرة منه، ولم يكن للأعيان علاقة به،  وصار ينفذ اوامر السلطة في مختلف المجالات: فنفّذ احكام القضاة، وجبى الضرائب…الامر الذي اضعف المقاطعجية فلاذ كل فريق منهم بطائفته واستغلها ضد الفريق الآخر ما أجج الضغائن والاحقاد التي ستنفجر عند بروز اية فرصة.

 وزادت المسألة الشرقية، االمتمثلة باطماع الدول الاوروبية الكبرى في المشرق العربي وبالسلطنة العثمانية خصوصا، بازدياد الشحن الطائفي لأنها كانت تتحيّن الفرص لتذر قرنها في الصراعات الداخلية وتوظفها لصالحها. وهي التي فرضت على السلطنة العثمانية اصلاحات خطيْ شريف كلخاناه وهمايون 1856 و1839 بحيث ساوى السلطان العثماني بين المسييحن والمسلمين في الحقوق والواجبات. وهو امر رفضه المسلمون وشكل صدمة عنيفة لهم.

من الواضح تماما ان احتلال ابراهيم باشا بلاد الشام بالتحالف مع الامير بشير الثاني، وتدخله في الشؤون الداخلية اللبنانية كفرض التجنيد الالزامي، وجمع السلاح من اللبنانيين، ومساواته في الخدمة العسكرية بين كل الطوائف خلافا للشرع الاسلامي والعرف السائد، ومعاداة الدروز له بسبب مخالفته لتقاليدهم وعاداتهم، وانحياز الامير الى جانب المسيحيين، ومحاربته الدروز بجيش من المسيحيين. ان كل ذلك اشعل نار الحقد بين فريقي الاجتماع السياسي في الجبل، وزاد في الانقسام العمودي بينهما الذي كان بدأ يتأسس نتيجة التطور الديمغرافي والعقاري.

ارسى حكم الامير بشير الثاني،الذي عزل عام 1840، انقلابا اساسيا في الجبل لصالح المسيحيين على مستويين ديمغرافي وعقاري اقتصادي، مما كان يعني ان العقد السياسي والاجتماعي القديم ما عاد ممكنا استمراره، وبالتالي لا بد من اعتماد صيغة جديدة يرضى بها الدروز والمسيحيون. وكانت المنطقة حبلى بالكثير من التعقيدات التي تداخلت فيها مصالح الدول الكبرى، حتى بات الجبل اللبناني جزءا اساسيا من المسألة الشرقية، وما عاد ممكنا حل قضاياه بمعزل عن تطوّر الاحداث المتسارعة في الشرق العربي.

لم يؤد اعتماد نظام القائمقاميتين الى رأب الصدع الداخلي انما زاده تعقيدا، ولم ينه المجازر بين المسيحيين والدروز بل ازدادت حدة بتدخل الجيش العثماني فيها لصالح الدروز. ولم يرتح الجبل ويزدهر الا بعد اعتماد نظام المتصرفية. انما تأزم الوضع مجددا بين المسلمين والمسيحيين بانشاء الفرنسيين دولة لبنان الكبير بضغط من المسيحيين، لأن المسلمين عامة لاسيما سكان المدن الساحلية وابناء الاقضية الاربعة رفضوا الانضمام اليه، وطالببوا الانضمام الى الدولة الاسلامية برئاسة الامير فيصل. ونظموا مؤتمرات الساحل الداعية الى انفصالهم عن لبنان.

هذه هي الاسباب البعيدة للصراع الطائفي في لبنان، والتي لم تندمل بعد فالفرقاء المسلمون ما يزالون حتى اليوم يتطلعون الى العالم الاسلامي الواسع وهم يعتبرون الحدود السياسية مصطنعة وضعها المستعمرون لاضعاف المسلمين، ويرتبطون ببعض دوله، وينفذون مصالحها.

انها مسألة تخلف في الاجتماع السياسي بين كل الافرقاء اللبنانيين نأمل ان نصل يوما الى تخطيها ونبني وطنا علمانيا صرفا يكون فيه الوطن للجميع وعبادة الله بالطريقة التي يشتهيها كل فرد ويؤمن بها.

                           الدكتور انطوان ضومط استاذ سابق في الجامعة اللبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *