تكريم نعيم ضومط

في اطار المهرجان اللبناني للكتاب نكرم اليوم النحات نعيم ضومط

ايها الحضور الكريم

منصات كثيرة اعتليت، من دون ان يرهبَني موقف، او تجنح بي العواطف، اما اليوم فآمل الا يكون الوضع مختلفا، فمن نكرمه تربطني به قرابةٌ، وجيرةٌ، وطفولةٌ، وشبابٌ، ورفقةُ عمر. وبالتالي تحدوني استعادات من الماضي، تتقاطع فيها عواطف تحمل من الاخوة الشيئَ الكثير، ومن الزمالة ورفقة الدرب محطاتٍ وتعرجاتٍ، واحلاما طفولية، وشغفَ شباب بالمغامرة.

  في قرية شوفية وادعة تعانقها تلال خجولة، وتزينها كروم متنوعة، وتوشّحها بساتين زيتون تشهد على تجذرها ايكاتٌ احد لا يعرف سنييَ عمرها. ويغازلها البحرُ المنساب بعيدا فتخالَ الافقَ سرابا. في المغيرية ولد نعيم حبيب ضومط في 14 أب 1941، في بيت متواضع. هو اوسط اخويه واختيه، اعالهم والد بنّاء (معلم عمار)، كانت ترفده ارض زراعية ببعض المساعدة. انهى المرحلة الابتدائية في مدرستها، التي لم تعدُ غرفتين متلاصقتين، توزَعها مدرسون ثلاثة: وديع العكاوي، عبد الحفيظ سعد، وعلي حسن سعد، شابهت في بعض مداليلها مدرسةَ تحت السنديانة. وتضمنت مقررات التدريس، او هكذا شاء مدرسوها، ان يحفظ الطلاب المسلمون آيات قرآنيةً عن ظهر قلب، ودفعت سرعة نعيم بحفظها، من دون ان يكون ملزما بذلك، الاستاذ عبد الحفيظ الايعاز اليه مساعدة تلامذة مسلمين كانوا يتعثرون بحفظها. فكان ذلك دلالةً على ذاكرة امينة ويقظة، اثر عنه ايضا سرعةَ البديهة، وتوقدَ الذهن، وحسن الادراك. في عام 1955 حاز الشهادة الابتدائية، فكوفئ بساعة يد، ضاهت منزلتهتا انذاك جائزة كبرى. ولاستكمال دراسته انتقل الى صيدا، التي لم يمكث فيها الا سنة واحدة، لتنتهي مرحلة اولى من مسيرته المدرسية.

ايها الاصدقاء، استعيد زمنا غبر، فاذا السنون تتراكم مسرعة العد، ولا تتثاقل خطاها رأفة بالعمر المتقدم، او تماشيا معه. واذ احنّ اليه، آملا استعادة مشاهدَ عبرت، يعصو عليّ منها ما سجنته صناديق النسيان باحكام، وافتنّ بما حفر في حنايا الذاكرة مطارح استكان فيها، خاشعا لوفائه، فهو مؤنسي كلما عبر الحنين الى خبايا الماضي. ذاك الماضي العذب بمجمله، المخدوش رونقه بوخزات مرارة، ومنه استوحي في هذه العجالة بعضا مما عايشته مع نعيم. اعود بالزمن الى نيف وستة عقود حينما كنا اولادا، نتوق الى اللعب، ويظلل الطيش ما اتيح له في مجال رغباتنا واهوائنا. في ذاك الزمن الغابر حُجزنا اخي وانا في كرم نحرسه، كرم ناء عن القرية يشرف على واد يحتضن فيى حناياه نهرا تجّف مياهه منذ اواسط الربيع فسمي ” بو اليابس”. كنا ندرس، نلعب، نصرخ، ونتشاجر، ولا من مؤنس سوى صدى الوادي، واصواتِ الرعيان، واحيانا بعض احاديثِ ومشاحناتِ مالكي الكروم المجاورة. كانت نهارات الصيف الطويلة تنال من صبرنا، وتضعف عزائمنا نحن الصغيرين. نعيم وحده، من نكرمه اليوم، كان يكسر تلك الرتابة، ويعيدنا الى عالم الاولاد الموشّح بالفرح، والمحمول ببرأة اللهو. كان احيانا يحمل الينا الطعام، ويلعب معنا، وغالبا يقصدنا لنلهو فقط. به كنا نستعين لصناعة الالعاب لافتقارنا اليها جاهزة، بعجن التراب بالماء وصنع ما تيسر من حيوانات ومعدات زراعية استعرناها من المحيط القروي. كان انتاجه غايةً بالدقة والجمال والتناسق، وما كنا ندري من اين يستمد تلك المهارة، ولماذا نحن نعجز عن مجاراته؟! فحماره يكاد ينهق، وبقرته تخور…!؟ ما أشّر على براعته في النحت. وقد يجهل بعضنا  ان صب البرونز يبدأ بعجن الطين، الذي يُشكَّل (يعطى شكلا) ويصنع له قالبا، واخيرا يصب البرونز. اما براعته بنحت الخشب، المتميز به اليوم، فبدأت بصناعة النقيفة، التي تميزت بدقة قوصها وتناسقِه، وتوازنِه، ونعومةِ ملمسه، وجماله. كان بارعا بالرماية بها، فقلما تفوّق عليه اخواه واترابُه ممن كانوا يصطادون بالبندقية، فغلته كانت اجمالا الاغنى. ان نعيما الذي اعرفه ذكي، خلّاق، دائم الحركة، ينزع بطبعه الى الابداع، ثاقب النظر، دقيق جدا في مواعيده وإلتزاماته، ماهر في الالعاب اليدوية  لا سيما التي تتطلب اتقانا.

 كنا اخي وانا ننتظر منقذنا من الفراغ القاتل بصبر نافذ، اللاعب الاضافي غير العادي المبدع افكارا واساليب، الثائرَ على الرتابة، والنازعَ ابدا الى ابعادنا عن هم حراسة الكرم، باستيلاد الجديد من الالعاب وطرق اللهو. سأكتفي بذكر حادثة واحدة فقط: ذات يوم قررنا طرد الذنابير(الدبابير) من عش ابتنته قريبا من عرزالنا، الذي كان مأوانا ومرتَعنا، ومظللَنا بفيئه، لأنها كانت مصدر ازعاج، وتهدد سلامتنا باستمرار، ومدفوعين بحب المغامرة. فطاردناها نحن الثلاثة متسلحين بشلوح من الوزال، من دون ان نفلح بالانتصار التام، وعلى الرغم من الخوف من لسعاتها، كنا نركض، ونصرخ، ونغني والسعادة تغمرنا. لم يكن نعيم يوما متسرعا، بل متبصرا بالامور، متبحرا بها، يخطط، ثم ينفذ. فبعد ايام عدة من الكر والفر مع الذنابير، اطل علينا من بعيد مسرعا، صائحا وجدت الحل. فقد لفّ باحكام قطعة قماش قديمة على عود غليظ نسبيا، واصطاد بحجر من نقيفته الدبور حارس المدخل، ثم اقفلنا منفذها الوحيد. وهكذا انتصرنا مؤقتا لأن الزنابير افلحت بفتح مخرجٍ آخر.

ايها الحضور الكريم انها بعض من ذكريات طفولة من نكرّم، قد تبدو اخبارا عاديةً في الشكل، مسليةً، يكتنفها فرح الاولاد الثائرين الغاضبين، التواقين الى الافضل والانسب وفق معاييرهم. انما مضمونها يختزن ملامحَ من شخصيته؛ الحنكةَ، والشجاعةَ، دقةَ الصنع وتناسقَه، الابتكارَ والذكاَء، الوفاء، والتواضع. وأشَّرت جميعُها على موهبة دفينة تختلج في اعماقه، وتنتظر من  يوقظها.

يا اصدقاء نعيم، رب صدفة خير من ميعاد، او ضارة نافعة. احدث زلزال 1956، دمارا كبيرا لا سيما في قضاء الشوف وجواره. واعتقد اهلُنا ان المدارس في صيدا لن تتمكن من فتح ابوابهِا لما اصاب بعضَها من تصدع، فانتقلنا نحن الثلاثة وآخرون من قريتنا الى مدرسة الدامور الرسمية التي لم تصب باذى. ومن حسن حظ نعيم كانت الغرفة التي سكنّاها تجاور بيت الرسام المبدع ميشال عقل المقعد، فتعرفنا به عن طريق ابني اخيه شديد وايلي، من كنا نلعب معهما. وكأن نعيما وجد ضالته فصار يقصده باستمرار، مستوضحا امورا تتعلق بتقنيات الرسم. فآنس به ميشال واخضعه الى نوع من امتحان  اكتشف من خلاله موهبته بالرسم، فاعجب به، ولقنه مبادئ اساسية في هذا الفن. شغف نعيم بالرسم حتى الثمالة، واهمل نسبيا دروسه المدرسية، لاسيما المواد العلمية، التي لم يكن على وفاق معها. بلغ به الشغف درجة جعلته يترصّدَني، بينما كنت ادرس يكبّ على الرسم، مقتنصا بعض وضعياتي: مستلقيا، او جالسا على كرسي، او غير ذلك، ويستميحني عذرا الاّ اتحرك ليكملَ المشهد، او الصورة.

كثيرون حتى اقرب المقربين اليه لا يعرفون انه كان يستثيغ الشعر، ويقرض بعضه باللغة العامية، واعتقد انه فرّط بهذه الملكة. ذات مرة طلب استاذنا الشاعر انطوان عون، من تلامذة صفنا كتابة قصة فلاح، او اي موضوع نرغب به، نثرا او شعرا، فصيحا او بالعامية، ودهشنا جميعنا عندما طلب الاستاذ عون من نعيم القاء قصيدته امامنا جميعنا، لأنها حازت على اعجابه.

بما انه لم يكن بارعا جدا في المدرسة، وتأمينا لمستقبله، اشار عليه والده الالتحاق باحد الاسلاك العسكرية، ولكن اخاه البكر اسعد، الذي كان ما يزال مدرسا في مديرية التعليم الابتدائي، قبل ان يصبح مفتشا اداريا عاما، اخذه على عاتقه، على رغم تواضع راتبه، وادخله معهد ألكسي بطرس -جامعة الألبا اليوم-. هناك عاش عالمه المنشود، واجتهد بتحقيق امنياته، فلم يكتف بدراسة المقررات المطلوبة، بل تعداها الى مراجع اخرى؛ فنهل الكثير الكثير من تاريخ الرسم والنحت، واصولِه، وانواعِه، وتطورِه، وتعمّق بدراسة اشهر الرسامين والنحاتين العالميين، مكونا ثقافة فنية عامة غنية، انعكست ايجابا على شخصيته، وزادت ثقته بنفسه. فمخر عباب عالم الفن من دون الالتفات الى الوراء.

لاحت في الافق فرصةٌ نادرة، بتقديم وزارة التربية الوطنية اربع منح للتخصص في الخارج: للرسم، والنحت، والحفر، والموسيقى. ما اتاح الفرصة لكل راغب الاشتراك في المباراة، بمن فيهم من درسوا في المعاهد الاوروبية، او نالوا منحا من السفارات، والمجازون في هذا الميدان. ما افقد المساواة بين المتبارين. ادهش نعيم بعض الفنانين الكبار واساتذتِه، بحلوله في المرتبة الاولى.

سافر الى ايطاليا، بادئا رحلة العمر في الميدان الذي طالما طمح به. وللقبول في الجامعة خضع هو وثلاثة عشر طالبا آخرين ينتمون الى دول مختلفة، لامتحان قبول عن طريق الدراسة في محترف باشراف استاذ متخصص على مدى شهرين يخضعون جميعهم لامتحانات متلاحقة. رسب اربعة منهم، واجتازها نعيم بسرعة فائقة، وببراعة ادهشت استاذه، الذي اعفاه من تحصيل السنة الاولى، فتسجل مباشرة في السنة الثانية. وعاد متخصصا بنحت الخشب والحجر معا، ولكل منهما خاصاتُه وتقنياتُه. وبدأ حياته المهنية بالتعليم في مدرسة البشارة الارثوذكسية في الاشرفية، وفي دار المعلمين والمعلمات في الاشرفية ايضا، وفي كلية الفنون في الجامعة اللبنانية، وعدد من الجامعات الخاصة.

ايها الاصدقاء ان تكريم مبدع هو فعلُ ايمان حضاري، وصلاةُ مثقفين خاشعة نرفعها على مذبح الخالدين، واليوم هو انحناء لتزاوج ابداعي لاحاسيس مرهفة مع الألوان، ووفاء لازميل لا يعرف الكلل، ينفث حياة في الحجر الجامد، الاصم، ويرقص عشقا على اجساد اخشاب صلبة فيطوعها، وتستحيلَ جميعها اشكالاً رائعة تنبض بشتى الاحاسيس؛ الباسمة، الحزينة، الفرحة… وتحاكي مشاعر الناظر اليها وتذكيها، فتختال رقة حينا، وحياء حينا آخر، وجرأة مرة ثالثة، وتروي حكاياتٍ مغناجةً باساليب فنيةٍ رائعة، ترقى بناحتها الى عالم المبدعين الخالدين.

جوزيف ابي ضاهر

احار ايَّ لقب اسبغ على جوزيف ابي ضاهر: الشاعر، الصحافي، الاعلامي، الرسام، النحات، المسرحي، السيناريست، او الناشر، ولعل مناداتَه ب”الصديق” يجنبني الاحراج في الاختيار. بدأ عمله الصحافي في مجلة الدبور ثم صار رئيس تحريرها. كتب مقالات بانتظام في عدد من الصحف والمجلات اللبنانية. واسس عددا من المجلات ودور النشر من ابرزها دار كنعان 1975-2001، واشرف على منشورات اكثر من دار. شارك ولمّا يزل في عدد من المحافل الادبية والفنية، وانضم الى بعضها اذكر منها: جمعية الملحنين وناشري الموسيقى منذ العام 1985، ونقابة الفنانين المحترفين… وامين سر عصبة الشعر اللبناني…

جوزيف ابي ضاهر شاعر مرهف الاحساس، نظم اغنيات لعدد من المشاهير كوديع الصافي، وتجاوزت دواوينه الثلاثين، وكتبه السبعين، تُرجم بعضها الى الانكليزية والفرنسية، اذكر منها “ع البركة” و”يوميات في المنفى” الذي صدر بالانكليزية وترجم الى الفرنسية. ولعل “موسوعة الزجل اللبناني”احدى اهم الانجازات في مضمارها. له اياد بيضاء في حقلي التلفيزيون والاذاعة اذ ارْبت حلقاته على ستة آلاف حلقة.

تخطى خياله المرهف تلك العوالم، على اهميتها، الى فني الرسم والنحت، وابدع بهما، فقد شارك في عدد من المعارض المحلية والعالمية: في البرازيل واستراليا وغيرهما. واستحق عددا من الاوسمة والجوائز، لعل ابرزها: وسام المؤسسة الفرنسية للتشجيع على التقدم. ونأمل ان يحظى باوسمة ويكرّم على اعلى المستويات في لبنان. فمن يبدع في هذه الميادين كافة لعمري هو انسان فذّ وخلاّق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *