لبنان ونظرية الملجأ

تكثر في الاوطان المتعددة الديانات والمذاهب والاعراق والتوجهات السياسية النظريات السياسية والاجتماعية اما لتبرير توجه ايديولوجي، او ترسيخا لقناعة ذاتية ترسبت عبر الزمن التاريخي وصارت ثقافة عامة لاصحابها، او تماهيا مع الاخر في الظاهر واضمارا لباطن ما تفاديا لصراعات محتملة. وقد يتوسل الباحثون والمنظرون سبلا عدة تسويغا لنظرياتهم ينطلق بعضها من الواقع الجغرافي، والبعض الاخر من التاريخ والجغرافيا معا، وفريق ثالث من ابعاد اجتماعية بما في ذلك تقاليد وعادات، وفريق رابع ربما من مناح دينية او مذهبية… ولسنا ندري لماذا كل تلك التبريرات: اهي لاقناع الاخرين بصوابية نظرية ما تتلاءم وتوجه اصحابها السياسي او الديني وربما المذهبي؟! ام هي عملية تضاد مع رؤى الآخرين يطلقها منظروها بعداء سياسي اوفكري او ديني او مذهبي؟! ام هي تنطلق من واقع ترسبات الزمن التاريخي المتنوعة لتطرح بدائل سياسية قابلة للنقاش بغية افراز نقاط مشتركة حقيقية تؤسس لنظام سياسي بعيد من التكاذب والرئاء؟!

   ان كل الاحتمالات واردة، وارى ان السبيل الاسلم لمثل نقد هكذا اطروحات او لتبني اخرى يجدر ان يأخذ بالاعتبار الواقع الجغرافي، والعلاقات بين الجماعات التي افرزها الزمن التاريخي، ووضع كل جماعة منفردة، ودرسها جميعها بموضوعية، خصوصا في هذه المرحلة المخاض من تاريخنا المعاصر، أملا بفجر جديد من السلوك السياسي يرسي قواعد صلبة، بل اقتناعات واعية عند كل اللبنانيين.

واعترف بصراحة كلية ان المواقف المسبقة، في مثل هكذا موضوع، قد تطغى بنسب متفاوتة على مواقف الباحثين، لا سيما المنضوين في التنظيمات السياسية، او اولئك المحابين لهم، او اصحاب غايات لها تبريرات متنوعة، ونأمل من الباحثين ان يتخطوها الى الموضوعية البحثية. 

نظرية الملجأ والجغرافيا: كثيرون ممن درسوا جغرافية لبنان خلصوا الى ان التضاريس اللبنانية ولا سيما الجبال ومسالكها الوعرة تشكل حصنا طبيعيا منيعا كان شديد الفعالية في تحصين الجماعات خلال معظم العصور الوسطى وبعض الحديثة، مستفيدين من موقع المنخفضات والسفوح التي تشكلها تلك الجبال، لما توفّره من موارد طبيعية: زراعة وتربية ماشية لوفرة الانهار وغزارة مياه بعضها طيلة ايام السنة. ومتوسلين البحر الذي يشكل بدوره ملجأ ومتنفسا طبيعيا في آن، فيغدو لبنان ولا سيما منطقته الساحلية مقصدا للغزاة بما هو موقع استراتيجي متميز من الجغرافية العامة لبلاد الشام…ويصبح الجبل ملاذا منيعا.

وقد قال كثيرون بهذه النظرية منذ اوائل القرن الماضي نذكر منهم: الاب اليسوعي هنري لامنس وقد يكون رائدهم، والمفكر والسياسي جواد بولس، والمؤرخ فيليب حتي… وانتقدها آخرون. وقد برر كل واحد نظريته الجغرافية بمستندات علمية قابلة للنقاش، لن ندخل في جدليتها لأنها وحدها تؤلف اكثر من بحث او مقالة، وازعم ان في كل منها وجهة نظر تتلاءم وتوجه بعض الفئات اللبنانية بطوائفها ومذاهبها المتعددة وميولها السياسية المتنوعة الاتجاهات.

فاذا تجولنا في ارجاء جبل لبنان من شماله الى جنوبه نجد فيه آثارا تعود الى ما قبل المسيح، بل يرقى بعضها الى بدايات العصور التاريخية. وهنا اسأل نفسي، كما اطرح السؤال على الاخرين: لماذا سكن الناس في تلك المناطق النائية الوعرة غير الصالحة اجمالا للزراعة متحملين شظف العيش والصراع مع الحيوانات المفترسة، افليس هربا من اضطهاد اعداء من بني جنسهم ممن يفوقونهم قوة عدة وعديدا ؟! يبقى الجواب رهنا بما يقدمه علماء الاثار ومؤرخي التاريخ القديم من معلومات موثّقة، رغم انني اجيز القول بان من سكن تلك المناطق وفضلها على السواحل الاكثر كرما والاقل عدائية انما اراد الفرار من واقع مرير للاستقرار بملجأ اعتبره آمنا.

وبديهي القول ان الاضطهاد ليس وليد مرحلة تاريخية محددة لأنه متواءم مع عمر الانسان، شأن الفرار من ضغط المنتصر. فالصحارى كانت موائل لعدد من القبائل تآلف بعضها مع البعض الآخر، وتخاصمت قبائل فيما بينها، وكان المهزوم ينأى عن المنتصر ويفتش عن ملجأ يحميه ويكفيه شر المعتدين. ولا بد ان يجد متتبع تاريخ هجرات الشعوب ضمن القارة الواحدة، او من قارة الى اخرى، ان ابتغاء الاقامة في منطقة معزولة تؤمن له مستلزمات الحياة ولو بحدودها الدنيا كان من ضمن الاسباب العديدة لفرار المهزومين. وكذلك فان المنتصر كان يفتش على الارض الأكثر خصوبة وجودة ويستعمرها، ويسعى باستمرار نحو التوسع واستعباد المهزومين، وبذلك نشأت الامبراطوريات الكبرى باخضاعها تباعا شعوبا متعددة الاعراق لسيطرتها.

نظرية الملجأ والفكر السياسي: ان معادلة الصراع بين الضعيف والقوي استمرت هي عينها تحكم سلوك الانسان عبر الزمن التاريخي، ونتساءل اذا كانت قد صحت في مجتمعات العصور الغابرة فهل ما تزال تصح في عصرنا هذا بما يحويه من انظمة وقوانين ومنظمات دولية واقليمية تنظم سلوك الدول وشعوبها وتفصل في نزاعاتها؟!

واذا كان طرح هذا الموضوع ” لبنان ونظرية الملجأ” اليوم لضحد المواقف السابقة لمفكرين ومثقفين وسياسيين لبنانيين وغيرهم تسويغا لقيام وطننا لبنان باعتبار ان كل اللبنانيين شركاء فيه، فان الوطن صار موجودا، ووجوده نهائي لكل ابنائه، واذا كان لهدف آخر عنيت به التشديد على الوحدة اللبنانية في وجه ما يحضر على المستوى الاقليمي من انظمة سياسية ليس اقلها الفدرالية، فان الموقف من الماضي بل من التاريخ لا يلغي هذه التطلعات او التوجهات، لأن للماضي ظروفه وزمانه، والحدث التاريخي لا يفهم الا في هذا الاطار. وبالتالي فان قياس الماضي بكل ظروفه ومقتضيات نوازعه على الحاضر بكل تشعباته ورؤى ابنائه المتنوعة لا يصح ولا يؤسس لانطلاقة واقعية، انما انماء الثقة بين اللبنانيين هي التي تئد كل تلك النظريات والداعين اليها أكانوا مصيبين او مخطئين. ان الوضع اللبناني كثير الهشاشة، وبحاجة الى وعي اجتماعي بالدرجة الاولى، لأنه يؤسس لاكتساب ثقافي، بل استيعاب ثقافي واع يحدّ من غلواء بعض الفرقاء لأي حزب او توجه او دين او مذهب انتموا، ويصبح بالتالي النضوج السياسي تتويجا للمرحلتين.

واذا عدنا الى التاريخ نتوسل منه نظرية لبنان الملجأ قد نجد لها مبررات في بعض المناطق اللبنانية ليس في الجبل وحده على امتداده كله، بل ايضا في الجنوب اللبناني، وفي بعض البقاع. ذلك ان الدواعي الدينية بل النزاع الديني ضمن الطائفة الواحدة كان من ابرز الاسباب التي دفعت معظم المهزومين للاتجاء الى لبنان، من دون اسقاط الصراع بين الطوائف من الحسبان.

فبالعودة الى التاريخ القديم، وانا لست ضليعا فيه، ازعم ان الفينيقيين الذين سكنوا المناطق العالية في جبل لبنان هربوا من هجمات واضطهاد الشعوب المتنوعة التي اخضعت الفينيقيين وتسلطت عليهم، وجعلتهم يدورون في فلكهم، ولنا نماذج متعددة من سلوك الفراعنة والاشوريين والفرس…

اما بالنسبة الى تاريخ لبنان الوسيط، واعتقد انه لبّ الموضوع، فالبعض يرفض نظرية لبنان الملجأ لاسباب متنوّعة ليس اقلها الخلاف على تحديد العلاقة الدينية بين المسيحيين والمسلمين، وبدرجة اقل العلاقة المذهبية بين المسلمين انفسهم، من دون ان يجرؤ بعض الرافضين لهذه النظرية الافصاح عن دوافعهم الاساسية. ولكنني اقارب الموضع من ناحية مختلفة ببعض وجوهها لاناقش المعضلة بكل موضوعية: فالموارنة الذين هاجروا من مناطقهم الاساسية على ضفاف العاصي وفي منطقتي حماه وحمص والتجأوا الى لبنان كان دافعهم الرئيسي تأمين مركز حماية من مسيحيين آخرين يريدون قتلهم او تحويلهم الى مذهب اليعاقبة لأن انسحاب البيزنطيين من بلاد الشام تحت وطأة الفتح العربي جعلهم من دون حماية، فاعتصموا في المناطق الجبلية اللبنانية الاشد وعورة في المسالك، وقد تكون الاكثر ارهاقا من حيث الاستغلال. ومن ناحية ثانية فان علاقاتهم المتعددة الوجوه مع الامويين فرضت عليهم السكن في تلك المناطق؛ فحافظ الموارنة على وحدتهم الذاتية واستقلالهم الداخلي وعاشوا في ظل تنظيمهم الخاص: البطاركة زعماؤهم الدينيون او الروحيون، والمقدمون قادتهم السياسيون والعسكريون المدافعون عنهم، واستمر الحال على هذا المنوال حتى اواخر القرن الثامن عشر.

وبالنسبة للشيعة اشتدت صراعاتهم مع اهل السنة بعد مقتل الامام علي ومن بعده الامام الحسين في كربلاء، وكان في معظم الاحيان لصالح السنة، وان نجح احيانا الشيعة بتأسيس دويلات لهم لم تلبث ان كانت تزول لا سيما في بلاد فارس وبعض بلاد الشام: كالحمدانيين في الموصل وحلب، والقرامطة في جنوب بلاد الشام (في البحرين)… الى ان اسس الشيعة الاسماعيلية الخلافة الفاطمية في المغرب عام 909 ونقلوها في اواخر عهد الخليفة المعز لدين الله الى مصر عام 969.

اذا في البداية كان الصراع لصالح السنة وكل من اضر بهم كان نصيبه الاضطهاد اما نفيا او سجنا او قتلا، وكان ابو ذر الغفاري اول ضحاياه، اذ نفاه معاوية الى جنوب لبنان لتتأسس معه اول جالية شيعية استكانت فيه، ثم تبعته اعداد من الشيعة طلبا للحماية توزعت في جبل عاملة، وفي مناطق من كسروان والبقاع. واذا كان التاريخ لا يمدنا باخبار صراعية بين السنة والشيعة في جنوب لبنان فلأن الشيعة فيه، على ما أرجّح، لم يشكلوا معضلة او عصيانا بيّنا ضد السنة.

وحوالى العام 760 او بعيده اسكن العباسيون في بيروت ومنطقة الغرب قبائل تنوخية ردا على ثورة المنيطرة المارونية، وللمحافظة على بيروت من الهجمات البيزنطية، على ما تذهب اليه المراجع التاريخية المتأخرة، فاستمر هؤلاء عونا للسلطة الحاكمة في بغداد خلال العصر العباسي الاول، وفي دمشق اجمالا في العصور التي تلت. ولم يشكل التنوخيون ازعاجا حقيقيا للسلطات الفاطمية في القاهرة الا بعد ان اعتنقوا (الدرزية)، وبالتالي ومخافة من الاضطهاد، ومحافظة على كيانهم اعلنوا اقفال باب الدعوة واستمروا في خدمة السلطة الحاكمة في دمشق ينفذون رغباتها.

 ان اقفال باب الدعوة وتنفيذ رغبات السلطات الحاكمة في دمشق، منذ اواسط العهد الفاطمي مرورا بالعهد الاتابكي السلجوقي فالايوبي وصولا الى المملوكي، كان في جزء منه على الاقل حماية للموحدين الدروز من نقمة السلطات السنية، واعتصاما لهم بل ملجأ في معاقلهم المتعددة والمكشوفة. ولم يكن انقسامهم بين مؤيد للسلطة الحاكمة في دمشق وبين اعدائها الا حماية للفريق الخاسر بينهم، مما يعني ان لبنان شكل ملاذا ملائما لهم، ونجحوا في ادارته.

واعتصم فريق من الشيعة العلوية في بلاد الظنيين ( الضنية) لأنه كان فريقا مستهدفا من الفقهاء السنة، وهي بلاد ذات موقع طبيعي حصين جدا، وصاروا هم والموارنة بمنأى عن النفوذ المباشر للسلطات الحاكمة التي كان يدور لبنان في فلكها الى ان تمكن اللمماليك منذ عام 1268 من مهاجة المعاقل الجبلية اللبنانية وكان آخرها عام 1305. وقد ادت تلك الحملات الى تغيير في ديموغرافية لبنان، وفي تركيبه السكاني؛ اذ اسكن المماليك قبائل كردية وتركمانية على امتداد الساحل من انطلياس الى مغارة الاسد في عكار. ومع ذلك استمرت الجماعات اللبنانية تعيش كل واحدة في منطقتها، وفي شبه عزلة، حتى تلك القبائل الكردية والتركمانية تلونت، بعد فترة زمنية، بالميول الطوائفية والسياسية اللبنانية.

لن اخوض في التاريخ اكثر من ذلك كي لا يتحول البحث الى دراسة في التاريخ، انما هذه البنى الاثنية والدينية والمذهبية عاشت على الرقعة المعروفة اليوم باسم لبنان، كل واحدة في حيّزها الخاص، تمتاز بسلوكها الخاص، ويجمع بينها العديد من التقاليد والعادات، رغم وجود بعض التمايز فيما بينها. ايمكننا ان ننفي سلوكها السياسي والديني والمذهبي، الا يعتبر اختيارها الاماكن الامنة ملجأ لهم من الاضطهاد، خصوصا ان استكانتهم فيه ما كانت تزعج السلطات التي كان يخضع لها لبنان مرغما، ولن تتكبد هي مشقة معاقبتهم لأن تأثيرهم على الآخرين استمر ضعيفا جدا ان لم يكن معدوما.

وعليه، فان سلمنا جدلا بهذه النظرية: “لبنان الملجأ” او رفضناها، رغم ان العديد من المؤرخين والمفكرين تناولوها منذ العصور الوسطى: كابن القلاعي في زجليته التي أرّخ فيها بعضا من تاريخ الموارنة ولا سيما المقدمية المارونية والعلاقات الصراعية بين الموارنة والسلطات الحاكمة، شأن ما تناوله العنطوريني في “تاريخه”، والبطريرك اصطفان الدويهي في” تاريخ الازمنة” الذي كان أكثر وضوحا. ونجد ايضا مؤرخين دروزا أرخوا لتاريخ الموحدين الدروز على الرغم من ان بعض المؤرخين والمفكرين يرون انهم كتبوا تاريخ الاسرة التنوخية الحاكمة، او تاريخ الامير فخر الدين متجاهلين ان هذه الاسر كانت درزية وحكمت الدروز بالدرجة الاولى، نذكر منهم صالح بن يحي في “تاريخ بيروت وامراء الغرب”، واحمد خالد الصفدي في تاريخ الامير فخر الدين، والامير حيدر الشهابي في “الغرر الحسان”، وابو شقرا في كتاب “الحركات في لبنان”. ويصنّف ” اخبار الاعيان في جبل لبنان” لطنوس الشدياق كأحد المؤلفات التي تناولت المقاطعات اللبنانية، بمعنى ان تلك الكتابات جاءت تاريخا اُسَريّا طوائفيا. ويمكن الحصول على ادلة دامغة في ان لبنان خلال العصور الوسطى والحديثة كان يعيش على شكل اسر طائفية مذهبية منطوية على ذاتها لا تتقاطع مع الاخرين صراعا الا ربما في مناطق التماس، او بامر من السلطات الحاكمة التي كانت تأتمر بها، من كتب الرحالة الاجانب التي زارت لبنان في العصور الحديثة وكتبت مشاهداتها. فاذا كانت الحال في تلك العصور على ما وصفها الرحالة فكم بالحري كان وضعها في العصور التي سبقتها؟

ان التركيب السكاني في العصور الوسطى بتعدد الطوائف والمذاهب ونموه في العصور الحديثة استمر موضوع خلاف بين الطوائف على مستويين سوسيولوجي واقتصادي، وهما بلا شك مرتبطين عضويا، وكان اي تحوّل في هذا البنيان سيشكل عامل صراع، لأن الفريق الذي سيشعر ان مركزه مهدد سيبذل كل ما في وسعه للمحافظة على مكتسباته.

ومن الامثلة الشديدة الوضوح على تقوقع الجماعات السياسية والسوسيولوجية خلال العصور الوسطى وبعض العصور الحديثة والتشبث بالمكتسبات شأن التمسك بنظام الحكم بموجب الميثاق الشهابي اذ بعد انقراض السلالة المعنية عام 1697 ارتضى الدروز بموجبه اعطاء الامارة للأسرة الشهابية السنية، وكان من المستغرب ان يقبلوا بأمير ” غريب الدار” اي غير درزي لو لم يتحدد في هذا الانتقال التحوّل من نظام التعايش الى الاجتماع السياسي الذي جعل نظام الامارة الجديد يقوم على مبدأ سلطة الشورى بين الاعيان والامير، وبالتالي صار الامير محدد الصلاحيات بموجب الميثاق المذكور تأمينا لمصالح الدروز لكي لا يطغى السنة على الحكم بمعزل عن الدروز. بمعنى ان تقاطع المصالح السياسية ضمن الطائفة الواحدة ما كان ممكنا الا بمقدار، وبالتالي فان انتقال العيش من الوجود السوسيولوجي في كل بيئة على حدة – رغم العديد من التقاليد والعادات المشتركة- الى الاجتماع السياسي بين الطوائف والمذاهب كانت دونه عقبات كبرى لأنه كان نمطا من التعاقد السياسي، بدليل حصول صراعات رئيسة في لبنان خلال القرن التاسع عشر بسبب حدة التحولات من البيئات الفردية الى الاجتماع السياسي وما رافقها من نمو ديمغرافي اخلّ بالتوازنات القديمة. فاستتبعه حكما تحول في التعاقد السياسي: فاعتمد نظام القائمقاميتين الذي عدلته ترتيبات شكيب افندي، وهو لم يكن سوى رؤية جديدة لنظرية الملجأ ادرك من خلالها شكيب افندي عام 1845 الابعاد البنيوية في تركيبة الجبل الطائفية والسوسيولوجية، وتوّقع اعادة الهدوء الى الجبل عبر المشاركة التامة للطوائف في تقرير السياسة العامة لكل قائمقامية. ولم يكن فشل نظام القائمقاميتين الا لتخلف فكر الاعيان عن ادراك القيم الدستورية والتطور السوسيولوجي، لعجزهم عن استيعاب التطوّر الذي حظي به العامة عبر تخطيهم التدريجي لنظرية الملجأ نحو المواطنية في ظل “الدستور” اي التعاقد السياسي الذي اقره شكيب افندي وكان نوعا من فدرالية الطوائف المبنية على حقوق الطائفة وعلى المساحة الجغرافية للجبل*، وهي رؤية فيها انعتاق الى حد بعيد من نظرية الملجأ. وجاء نظام المتصرفية وهو نظرية منقحة عن النظام السابق مع فارق ان رئاسة النظام كانت لحاكم اجنبي، و رغم كونه نوع من فدرالية الطوائف تجاوز نظرية الملجأ نسبيا من حيث التداخل السوسيولوجي بين الطوائف، وانحسار الحدة الطائفية .

  وفي محصلة الموضوع لم ينجح اللبنانيون حتى اليوم بتخطي التقوقع الطائفي، وكأن نظرية لبنان الملجأ صارت صنوا لوجود الطوائف، بل اساسا لتركيب لبنان السوسيولوجي والسياسي، واستمر التعاقد السياسي ابرز نماذجه، وهو باعتقادي تعاقد هش لأن الولاء المنطلق هرميا من العائلة الى الطائفة فالى المنطقة الجغرافية واخيرا الى للدولة، يُبقي نظرية لبنان الملجأ، اي تعدد الطوائف وتقوقعها كل واحدة الى حد ضمن رقعة جغرافية معينة، رغمخ بعض التداخل المهم احيانا، ماثلة امام كثيرين من اللبنانيين. فاذا كان اللبنانيون لم يستطيعوا، حتى الآن، الاتفاق على الرؤية الى السياسية الخارجية للبنان اذ ما يزالون يتصارعون سياسيا ودينيا ومذهبيا حولها: فبعضنا يغلّب مصالح اقليمية وفئوية مذهبية على مصالح لبنان الحيوية لأنها برأيه اضمن لوجوده ونفوذه، وفريق آخر يضع اولويات اخرى تناقض رؤية الفريق المذكور وهكذا…مما يعني ان استقواء كل فريق بل كل طائفة ومذهب بالخارج هو احد ابرز مرتكزات نظرية الملجأ التي لن تؤسس لقيام دولة متماسكة دستوريا وسياسيا واجتماعيا وثقافة عامة

فعلى ضوء ذلك اقول: ان نظرية الملجأ التي طالما سعينا الى اسقاطها من نفوس اللبنانيين ما تزال حيّة في وجدانهم بطريقة او باخرى، حتى لو استبدلنا اسمها بتعابير مستحدثة، فهي ابدا تتمتع بمقومات النظرية السابقة، رغم ان الملجأ الجغرافي بمعنى الحماية من الاعداء ما عاد متوفرا. ولا ارى حلا لكل هذا الاشكال في الاجتماعين السوسيولوجي والسياسي في لبنان الا بالعلمنة الشاملة الواعية التي تقضي على اهداف ورؤى المتعلقين بنظرية ” لبنان الملجأ” والمستقوين ابدا بالخارج الذي لم يكن يومنا في صالحنا، وتدفع اللبنانيين للخروج على نظام الطوائف والمذاهب الذي هدّم وما يزال مقوّمات المواطنية والولاء السياسي المطلق للدولة اللبنانية. وهنا تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورا اساسيا في بلورة هذه الرؤية الثقافية السياسية الاجتماعية، فتقرب وجهات النظر، وتضعف المخاوف، وتبث الفكر الانفتاحي، وتساهم بقبول الاخر كما هو، ولكن تبقى سيادة القانون على الجميع من دون استثناء الضمانة الاساسية للقضاء على نظرية الملجأ.

*- اخذنا وضع الجبل كنموذج لنظرية الملجأ وهو يماثل المناطق الاخرى من حيث البنى السياسية والطائفية والفكرية.

                                              الدكتور انطوان ضومط  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *