مدخل الى دراسة التأريخ عند العرب قبل الاسلام

اسئلة كثيرة طرحت حول نظرة عرب الجاهلية الى المستقبل، من خلاحفظ المآثر. وهل ترك عرب الجاهلية آثارا مكتوبة لتربط ماضيهم بحاضرهم ومستقبلهم؟ وبالتالي هل ظهرت

كلمة تاريخ في الجاهلية؟

    عمليا، ثمة دراسات بل مؤلفات عديدة تناولت الموضوع وافاضت فيه، بعضها لمستشرقين وبعضها الآخر لمؤرخين عرب، ولعل ابرزها واحدثها كتاب الدكتور طريف الخالدي:« فكرة التاريخ عند العرب»[1]. والتاريخ كما بات معروفا هو نوع من التراث، والتراث يعني تراكم احداث مشتركة صارت ملكا لجميع الناس، وتسمّى من منظور ثقافي ثقافة المجتمع العامة. وهذا الطرح السؤال: ألم يكن لكل شعب من شعوب الارض ثقافة عامة؟ وكيف انتقلت الى الخلف، وهل اصبحت تاريخاً؟ وما هي معايير تقويمها؟

    من دون شك كان للعرب قبل الاسلام ثقافتهم العامة، فكيف صيغت، أشعراً ام نثرا ً؟ وهل دوِّنت ام جاءت شفوية ؟ وهل كان للعرب لغة موحدة بلهجات متعددة ؟

  يعتبر الدكتور طريف الخالدي ان الجزيرة العربية قد حققت وحدة اللغة منذ ما يقرب الثلاثة قرون قبل الاسلام، وهو انجاز مدهش تزامن مع بروز الثقل السياسي لشمالي الجزيرة التي تمكّنت من تطوير اللغة وبسطها على كامل ارضها[2]. مما يعني انه صار للعرب لغة واحدة احتضنت قريض شعرهم وصاغت نثرهم. فهل تكون وحدة اللغة كافية ليترك شعب ما تاريخا ؟

    عمليا ما يزال تصنيف ما تركه العرب من تراث ادبي ومآثر اجتماعية مدار جدال واجتهادات عند الباحثين، ومنهم من يعتبره ادبا تاريخيا، ومنهم من يصنّفه في خانة التاريخ. ونحن لن نخوض غمار هذه الاجتهادات والتصنيفات، بل  سنكتفي بآراء من لهم الباع الطولى في هذا الموضع، والا خرجنا عن المحور الاساسي والهدف الرئيسي الذي من اجله عمدنا الى وضع هذا الكتاب.  

     ان فرانز زونتال صاحب كتاب «علم التاريخ عند المسلمين» مستشرق شهير ومشهود لجهوده العلمية بالدقة والتثبت، وقد قام بابحاث معمّقة حول موقف العرب من التاريخ، وأكّد ان كلمة «تاريخ» لم تظهر في الشعر العربي الجاهلي ولا في ادب العرب في فترة ما قبل الاسلام[3]، ولم تظهر ايضا في القرآن الكريم ولا في الاحاديث النبوية الشريفة. فهل هذا يعني ان الجاهليين لم يحفظوا ماضيهم، ام انهم حفظوه بطريقتهم الخاصة[4]؟

    عمليا يمكن ان نسجل لعرب الجاهلية نمطين للدلالات التاريخية: ايام العرب ، والانساب.

اولا: ايام العرب:

   1 – تعريفها: يمكن تعريف ايام العرب بأنها المعارك او المناوشات التي جرت بين القبائل العربية بعضها ضد البعض الآخر، او تلك التي وقعت بين القبائل العربية وملوك اليمن، او بين العرب والفرس. وهي تتضمن المآثر العربية القبلية، وسير الامراء، او بعض الافراد ممن ادّوا اعمالا جليلة او نسبت اليهم تلك المآثر وصاروا رمزا وفخرا ليس للقبيلة التي ينتمون اليها فحسب، بل ايضا للمجتمع القبلي باسره، وتحوي ايضا اقوالاً مأثورة وامثالاً. وتتضمن اخبارا تتعلق بشوؤنهم الاجتماعية الصرفة، وما كانت تخلّفه المعارك من قبائح كهتك الاعراض… فضلاً عن علاقاتهم بآلهتهم.

    فمضمونها، كما نلاحظ، هو من صلب التاريخ لأنه مبني على الماضي بكل ابعاده ومحاوره. ولكن ما يهم المؤرخ والتأريخ هو كيف وصلت الينا تلك الاخبار؟ وبتعبير اوضح هل دوّنت ؟ وكيف ؟ وتاليا هل وصلت الينا كاملة، وبأي صورة ؟

2 – علاقة الشعر بايام العرب: في الجاهلية وحتى فترة طويلة من العصور الاسلامية كان الشاعر ناطقا بلسان قبيلته، يشكّل صحيفتها، واذاعتها…وفق التعابير والمصطلحات الحديثة، ويخلّد مآثرها. وكان شعراء القبائل الاخرى يخلدون مثالبها بهجائهم. اضف الى ذلك ان تجارب الشعراء انفسهم كانت من صلب التاريخ، وقد عبّر الخالدي عن ذلك بقوله: «كانت وظيفة التاريخ غالبا ما تقوم به سير الشعراء النموذجية: الامير التائه المتنقّل في طلب ملكه، الصعلوك المتمرد…الصديق الثابت…وحيث يمجّد الشاعر قبيلته لا نفسه فان ابيات فخره غالبا ما تكون تذكيرا صريحا او مقنّعا لأعدائه بما لقبيلته من المآثر التاريخية…وذلك لا في التفاصيل…بل بالايماء الى الانتصارات المفترض انها معلومة من الجميع…»[5]

    ان هذا الامر يفسّر اقتضاب الاحداث في الشعر وحتى في النثر كما سنبيّن لاحقاً، ممّا جعل الغموض يلف احداث العرب في الجاهلية، ليبدو بعضها وكأنه آتٍ من فراغ، او يلفّه الارباك.

3 – علاقة النثر بايام العرب: يبدو افتراض الجاهلي ان الحوادث باتت معروفة من الجميع دفعه الى اختصار معظمها والتركيز على الفخر والانجازات، ما يعني انه كان يروي ليومه، وارضاء لمناخ سياسي، وربما احيانا اجتماعي. ومن ناحية ثانية لم يصلنا كامل النثر الجاهلي اذ ضاع معظمه[6]، الامر الذي يزيد في ارباك موقفنا من علاقة العرب بالتاريخ. وقد خلدت الروايات القبلية تلك “الايام” لانها كانت تراثا قبليا مشتركا، وتروى في مجالس القبيلة المسائية لامتاع السامعين وشحنهم بالحماسة، ولكي يفخروا بتلك الانجازات. وجاء معظم  الروايات تراثا شفويا انتقل بالتواتر، وبعضها دون جزئيا، او بالحري اشير اليه بالادبيات تبعا لرغبة الشاعر. ويعزز هذا الرأي ما ذهب اليه طريف الخالدي:« ان الثقافة الجاهلية كانت شفوية في جوهرها. وكانت النصوص المكتوبة دينية او قانونية في معظمها».[7]

ويقول روزنتال فيها:« لم يكن الهدف من هذه القصص في الاصل ان تكوّن مادة تاريخية…والواقع ان قصص الايام ترجع في اصلها الى الادب اكثر مما ترجع الى التاريخ. فقد كانت تروى بالدرجة الاولى لإيناس السامعين ولمتعهم العاطفية. وكانت تحوي على عناصر تاريخية من حيث انها سجلت احداثا كبرى، ومن حيث انها اعتبرت مثل تلك الاحداث متصلة بنواح معنوية معينة، غير انها يعوزها الاستمرار تماما، فلم تدرس ضمن الاسباب والنتائج التاريخية، كما انها لا تأخذ الزمن بنظر الاعتبار قط. ولا توجد اشارة الى ان الشعور التاريخي قد تقدم قبل الاسلام الى الحد الذي يضْفي على هذه القصص شيئا من التعاقب التاريخي. وبذلك لم يكن بالامكان ان تتطور قصص الايام، او ان يكون لها دافع يوجهها نحو التطور لتصبح من الادب التاريخي، هذا بالرغم من ان فنونها واشكالها لعبت، فيما بعد، دورا هاما في علم التاريخ الاسلامي[8]

      ان في هذا النص لروزنتال عناصر اساسية تختصر مفهوم الايام وتحدد ميزاتها الى حد بعيد:

أ – غائية الايام : ترتبط غائيتها بمضمونها، فالايام تسجيل لاحداث جليلة اجمالا يفخر بها العربي، وطعٌمت بالشعر لأنه الشكل الادبي بامتياز لاسلوب الفخر، تبعا لدور الشاعر او الراوي بما كان يضيفه عليها من بنات شعره او من شعر منحول. ممّا يعني ان غايتها لم تهدف الى تسجيل وقائع تاريخية تخليدا للماضي وربطه بالحاضر لتغدو نبراسا او درسا للمستقبل، بل جاءت عملية فخرية صرفة، تشحذ حماس السامعين وتمتّع عواطفهم.

ب – عناصرها التأريخية: لقد تناولت من دون ادنى شك احداثا كبرى غير متعاقبة زمنيا، انما مرتبطة معنويا بنواح كثيرة. وافتقرت لعناصر تأريخية عديدة: فقد اعوزها الاستمرار، والعلاقات السببية بين الدوافع والنتائج، والارتباط بالزمن، وكأن حوادثها تسير بفراغ، وهو الشرط الاساسي للتأريخ.

 ج – تطورها: استمر نهجها رتيبا، لان غائيتها انحسرت بالفخر فقط، ممّا افقدها الرؤية المستقبلية احدى اهم ركائز التأريخ، ما جعلها تدور في حلقة مفرغة من الفخر والحماس والتطلع المستمر الى الماضي.

ه – اهميتها : لقد حوت عناصر تاريخية لانها تناولت حوادث ماضوية كالمعارك والحروب، ونواحي اجتماعية كالكرم والشجاعة ومآثر بدوية اخرى كالامثال والحكم. وجاء اسلوبها ادبيا شعبيا مبنيا على الحوار والخطابة والشعر، فشكّل فيما بعد الاسلوب الاولي للكتابة التاريخية العربية في دولة الخلافة.  

     وهكذا، تشكل الايام نمطا شعبيا من التعبير شبه التاريخي الشفوي، بل نمطا ادبيا شفويا يستند الى عناصر وحقائق تاريخية بما تحمله من اصداء ذكريات التاريخ القبلي. وعلى الرغم من الانطباعات الاسلامية عليها، لان تسجيلها تمٌ في العهد الاسلامي، فهي لا تدل على نمو الشعور التاريخي حتى عند ناقليها[9].

    ثانيا: الانساب: لقد عرّفها شاكر مصطفى بانها «سلاسل اسماء تدعو لها الحاجة الاجتماعية القبلية للتعارف والتمايز»[10].  وهي من منظور آخر: اشجار انساب تنسج حول بعض شخصياتها الاحداث التاريخية مّما حفظ تكوينها الذي اسّس لعلم الانساب الاسلامي. ولعلّ صياغتها النثرية شكلت محورا اساسيا في التراث الجاهلي. لأن القبيلة كانت بمثابة دويلة سياسية لها نظمها الاجتماعية والقانونية، والمكان الصالح لتحديد المكانة الفردية والجماعية، فباتت الانساب عملية ضرورية لتحديد ارتباط الدويلات-القبائل بعضها بالبعض الاخر لما كان بين القبائل وفروعها المتعددة من ارتباط نسبي ومعنوي، واحيانا سياسي.  

وهي كالايام خالية من الارتباط الزمني، واقل قيمة منها من حيث الشكل التعبيري التاريخي، ولكنها اكثر دلالة على وجود الحس التاريخي، بما تعكسه من انطباعات انتربولوجية[11]. ويعتقد: روزنتال انها جاءت مغايرة للتنظيم السياسي والاجتماعي عند عرب الجاهلية[12]، ويضيف:« نستبعد ان يكون علم النسب عندهم –العرب- دوّن ليتطور الى ادب تاريخي، كما ان التراث النسبي عند العرب وعند الساميين عموما لم يقتصر على العلاقات بين الافراد والاسر، بل اعان على تكوين مخططات نسبية ضمّت جماعات السكان كافة بصرف النظر عن اعدادهم» [13]. ان هذا النمط من التفكير، او الرواية الشفوية للانساب وان لم يكن يعكس باستمرار النمط السياسي السائد ويختار من التنظيم الاجتماعي ما يتوافق والشخصية المراد ابرازها، فانه، فيما لوكان تطور، لكان جاء تاريخا حقا.

   ويمكن القول على ضوء الايام والانساب معا، انه كان للعرب قبل الاسلام حقائق تاريخية، من دون ان يتطوّر عندهم الحس التاريخي، بل لم يجد دافعا ينمّيه ليتحول الى تأريخ.   

الفصل االثاني:التدوين خلال القرنين الاولين الهجريين.

اولا: نشوء التدوين التاريخي:

     ان سنة التطور مبنية على خلق تيارات جديدة تسير بتؤدة الى جانب الثقافة العامة لكل مجتمع، حتى اذا ما نضجت تهيمن تدريجا على المفاهيم السابقة والمنافسة لها من دون

ان تلغيها كليا. وقد ابقى الاسلام في دولته على بعض المفاهيم الاجتماعية والسياسية الجاهلية، لا بل غدا بعضها من مرتكزات الدولة الجديدة، بحيث كان عسيرا جدا على العرب ان يتخلوا عن تقاليد وعادات واعراف حياتهم في الجاهلية التي مارسوها على مدى اجيال عديدة، بعد ان كانوا قد تخلوا عن ديانتهم الوثنية ومبادئهم الاقتصادية. لان الترسبات الاجتماعية والسياسية لتلك الاجيال كانت من صلب ثقافتهم العامة، ومحور استمراريتهم.

   من هنا، كان من الصعب ان يرفض الرسول ومن بعده دولة الخلافة كل القيم الجاهلية لانها ستؤدي الى انفصام كامل بين تراث الماضي ومحتوى الحاضر الواعد بالمستقبل الزاهر، خصوصا ان عناصر الدولة الجديدة تألفت من مجموع القبائل العربية المتجذرة بالمفاهيم القبلية.

    وما يهمنا من الامور التي استمرت في الدولة الجديدة، على مدى نيف وقرن، هي الروايات الشفوية المتواترة المتصلة اصلا بالآراء السياسة والاجتماعية في المجتمع القبلي غير المتعارضة مع التعاليم الاسلامية، والتي كانت سائدة ضمن نطاق القبيلة الواحدة، وتعتبر ملكا مشتركا لكامل افرادها.

   واذا جارينا الدراسات التي تذهب الى القول ان عند وفاة الرسول وجدت فئة قليلة من المسلمين تحسن القراءة والكتابة، ندرك مدى اهمية استمرار الروايات الشفوية في الدولة الجديدة، على الاقل في حفظ تراثها، وفي درجة اولى في الحفاظ على السيرة النبوية. وما تجدر ملاحظته ان الاسلام حضّ على التعليم لاهميته في فهم الدين الجديد وفي تطوير المجتمع. وكانت لدى القبائل العربية لهجات متعددة ان في الجنوب او في الشمال، وكان لنزول القرآن  بلغة قريش، ان ثبّت هذه اللهجة كلغة رسمية في الدولة العربية والاسلامية، وطوّر ابجديتها، خصوصا الاحرف التي لم تكن معجمة اذ كانت «د » مثل  «ذ»، و «ر» مثل «ز»…

  كان لهذه التوصية، اضافة الى تأثير الفعاليات الجديدة على مستويات عديدة، كما الى عوامل دينية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، اثرها الفعّال في نشؤ الكتابة التاريخية، والتشجيع عليها، وسنوجز تلك العوامل بثلاثة توجهات اساسية: دينية وسياسية واجتماعية.                              

أ : العوامل الدينية:    

1 – نظرة الاسلام الى الكون: لقد نظر القرآن الى الماضي نظرة مغايرة لما كان سائدا لدى العرب الوثنيين، فقد اعتبر احداث الكون عملية تراكمية منذ بداية الخلق وحتى انتهاء الزمان، وفيها محطات اساسية بل مفاصل رئيسة في تطوير المجتمعات شكّلها الانبياء الذين يقر بهم القرآن، وكان آخرهم الرسول محمد. والاسلام “دين تاريخي الروح … وتاريخيته عميقة الجذور” على حد تعبير شاكر مصطفى[14]. كما توضحه الآية التالية  < انها ملّة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل >. وبالتالي فان الحياة ليست الا معبرا للحصول على الجنة، وللوصول اليها يجب اتباع التعاليم الاسلامية، والعمل بموجبها. والقرآن، الى جانب ذلك، مليء بالاشارات الى الانبياء الاوائل السابقين على الرسول، ويقصّ بعضا من سيرهم باعتبارها نماذج رائعة للايمان ويحثّ المسلمين على التمثّل بها. ويشير ايضا الى الشعوب الغابرة، ويروي بعض احداثها للإتعاظ منها. ولطالما نظر المسلمون  الى التاريخ على انه المعلم الاول لكثرة العبر الاخلاقية والسياسية الواردة فيه.       

    من هنا، بات من الضروري ليس التعرف فقط على حياة الرسول والصحابة وجيل التابعين والمحفاظة على سيرهم واتباع خطاها لكونها تنويرا للمسلمين، انما ايضا على حياة الشعوب الغابرة للغاية عينها. ولكن المنظور الديني التاريخي هذا، على اهميته،لم يكن ضمن اهتمامات جماعة المؤمنين الاوائل لأن البعد التاريخي لم يأخذ طريقه الى فكر الاخباريين واهل السلطة على حد سواء الا في اواخر القرن الاول الهجري. فقد كانت لهم اهتمامات اخرى أكثر اهمية تتعلّق بتسويغ الامتيازات الضخمة التي حصلوا عليها ضمن الجماعة – الامة، وتوضيح صورة المسلمين وعلاقة الامة الاسلامية بالامم الاخرى.

   وعلى الرغم مما ذكرنا: ان في القرآن خبرا واستخبارا، وتشديداً على المواعظ الخلقية الواردة فيها، ما حتّم التعرف عليها للعمل بهديها، فانه لم يتمّ استيعاب كل ذلك الا في فترة لاحقة، اي بعد استقرار الدولة وانتهاء عملية الفتوح والانصراف الى تفسير الفكر الديني. وليس ادلّ على ذلك من تأخر ظهور المذاهب السنية الى منتصف القرن الثاني الهجري، مما يفسّر تأخر عملية التدوين التاريخي حتى اواخر القرن الاول ومطلع الثاني الهجريين.

2 – اسباب النزول او احكام الناسخ والمنسوخ: من الواضح ان القرآن نزل على الرسول على دفعات، وهو وحي من عند الله، وقد نزلت آيات لاحقة لتعدل جزئيا او كليا ايات سابقة، {وما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها[15]}. وبعد وفاة الرسول احتاج المسلمون، لضرورات تشريعية، للتعرف على الاحكام الملغاة، ودوافع إلغائها. فكان لا بد من عملية تقص وتدوين، كي لا يتكرر البحث كلما دعت الحاجة اليه. وما كان ممكنا الحفاظ على كل ذلك الا من خلال التدوين.      

3 – تدوين القرآن: اعتمد الرسول لتدوين الوحي على عدد ضئيل من الكتبة، وشابت كتابته الاولى اخطاء املائية، فضلا عن انها دوّنت على اضلاع عظمية، ورقع وسعف نخيل وألواح حجرية وغيرها. واستمر الامر كذلك الى عهد ابي بكر حيث تم التدوين الفعلي للقرآن. وامر الخليفة عثمان بن عفان، بجمع كل المصاحف واحراقها والابقاء على القرآن المعروف بمصحف عثمان، وكانت الحاجة شديدة للنهل من كتاب الله، واعتماد احكامه، فتم نسخ العديد من المصحف المذكور، ما جعل الحاجة ملحة للتدوين.

4- تدوين الحديث: تعتبر الاحاديث النبوية المصدر الثاني للشريعة الاسلامية الى جانب القرآن، وعندما توسعت الدولة على اثر الفتوحات طرحت فيها احكام جديدة، وبما ان القانون الوضعي ليس جائزا فيها اضحت الحاجة ملحة للاسترشاد بالاحاديث النبوية. وبما ان احدا لم يكن يحفظها كلها، وكان حافظو الاحاديث قد توزعوا في ارجاء الدولة عقب الفتوحات، وبدأ يتوفى الصحابة وهم اعلم الناس بها لانهم حفظوها غيبا بعد ان اوصى الرسول بعدم تدوين الاحاديث لكي لا تختلط خطأ بالوحي قائلاً:« لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي فليتبوأ مقعده في النار.»[16]. لذلك كله اباح الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز تدوين السنة. فبدأت عملية جمع الاحاديث وتدوينها، وتنقيتها مما شابها من دس واختلاق، وجاءت بواكير تدوينها في كتاب ” الموطأ ” للامام مالك بن انس. وشكل منهج تدوينها الخطوة الاولى والرئيسة لنشوء الكتابة التاريخية.

5 – التعرف الى الاجماع الاسلامي: ان الاجماع الاسلامي هو ما اجمع عليه الصحابة والتابعون ومن تلاهم للفصل  في مختلف الامور النزاعية، وصار الاجماع من مصادر الفقه والسياسة في الاسلام وعليه اعتمد الحكم الاموي.[17]لذلك تم تدوينه للعودة لأحكامه كلما دعت الحاجة.

6 – نظريتا القدر والجبر: ادت الفتنة الاولى في الاسلام او الحرب الاهلية الى انشقاق المسلمين بين معسكرين: طالبي واموي، وبالتالي الى نشؤ الفرق الدينية والسياسية في الاسلام. وبعد استتباب الحكم الاموي، على الرغم من معارضة الشيعة والخوارج وفرق دينية اخرى، عمدت هذه الفرق الى تسويغ مواقفها بالاستناد الى الآيات القرآنية، ووضعت نظريات مستقاة منها يدور معظمها حول الخلافة. فاعتمد الامويون، بعد ان تسمى الخليفة الاموي” خليفة الله”، على نظرية الجبر القاضية بقبول الامر الواقع لانه مقدر من عند الله، فهم تولوا السلطة بارادة الله ورضاه من اجل اعلاء شأن الاسلام ونشره في العالم، مسوّغين بذلك وجوبا دينيا لطاعتهم. وكان يتعذّر على المعارضة القول استخدام نظرية الجبر كونهم خارج السلطة، فكان على المعارضين مواجهة هذا الامر من المنطلق الديني عينه معتبرين ان الله القادر على كل شيء ما قدّر كل الاحداث والافعال بما في ذلك ذنوب الانسان واخطاؤه،  واعتمدوا مبدأ القدر أي قدرة الناس على اختيار افعالهم ومسؤوليتهم عنها تجاه الله. وجاء الترويج لهذه النظريات ليسهم بالكتابة التاريخية وبتطورها.

7 – السيرة النبوية: تعتبر السيرة النبوية نبراسا لكل مسلم، والتعرف عليها بكل ابعادها وتفاصيلها ضرورة ماسة، فهي تختزن حياة الرسول والصحابة وكفاحهم من اجل انتشار الاسلام، وتزخر ايضا بامجاد المسلمين الاوائل: معاركهم الاولى: بدر احد والغزوات الاخرى، والآيات التي نزلت من اجلها. وهي الى ذلك تضم العقيدة الاسلامية، والاسس الواجب على كل مسلم اتباعها، كما تختزن مصادر التشريع الضرورية جدا لدولة الخلافة. اضافة الى ذلك فقد اهتم حافظو السيرة بتمييز الرسول عن خلفيته الجاهلية، كما عن الوسطين المسيحي واليهودي لاعطاء الاسلام استقلالاً تاما عن المحيطين المذكورين. فكان لا بد من تدوين السيرة وحفظها، والافادة منها في العديد من النواحي السياسية والدينية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية.

ب – العوامل السياسية. قد تكون العوامل السياسية ساهمت بزخم في تطور الكتابة التاريخية لشدة النزاعات التي تلت مقتل الخليفة عثمان بن عفّان. فقد اهتز مفهوم الشورى والبيعة بفعل مستجدات متنوعة وعلى مختلف الصعد، حتى بات النظر الى مفهوم الخلافة والدولة متلونا بالصراعات السياسية. وقد اثّر كل ذلك على استيعاب الناس لفكرة الامة. وسنقتصر في كلامنا على اربعة عوامل رئيسة هي:

  1 – الخلافة: لقد طرحت في الدولة الجديدة مشاكل اساسية مثل قضية الخلافة من اجل قيادة المسلمين بعد وفاة الرسول. وكانت احداث سقيفة بني ساعدة وما تلاها من امر الخلافة جديرة باهتمامات المسلمين ولا سيما المجلس الانتخابي او الشورى الذي شكله عمر بن الخطاب، كذلك مقتل الخليفة عثمان وما تلاه من صراعات بين الامام علي ومعاوية، بل بين الامويين والشيعة عموما والآثار التي ترتبت عليها. ان ذلك الخط البياني من الاشكالات، وكيفية  او محاولة حلّها، وما نجم عنها من آثار شكٌل دروسا للمسلمين كان من الواجب تسجيله.

2– نشؤ الدولة: بعد ان استقر الحكم الاموي وظهرت معه الدولة السلالية على غرار الدول المستندة الى القانون الوضعي، وحرمت قبائل اخرى من هذا الحق، قامت فرق دينية تناصب الامويين العداء ولا تعترف بحقهم وحدهم بالدولة والحكم. وعمد الامويون ومناصروهم الى تشييع فكرة الدولة والدفاع عنها، في حين سارع الرافضون الى تدوين اخبارهم الاقليمية بمعزل عن اخبار الدولة ككل، ما ادى الى ردات فعل ساهمت بطريقة غير مباشرة الى بلورة فكرة الدولة.    

3– فكرة الامة: اعتمد الاسلام على الامة اساسا للتضامن عوضا عن العصبية القبلية، واذا كانت الامة تبناها الصحابة مهاجرون وانصار، فان استيعابها ظل مرتبكا عند مجموع القبائل التي لم تستطع الانفلات من سيطرة العصبية القبلية على الرغم من توسع الدولة عن طريق الفتوحات.

    لذلك، حاول المسلمون الاوائل ولا سيما القيمون على السلطة  التشديد على دور الرسول الزمني كقائد للأمة الاسلامية وعلى دوره الديني الملازم لها كونه الملهم الديني، وخصوصا سلوكه في المدينة( وقد يكون عهد الصحيفة دليل بارز على ما ذهبنا اليه). مشددين على تواصل الخلفاء مع حياة الرسول الزمنية، ولا سيما التركيز على ممارسة الشعائر الدينية والسلوك الاجتماعي والاخلاقي النابع من توجّهات الرسول وسلوكه، كما حاولوا التشديد على حسن سلوك الحكام قدر المستطاع، وعلى استيفاء الضرائب كي تصرف في صالح المسلمين (الامة) لكي تترسخ فكرة الامة عند جموع المسلمين وليس عند القيادات فقط. وجهد الامويون كي يظل العرب امة ممتازة تجاه المسلمين من غير العرب (الموالي) مما اضعف فكرة الامة الاسلامية، غير متقيدين بالنص القرآني وبتصرفات الرسول. ومع ذلك ظل العرب خاضعين في مواقف عديدة للعصبية القبلية التي عززتها المعسكرات الجديدة كالجابية والكوفة والبصرة والقيروان والفسطاط التي شيدت مراعية التوزيع القبلي متجاوزين مفهوم الامة. ولكن هذا الامر سيبدأ بالانحسار لصالح الامة الاسلامية مع قيام الدولة العباسية،  وسيتخطى التأريخ القبلية والاقليمية لصالح الامة.

4– الفتوحات: شكلت الفتوحات القسم الثاني البارز في حياة العرب المسلمين، وغدت احدى اهم المرتكزات الاساسية في تطور مسارهم التاريخي، ويمكن تصنيفها ايضا من ضمن الدوافع الدينية، لأنها جهاد في سبيل الدين من اجل السيطرة على الشعوب الاخرى ودفعها لإعتناق الاسلام. وكان المسلمون مقتنعين انهم ينفذون الإرادة الآهية التي ارادت للاسلام، الذي هو الدين عند الله، السيطرة، واسهمت معهم بنشره. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير انتشاره السريع واحتلال المسلمين مساحات شاسعة جدا، وقضاءهم على الامبراطورية الفارسية وانتصاراتهم السريعة على الامبراطورية البيزنطية. فكان التأكيد على هذه الانجازات والتغني بها، وابراز دور القبائل في الفتوح، والتأكيد على نصيبهم بالغنائم، وعلى صراع الاقاليم مع السلطة المركزية، يشكّل مواد مهمة جدا للإخباريين الاوائل. 

 ج – العوامل الاجتماعية والتنظيمية: يبدو احيانا عسيرا الفصل بين الاجتماعي والسياسي بسبب التداخل بينهما من حيث الهدف على الاقل؛ فدور الدواوين سياسي في الاساس ولكن بعض غائياته اجتماعية. وكانت مدلولات نشوء الانساب سياسية واجتماعية في آن. ولم يكن اعتماد التقويم الهجري الا لتثبيت الاطار الزمني للاسلام، وهو اطار يتمحور عليه السياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي.

 وعلى ذلك، يمكن ايجاز هذه الدوافع بثلاثة:

1 – نشؤ الدواوين: في عهد عمر بن الخطاب برزت الحاجة الى تنظيم جديد في الدولة ولا سيما من اجل العطاء، فتم استحداث ديوان الجيش (العطاء) وسجلت فيه اسماء الذين يحق لهم بالرزق بدءا بمن ارتبطوا بالرسول بعلائق مباشرة، ومن ثم العرب طبقة بعد أخرى تبعا للاسبقية في الاسلام، وصولا الى المجاهدين. وافرزت هذه العملية الاهتمام بالكتابة، وببروز اهمية الانساب في الاسلام وفق التراتبية المستحدثة، وان كان الاسلام لا يقرّها. وفي عهد عبد الملك بن مروان تمّ تعريب الدواوين واضحت الحاجة ماسة الى الكتابة بالعربية فتعززت اللغة العربية على حساب اللغات الاخرى. كما ادى تسجيل الوثائق في الدواوين الى ابراز اهمية التدوين في حفظ تراث الامة.

2 – الانساب: ان العصبية القبلية، التي حاول الاسلام محوها واستبدالها بالمساواة، زادت بأهمية الانساب، اذ  بنيت  المعسكرات مثل الكوفة والبصرة والجابية…على اساسها، كما تمّ اسكان القبائل في الامصار تبعا للاسس عينها. وزادها زخما نشؤ ارستقراطية اسلامية تبوأت المراكز الرئيسة في الدولة شكلت قريش عمودها الفقري ما عزّز التراتب الآنف الذكر. كما ساهم بتغذيتها النزاع العرقي والثقافي بين الموالي والعرب عنيت به تيار الشعوبية. لقد حاول المسلمون من غير العرب خصوصا الفرس التباهي على العرب على المستوى الثقافي خلال القرنين الاولين للهجرة ردا على معاملة العرب لهم كمسلمين من الدرجة الثانية، كما يرى بعض المؤرخين، ولا سيما في العهد الاموي؛ فقد حرمهم الامويون من شغل المناصب الاساسية في الدولة، ومن المغانم الاقتصادية التي كانت توفرها الفتوحات. وجاء انتقاد الموالي الفرس للعرب قاسيا بل عنيفا: فاتهموهم بالجهل والتخلف الفكري مسقطين عنهم اية مأثرة فكرية ما خلا الاسلام، ونزعوا الى تشويه التاريخ العربي بالبحث عن مثالب العرب وابرازها، ولنا دليل واضح في كتابات الهيثم بن عدي ” كتاب المثالب الكبير” و«كتاب المثالب الصغير» وفي كتابات غيره. وعمدوا، فخرا، الى نقل بعض ماّثرهم الادبية الى العربية، مثل:كليلة ودمنة لابن المقفّع و« خداي ناماه» الذي عرّبه بعنوان «سير الملوك»[18]، وهو يروي قصة التاريخ القومي الفارسي. ونقلوا اليها ايضا العديد من المؤلفات مثل «الكاه ناماه» أي طبقات العظماء[19]. كما انبرى الموالي الفرس الى الانكباب على علوم الدين، وبرعوا فيها ليبرهنوا للعرب مقدرتهم في مختلف العلوم. فرد العرب على كل تلك الاعمال بالحسب والنسب والفخر بتدوين انسابهم، ما ادى الى خدمة علم النسب بطريقة غير مباشرة. ولعب بعض الخلفاء دورا بارزا بالاهتمام بعلم النسب؛ فقد امر يزيد الثاني ( يزيد بن الوليد) باعداد سجل شامل للانساب[20] من اجل تنظيم العطاء وتوزيع القبائل على الامصار.

   ان كل ذلك جعل من الانساب عنصرا اساسيا في المجتمع تفاعل مع المستجدات وغيرها من العوامل، بتسجيل اعمال الشخصيات البارزة، فاصبح فرعا من فروع التاريخ، لا بل شكل ركيزة مهمة فيه.

3 – التقويم الهجري: يعتبر مجيء الرسول نقطة تحول في تاريخ العرب، واعطت التعاليم الاسلامية للاسلام، بعد ان ثبّت حضوره، بعدا عالميا، وازدادت اهميته عقب الفتوحات بعد ان انتشر بين الشعوب المغلوبة. فكان لا بد من صيغة زمنية تحدد انطلاقته وتربط احداثه بدقة وتعطيه استقلالا عن سير الخطوط الزمنية التي سبقته. وعندما اعتمد عمر بن الخطاب سنة 622م. بداية التقويم الهجري نشأ تقويم ثابت عند المسلمين ارتبطت به كل احداثهم. 

     ان هذه العوامل والمؤثرات في بداية التدوين وفي تطوّره لم تظهر دفعة واحدة انما بالتدرج وتبعا لتقدم الفكر في دولة الخلافة، وتلبية لحاجات فرضها التطور. من هنا جاءت الكتابة التاريخية الاولى خلال القرن الاول الهجري خجولة ترافقها الروايات الشفوية المتواترة، وظل العرب اوفياء للذاكرة يعتمدون عليها كسجل للأحداث والمآثر. وما ان انتصف القرن الثاني الهجري حتى باتت الكتابة عملية ضرورية للدولة والمجتمع بكل نواحيهما. وسارت الكتابة الاولى باتجاهين متميزين: اهل الحديث، والاخبار التاريخية. فاتجاه اهل الحديث انحصرت مواضيعه في البدء بكتابة السيرة النبوية التي اقتضى تدوينها التفتيش عن الاحاديث النبوية وجمعها، والتحقق من صحتها وتدوينها. ثم تخطى الامر السيرة الى بعض حوادث العصر الراشدي، التي جاءت وكأنها نتائج لها. ولم يكن لهذه الكتابات توجها تأريخيا بقدر ما كانت غايتها دينية تهدف للحفاظ على سيرة الرسول. وقد ترعرع وتطوّر هذا النوع من التدوين في المدينة اولا التي شهدت تطور القوة الاسلامية منذ الهجرة وحتى وفاة الرسول.

  وكان الاتجاه الثاني كتابة الاخبار التاريخية التي تركزت على تدوين اخبار المعارك والفتوحات في الاسلام ودور القبائل فيها، فضلا عن المستجدات في دولة الخلافة بما في ذلك توزيع القبائل على الامصار، ومقدار العطاء للقبائل او الافراد، والصراع على الخلافة، كما الصراع في ما بين العرب انفسهم لاسباب متنوعة. وقد نشأ هذا النوع من التدوين التاريخي في العراق الاقليم المعارض للامويين، وتحديدا في البصرة والكوفة بغية تخليد اخبار رجالاته. وانتشر هذا النمط في حواضر الاقاليم العربية الاخرى من دون ان تنحصر موضوعاتها بالتاريخ الاسلامي وحده، بل تناولت اخبار الجاهلية وشعوبا اخرى. من هنا تعددت مواضيع الاخبار التاريخية: اخبار العرب في الجاهلية، غزواتهم، انسابهم، احوالهم الاجتماعية والسياسية، فضلا عن المواضيعالتي ذكرناها آنفاً. ونتج من خلال كل ذلك دراسة الشخصيات البارزة في الاسلام ليس على مستوى القبيلة فحسب، بل على مساحة دولة الخلافة بما حبلت باحداث ارتبط بعضها بالديني او بالسياسي او بالاثنين معا. ما سيؤدي لاحقا الى نشؤ علم الانساب في الاسلام، والى اعتماد مناهج جديدة في تدوينه مثل التراجم و السير والطبقات. ولنا عودة تفصيلية الى هذا الموضوع.

ثانيا: السيرة النبوية وتطوّر الكتابة التاريخية.

1 – علاقة السيرة النبوية بالاحاديث النبوية: نشأت مدرسة التاريخ في المدينة، ولم تكن مدرسة بالمعنى الحصري للكلمة انما تيارا فكريا ان جاز التعبير، لتدوين السيرة النبوية لتعريف المسلمين على حياة الرسول لأنها نبراس يحتذى مقوّم لكل اعوجاج، وغاية لحياتهم.

ويمكن تعريف السيرة بشكل عام: هي كل ما اثر عن الرسول من قول وفعل منذ نزول الوحي عليه وحتى وفاته، بما في ذلك حياته وزوجاته ورسالته (القرآن) وغزواته وسرايا صحابته، وانتشار الاسلام في حياته.

    وانطلاقا من ان معرفتها ضرورة موجبة لكل مسلم انكبّ عدد من علماء الحديث على تلقينها إلقاء في المساجد في بداية الامر، ومن ثم تدرجوا بتدوينها. وبما انها ترتبط عضويا بالاحاديث النبوية قام فريق من العلماء بجمع الاحاديث وتدوينها، وهي عملية شاقة استوجبت منهجا جديدا للتثبت من صحتها، خصوصا بعد ان كانت قد نشأت الصراعات في الاسلام حول الخلافة بين الطالبيين والامويين وآل الزبير، وما استتبعها من قيام فرق دينية كالمرجئة والمعتزلة والمذاهب الشيعية المتعددة، لكل منها خصائصها وتوجهاتها الفقهية. وقد استند العديد من هذه الجهات السياسية –الدينية والفرق الى احاديث نبوية، ويعتقد بعض علماء الحديث والمؤرخين ان كثير منها  وضع لتأكيد صحة التوجه الديني والزمني لهذه الاحزاب المتعارضة في بعض وجوهها، او اقله لبعضها.

     وتأسيسا على ذلك، جهد المحٌدثون لجمع الاحاديث النبوية وتنقيتها مما شاب بعضها من دس واختلاق وتحوير، ومن ثم دوّنوها. وعرف هذا العمل بعلم الحديث. وقد عرّفه النووي «هو معرفة متونها وصحيحها وحسنها وضعيفها ومفصّلها ومرسلها ومنقطعها معضِلها ومقلوبها ومشهورها وغريبها ومتواترها واحادها وشاذها ومنكرها ومختلفها«[21]

2 – منهج المحدّثين: اعتمد المحدّثون من اجل التثبت من صحة الاحاديث على الاسناد، وهو ارجاع الحديث الى راويه الاول بالتحقق من منزلة رجال الاسانيد – الذين نقلوا الحديث عنه – الدينية  وسلامة منزلتهم الاجتماعية، ودقّة ادراكهم، معتمدين ضوابط صارمة اصطلح على تسميتها « الجرح والتعديل» وسميت ايضا «النظر بالرواة» وايضا «علم الرجال». وهذا العلم «يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بالفاظ مخصوصة»[22]. ويبتغى من الجرح والتعديل البحث عن رجال الاسانيد في ما يشينهم او يزكّيهم.   والجرح هو دراسة وضع راوي الحديث من جميع جوانبه الحياتية والدينية والاجتماعية، فاذا وجد فيه ثغرة واحدة كالفسق والكذب والتدليس او شذوذ، ُردّ حديثه، بل أسقط. اما التعديل فهو ايضا دراسة الراوي بالطريقة عينها ليتأكد المحدث من ان الراوي ثقة ويتصف بالامانة والصدق والفهم والمقدرة على الحفظ، شأن حال شهود العدول الذين لا شك بأمانتهم وصدقهم وتعلو شهاداتهم في المحاكم على كل الشهادات، واشترطوا بالراوي ايضا، كما الشاهد العدل، العقل والبلوغ والحرية. فاذا اجتاز الراوي كل هذه الاختبارات يُقبل حديثه.

   ويمارس الجرح والتعديل على كل رجال الأسانيد في الحديث الواحد، مثلا :”حدٌثنا ابو بكر بن اسماعيل عن ابيه عن سعد بن ابي وقاص قال”. يطبق الجرح والتعديل على ابي بكر بن اسماعيل، وعلى ابيه فإن كانا عدْلين قُبل الحديث، وان جُرح باحدهما رُفض. امّا سعد بن ابي وقاص فهو صحابي يقبل حديثه الا اذا اتهم بحالة من حالات الجرح، ونادرا ما يحدث ذلك، لان الصحابة اجمالا عدول. ولكي يقبل الحديث يجب ان يرتبط سعد برسول الله كأن يقول سمعت رسول الله يقول، والا أسقط. لان علماء الحديث صرفوا جهدهم، للتمييز بين الاحاديث ( الضعيف، والموضوع ،او الصحيح) بنقد رجال الاسانيد اكثر من اهتمامهم بمتونها معتبرين ان نقد المتن غير جائز متى صحٌ الإسناد. ولم يوجبوا الترجيح بين حديث وآخر باستبعاد الاضعف من حيث المعنى، او التوفيق بينهما، لان ذلك يؤدٌي الى الطعن بصحة الاسناد. وبالتالي أُبقي على هذه الانواع من الاحاديث في كتب الصحاح والسنن معتبرة صحيحة في حين انها متعارضة من حيث المعنى.

 واذا روى الحديث اكثر من صحابي بأسانيد متعددة يطبّق على الرواة قاعدة الجرح والتعديل ويؤخذ بحديث من رجال اسانيدهم عدول. وتصنف الاحاديث تبعا لرجال اسانيدها الى: ثابت، او صحيح، او ضعيف او مقبول.

     ان هذه العملية النقدية التي مارسها المحدثون، كانت الفضلى، واسّست لمنهج علمي طبقت قواعده على علم التاريخ ” التأريخ ” خصوصا ان معظم الاخباريين في القرنين الاول والثاني الهجريين والمؤرخين في القرن الثالث الهجري كانوا من المحدثين او على الاقل من علماء الدين.

 3- تدوين السيرة النبوية: خلال القرن الاول للهجرة كانت الرواية الشفوية المتواترة تنافس الكتابة، وتكمن اهميتها في انها حفظت لنا مضمون السيرة ومصادرها. ففي بداية الامر كان علماء الدين يختارون مواضيع مختلفة من السيرة يحدثون بها طلابهم ومريديهم. ولم يدوّن رواة هذا القرن كامل السيرة انما اختاروا مواضيع محدّدة فيها كتبوها لدوافع معينةكالنزول عند رغبة الحكام شأن عروة بن الزبير مع الامويين. وقد يكون تدوينها الخطوة الاولى على طريق الكتابة التاريخية وان لم يكن يبتغى من كتابتها التأريخ. لأن المناهج التي اعتمدت بتدوينها اضحت، كما سنلاحظ فيما بعد، المرتكز الاساسي او العمود الفقري للتأريخ عند العرب والمسلمين.

  ويعتبر عروة بن الزبير (ت 94/712م) اول من خاض هذا المضمار من دون ان يكون له منهج واضح وثابت، فقد اهمل الاسناد الا في حالات نادرة. ولكن مطلع القرن الثاني الهجري سيشهد تطورا ملحوظا على مستوى تدوين السيرة، الذي سيضطرد على مساحة هذا القرن ليرسي مضمونها ومنهج تأريخها الذي سيغدو منهج التأريخ فيما بعد. ولعل سيرة محمد بن مسلم بن شهاب الزهري م 124/742م اول بواكير هذا النهج، وتلاه كثيرون نخصّ منهم بالذكر: محمد بن اسحق (ت 151/760م ؟) ، ومحمد بن عمر الواقدي (ت 207/823 ).

 أ- النظرة التاريخية في تدوين السيرة: ان النظرة التاريخية تبنى على المضمون، فتحدد مدى احاطة المؤرخ بالموضوع الذي يدرس؛ هل هو انتقائي كأن يختار جزءا من موضوع متكامل لغاية محددة ؟ ام انه احاط به احاطة تامة وشاملة، هل حصر تركيزه بناحية معينة منه وتطرق الى الاقسام الباقية سطحياً ؟ مدى ربطه بين الديني والاقتصادي والسياسي. هل الرؤية الغالبة تمحورت على الناحية الاقتصادية وعلى اساسها فسر التاريخ، ام انه اعتمد على التفسير السياسي والعسكري؟ ما الدور الذي اعطاه المؤرخ للعامل الاجتماعي في اطار هذا المعترك الفكري؟ هل كان موضوعيا في استقراء الاخبار، ام انه اتخذ موقفاً مسبقاً منها؟

   ان هذه النظرة بكل ابعادها وجزئياتها، تشكّل منهج المضمون، لأنها تحدد عمق البحث او سطحيته، وتلقي الضوء على الآلية المتبعة بجمع  الحقائق المفردة وترتيبها، ومقدار التوازن في ضبطها. انها باختصار تحدد مفهوم الرؤية العمودية والافقية للموضوع المدروس. واذا كنا لا نطلب كل ذلك من مدوٌني السيرة فاننا نحدد فقط مفهوم النظرة التاريخية بالمطلق.

   اما بالنسبة للسيرة فقد اختلفت نظرة الاخباريين الى اطارها الزمني؛ فمنهم من عاد بها الى بداية الخلق شأن ابن اسحق، ومنهم من حصرها في الغزوات كالواقدي، تبعا لرؤية كل منهما الى الديني، والى التلازم بين الديني والتاريخي. وقد لعب التطوّر الفكري والتقدم الزمني دوراً في الفصل بين الديني والتاريخي ضمن اطر محددة كان الفكر انذاك يسمح بها.

     وعلى هذا، جاءت نظرة الزهري متأرجحة غير محددة المعالم بدقة، ممّا يطرح تأثير زمانه عليه، وقلة خبرته في التأريخ، وربما ضآلة معلوماته عن الفترة السابقة لظهور الاسلام، لأن اهتمامه انصب على الديني. فقد عاد بها الى بداية الخلق ذاكرا بعض المحطات من تاريخ بعض الانبياء، فالوحي على الرسول، ومن ثم الغزوات وتفاصيل متعلقة بالرسول. ممّا يمكننا القول انه حاول الاحاطة بالسيرة من جميع اطرها، وتمكّن من تحديد  هيكليتها. وتعدتّ نظرته السيرة الى نتائجها القريبة اي العصر الراشدي اذ كتب محطات فيه، مرسيا نهجا سيسير عليه عدد وافر من المؤرخين الكبار خلال العصور الوسطى، فدونوا تاريخ المسلمين تراكميا بدء بالسيرة وانتهاء باحداث عصر كل منهم.

    اما نظرة ابن اسحق فقد جاءت اكثر دقة وشمولاً؛ اذ عاد بها الى بداية الخلق مرورا بتاريخ الانبياء وتاريخ العرب في الجاهلية، مركّزاً على تاريخ اليمن واجداد الرسول، فالوحي وصولا الى الغزوات. وتحدّث عن نتائجها القريبة على غرار الزهري.

    من هنا، يمثل ابن اسحق مرحلة متطورة في الوعي التاريخي، اذ أرّخ لتاريخ النبوة آخذا بالاعتبار نظرة القرآن الى الكوْن، فجعل النبوات كلا يكمل بعضها البعض الآخر؛ فاليهودية تمهد للمسيحية، التي بدورها تمهد لمجيء الرسول محمد، ويكون بذلك أرّخ لوحدة الفكر الديني. وبحديثه عن تاريخ العرب في الجاهلية يبدو وكأنه يحاول طرح معادلة جديدة تشرح تحول وضع العرب من الجاهلية الى الاسلام تحوّلا واضحا وملموسا نحو الافضل، لا بل نحو الهداية.

   اما الواقدي فحصر السيرة بالغزوات فقط، متأثرا، ربما بمنهجه التأريخي، بحيث أرّخ لكل الغزوات طارحا ابعادها الزمنية ما امكنه الى ذلك سبيلا. مميّزا بين الامر الآلهي والتنفيذ البشري، ممّا اعطى نظرته بعدا جديدا؛ فهي ليست دينية بالمطلق، بل دينية بإطار التاريخ. وهو تحوّل بالنظرة التاريخية عند العرب والمسلمين نحو ارتباط الزمني بالديني، ولعل افضل نماذجه دور الجهاد بالمحافظة على المسلمين وبتطور قوتهم ونشر الاسلام.

     وتأسيسا على ذلك، نلاحظ بوضوح تطور النظرة التاريخية في الكتابة التاريخية وان كانت منطلقاتها دينية. فهي تلاءمت مع عوامل التطور على المستويين الزمني والديني: تطور الفكر العربي عبر الاحتكاك بالحضارات القديمة، وتطور العلوم الدينية تلبية للحاجات التشريعية.   

ب – المصادر وطريقة المعالجة: ان المنهج هو الطريقة التي تساعد المؤرخ على اكتشاف الحقيقة التاريخية التي هي مطلقة في الاساس، وقد لا يعرفها تماما إلا من شارك بصنعها. وبالتالي هو موقف من المصادر والاحداث، يستخدم فيه المؤرخ كل الوسائل المتاحة مثل «العلوم المساعدة» المعروفة اليوم «بعلوم الانسان»  لاستقراء الماضي، من دون اتخاذ مواقف مسبقة منه. لأن الوثيقة او النص معين غني جدا بالمعلومات، وبقدر ما تُطرح عليه اسئلة ذكية بالمقدار عينه يجيب ممّا يعمق فهم الاحداث ومقاربة الحقيقة. والموقف من الماضي هو اعادة تصوّره او رسمه كما حدث، لا كما يفترض المؤرخ حدوثه تبعا لآرائه ومواقفه المسبقة. من هنا، يرتبط المنهج بالموقف من المصادر واخضاعها للجرح والتعديل، واستخدام المؤرخ لكفاءته بعد التبحّر بالمصادر بوضع الحدث باطاره التاريخي العام، وفي سياق الحوادث كلها، بما في ذلك اسبابه، حوادثه، نتائجه. لأن من دَوّن المصدر قد يكون، على رغم عدالته وتقواه، وقع مكرها بالخطأ. ويجدر بالمؤرخ الا يكتفي بعدد معين من المصادر، لأن وفرة الوثائق والمصادر على اختلاف انواعها، والتباين ببعض رؤاها، يمكّننا من الولوج الى الماضي والاقتراب قدر المستطاع من الحقيقة الماضوية: هدف المؤرخ. لأن تنوع المصادر وتباينها من الحدث التاريخي هو غنى وليس تعارضا مع الواقع، ويكشف للمؤرخ المدقق الخفايا المتنوعة، التي باستقرائها بتأنٍ يتمكن من اعادة تكوين الحدث بنسبة عالية من الصحة. فالمنهج اذاً هو الوسائل التي نستخدمها للولوج الى الحقيقة الماضوية والاقتراب منها قدر المستطاع، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالنظرة التاريخية. بل هو النهج العلمي والوضعي الذي يحتضن النظرة التاريخية- المعروفة بمنهج المضمون- ويبلورها.  

    ان منهج السيرة لا يحتمل كل هذا الكم من الادراك التراكمي المعرفي الوضعي، بل هو تدوين احداث ضمن رؤى مقدسة على وجه العموم. وادّت مواقف الاخباريين منها الى تباين في مناهجهم، او بالحري الى اختلاف تبعا لدقة كل منهم. فأحداث السيرة كانت معروفة اجمالا ضمن اطرها الكلية، اما التفاصيل فكانت تحمل من المعرفة والدقة الشيء الكثير. وان محاولات مدوّيها الوقوف على هذه الدقائق والتفاصيل، رجّحت منهجا على آخر.

    وعليه، يرتبط منهج اخباريّي السيرة بموقفهم من المصادر من حيث الدقة والوفرة، واخضاعها لقواعد الجرح والتعديل، وبمقدرتهم على بلورة نظراتهم التاريخية بإبراز السيرة ليس من حيث حدث مضى، بل كحدث عالمي ديني تحتضن اسسا تشريعية رئيسة، ونبراسا سلوكيا اجتماعيا يحتذى، وقواعد دينية هادية، وكأحد مفاصل التاريخ الكبرى. وكلما تمكّن مدوّن السيرة من ابراز هذه الحقائق ومن ربطها بالواقع التاريخي كحدث عالمي ديني، بالاستناد الى مصادر منتقدة علميا، كلما جاء منهجه راقيا وخلاقا. وتزداد اهميته باتباع التسلسل الزمني، وبربط الحوادث زمنيا لتثبيت اطار السيرة التاريخي.

  كثر الذين دوّنوا السيرة، ومن العسير جدا ان نتناولهم جميعهم بالدراسة، بحيث يغدو الموضوع دراسة بمنهج السيرة النبوية وتطورها، اما غايتنا فهي اعطاء فكرة واضحة عن تطوّر منهجها، وتأثيره على مناهج مدارس الاخبار التاريخية، وتاليا على مناهج المؤرخين الكبار. ما يجعلنا نقتصر في دراسة المنهج على ثلاثة اخباريين من القرن الثاني الهجري هم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في مطلعه (ت 124/742)،  ومحمد بن اسحق المطلبي في وسطه (ت151/760)، ومحمد بن عمرالواقدي في اواخره (ت 207/   823).

4- نماذج عن مدوني السيرة

أ- محمد بن مسلم بن شهاب الزُهري: عاد الزهري بالسيرة الى بداية الخلق وجعل تاريخ بعض الانبياء الذين ذكرهم في فترة ما قبل الاسلام، مقدمة لبدايتها، محددا بذلك تاريخيتها ومفهومها الديني؛ فالسيرة، من وجهة نظره، لا تبدأ بميلاد الرسول بل دذورها قديمة جداً، لأن الاسلام دين ازلي، ولا تنتهي بوفاته بل تؤسس لتاريخ المسلمين منذ ان اظهر الرسول دينه للعالم. ممّا دفعه ليأخذ التوالي الزمني للحوادث بعين الاعتبار، من دون ان يعني ذلك تسلسلا زمنيا، ولا ربطا بين الاسباب والنتائج. بل ذكراً لمعظم الغزوات وفق تسلسلها، وتحديد تاريخ بعضها، وتاريخ هجرة الرسول الى المدينة. ذلك ان مفهوم الزمن لم يكن بعد قد استقرّت ابعاده في ذهنية المدوّين. ومع ذلك، فان ذكر بعض التواريخ اسهم في تثبيت اطار السيرة الزمني وان بشكل مشوش.

اعتمد الزهري على الاسناد في تحقيق رواياته والاحاديث النبوية واخضعها كلّها لمبدأ الجرح والتعديل، رغم انه استقاها من عائشة زوج الرسول، وآل الزبيْر ولا سيما استاذه عروة بن الزبير، ومن كل من يمكن ان يكون عنده حديث. ممّا يعني ان فكر الاخباريين كان بدأ الانطلاق نحو مصادر اوسع مما كانت عليه في القرن الاول الهجري.

    وكان ذكر الاسانيد يفتت السياق العام، فاوجد الزهري طريقة جديدة لشد الاخبار بعضها الى البعض الآخر تمنع تفتيتها قدر المستطاع عرفت بالاسناد الجمعي، وهي تقوم على ذكر سلاسل اسناد حول موضوع معين، تتقدم متن الرواية.

    وتسربت الى بعض أخباره قصص شعبية وإسرائيليات نتيجة اهتمامه بتاريخ الانبياء واعتماده على اخبار اليهود، كما حوى اسلوبه الشعر والحوار والخطابة تمشيا مع الاسلوب السائد.

بمحمد بن اسحق المطلبي: ولد ابن اسحق في المدينة عام 75 /695 او 85/ 705، وتثقّف على اعلامها ومحدثيها. ورغبة بالازدياد بالعلم والمعرفة قام بعدة رحلات بدأها بالاسكندرية، فالكوفة، والجزيرة والري والحيرة الى ان استقر به المطاف في بغداد حيث التقى الخليفة العباسي ابا جعفر المنصور وقدّم لها كتابه السيرة النبوية كهدية لإبنه المهدي.

    ويعتقد بعض الموؤرخين ان ابن اسحق وضع كتابه في السيرة قبل قدومه الى بغداد، وكان املاه على عدد من العلماء مثل زياد بن عبد الله البكائي، ويونس بن بكيّر الشيباني، ثم عدّله نزولا عند رغبة الرشيد ليتوافق مع هوى العباسيين؛ فحذف منه بعض المواقف المحرجة للعباسيين مثل: قتال العباس عم الرسول الى جانب المشركين في بدر، ووقوعه في الاسر[23]، وفريق آخر يعتبر ان ابن هشام من قام بهذا التعديل. توفي ابن اسحق عام 150/768 او 153/ 770، وبعد مرور نصف قرن على وفاته عدّل ابن هشام وهو احد الفقهاء والنحويين الكتاب وهذّبه وهو النسخة التي بين ايدينا اليوم.

    نظر ابن اسجق الى السيرة نظرة عميقة جدا فعاد بها الى بداية الخلق وقسّمها الى ثلاثة اقسام اساسية: المبدأ، والمبعث، والمغازي. فجعل المبدأ قسمين رئيسيين: الديانات السماوية السابقة على الاسلام، والتاريخ الجاهلي  وقد قسّمه ثلاثة اقسام هي: تاريخ اليمن في الجاهلية، تاريخ القبائل العربية واساليب عباداتها، وتاريخ مكة الذي يحوي على اخبار قريش قبيلة الرسول.

     حصر المبعث بمجيء الرسول ونزول الوحي عليه والصعوبات التي واجهته هو والصحابة في مكة، ثم هجرته الى المدينة. اما المغازي فتحدث فيها عن حياة الرسول في المدينة وانتشار الاسلام في عهده بما في ذلك عهد الصحيفة، وغزوات الرسول وسرايا صحابته حتى وفاته.

 ويمكننا من خلال هذا التقسيم اعتبار نظرة ابن اسحق عميقة جدا ربطت بين الديني والزمني؛ فقد تناول الديانات السماوية بحلقة تسلسلية وكأن الواحدة تمهّد الى الاخرى ليجعل من الاسلام الدين عند الله. محيطا بتاريخية وقدسية بالديانات السماوية كلها، وهي المحاولة الاولى في التاريخ لمثل هكذا اطروحة. وشكّل حديثه عن العرب في الجاهلية محاولة لتويضح احوال العرب الدينية والاجتماعية الساسية، ومآلهم بعد دخولهم في الاسلام نحو الافضل بل نحو الهداية والاستقلال السياسي والتطور الاجتماعي. وجعل الغزوات توضح هذه الرؤية وتبلورها، واستكملها بالحديث عن العصر الراشدي، الذي يمكن اعتباره نتيجة مباشرة للسيرة النبوية.

   اما مصادر ابن اسحق فقد تعددت وتنوعت: الكتاب المقدس، وروايات يهودية ومسيحية، وبعض الاساطير، ووهب بن منبه، ووروايات استقاها من الموالي، والقصص الشعبي، وشيوخ اهل عصره، والقرآن، والاحاديث النبوية. وهي الى ذلك غنية ومتعددة، حاول من خلالها الاحاطة بأكبر قدر من المصادر المتوفرة.

   لم يتبع منهجا واحدا في مدوناته لأنه عاد بالسيرة الى بداية الخلق، معتمداً على القصص المتداول عند اليهود والمسيحيين في حديثه عن الانبياء من دون اخضاعها الى للجرح والتعديل، مكتفياً بايراد ما وصل اليه عن طريق السماع، ما جعل اسلوبه قصصيا في هذا القسمً. وفي اخباره عن تاريخ العرب كان ينقل مباشرة عن الآخرين ولا سيما عن وهب بن منبه، فجاء ايضا هذا القسم قصصأ تاريخيا من دون اي نقد. اما سيرة الرسول منذ الوحي وحتى وفاته فقد اتبع فيها مبدأ الجرح والتعديل بتفاوت، فجاءت اسانيد المغازي قوية جدا ومبنية على الاسناد الجمعي.

 ان اهميته تتجلى بتقسيم السيرة الى ثلاثة اقسام: المبدأ، والمبعث، والمغازي، وبذكر معظم تواريخها ممّا تتثبتها زمنياً ضمن هيكلية متكاملة. وجاء تدوينه للعهد الراشدي في كتابه الضائع «تاريخ الخلفاء» ليربط السيرة بتاريخ المسلمين، واستطرادا فان تاريخ المسلمين يبدأ بالسيرة من بداية الخلق، وتستمر نتائجها حتى انتهاء الزمان. ما دفع من سيأتي بعده لاتباع هذه النظرة الجديدة بحيث ان مؤرخين مشهود لهم سينهجون طريقته وفق افق اوسع، مدوّنين تاريخا عالميا منذ بداية الخلق حتى عصرهم شأن الطبري وغيره.

    واذا كانت هناك مآخذ عليه من حيث نحله للشعر، وتضمين كتابه بعض الاساطير، وتعديله لتتوافق وهوى العباسيين، فان ذلك لا يبخس الكتاب قيمته خصوصا بعد ان عدّله ابن هشام، وهو يعتبر افضل واتم سيرة عن الرسول.

ج – محمد بن عمر الواقدي[24]: اما الواقدي، في كتابه «المغازي» فقد خطى بمنهجه خطوة مهمة على صعيد البحث التاريخي بذكر مصادره الاساسية الخامسة والعشرين في مقدمة كتابه، فجعلنا نحكم على جديتها ورصانتها قبل الشروع بقراءة الكتاب. اما ابرزها فهي: الزهري، وكل من كتب بالسيرة ممن سبق الواقدي، الاحاديث النبوية، القرآن، اولاد واحفاد من استشهدوا في الجهاد او شاركوا فيه، اضافة الى ابن اسحق الذي اخذ عنه من دون ان يذكره لأنه كان غير موثوق عند علماء المدينة. فجاءت مصادره قوية جداً غالباً ما تنتهي بمن شارك بالاحداث، او شاهدها، او من أخذ عن هؤلاء، وغنية متنوعة شاملة اخضعها جميعها للجرح والتعديل.

     وقد اقتصرت السيرة عنده، كما اسلفنا، على الغزوات، وهذا أمر غاية في الاهمية على المستوى التاريخي، اذ حاول الواقدي الفصل بين الديني والتاريخي، معطيا السيرة، اضافة الى جانبها المقدس، بعدا تاريخيا اساسيا من حيث تمييزه في الغزوات بين الأمر الإلهي الداعي اليها، والأمر الدنيوي المتمثل بتفاصيلها. وهي الى ذلك احداث تاريخية بحتة، وكأنه مهّد، من غير قصد، للفصل بين علمي الحديث والتاريخ. ويتضّح الأمر أكثر بذكر الواقدي ثبتا، في مستهل كتابه، بجميع الغزوات وتواريخها، لأن ربط الحوادث زمنيا يعتبر من اهم اسس التأريخ. وخطى الواقدي خطوة أخرى على مستوى التنظيم والمنطق باتباعه التسلسل التاريخي للأحداث، وان من دون ترابط سببي ونتائجي.

  ان انجازات الواقدي المنهجية اكسبت السيرة بعدا تاريخيا واضحا، فقد ربط مضمونها عضويا بمسألة الجهاد في الاسلام، الذي لم يقتصر على الغزوات والسرايا في عهد الرسول، بل بتأسيس دولة الخلافة ايضا، التي جعلت الجهاد اساساً لنشر الدين وتوسعها. وتأكيداً لهذه النظرة كتب الواقدي كتابه «فتوح الشام» كما الكتب الأخرى مثل : «فتح العراق»، و«التاريخ الكبير» الذي تناول فيه اخبار الدولة الاسلامية حتى عام 179/796[25].

     واعتمد على ابحاثه الشخصية للتثبت من تطابق الرواية مع الواقع  الجغرافي ما اكسب اخباره تفاصيل جغرافية، وهي خاصةتأريخية لم نعهدها قبله. واعتمد في تدوين اخباره منهج الاسناد الجمعي وطوره عمّا أثر عن سابقيه فجاءت الاخبار أكثر لحمة والاحداث أقل تفتيتأ.

    قد نكون اعطينا اخباريي السيرة بعداً تأريخيا متطوراً لم يقصدوه ضمن هذا التكامل، رغم ان افق اخباريي النصف الثاني من القرن الثاني الهجري كان، على ما ازعم، اوسع مما يبدو للقراءة المبسّطة، فقد كانوا جميعهم محدثين ومتفقهين بعلوم الدين من دون ان يرقى تفقههم الى مستوى مذهب. وكانت لهم رؤاهم ونحن حاولنا استقراءها بعمق. وخدمت مناهجهم علم التاريخ على مستويين على الاقل: فقد استعار منهم المنهج الصارم للتأكد من صحة المصادر باخضعها للجرح والتعديل فتنقت الروايات والاخبار من نسبة عالية من شوائبها. وصارت نظرتهم، التي ربطت السيرة بنتائجها، اساسا للتدوين التاريخي، ممّا جعل تاريخ المسلمين يتعاقب زمنياً.


[1]  الخالدي،(طريف)، فكرة التاريخ عند العرب من الكتاب الى المقدمة، ترجمة، حسني زينه، دار النهار، بيروت، 1997، لقد افدت منه كثيرا كما اقتبست بعض معلوماته.

[2]   الخالدي، فكرة، ص20-21

[3]  روزنتال ( فرانز)، علم التاريخ عند المسلمين ترجمة صالح احمد العلي، مكتبة المثنى، بغداد، 1963 ، ص23

[4] – لن اتوسع كثيرا بهذا الموضوع فقد ناقشه ودرسه عدد وافر من المستشرقين والمؤرخين العرب، لذا، ولمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة روزنتال، علم التاريخ، وكذلك الخالدي(طريف)، فكرة التاريخ عند العرب، ترجمة حسني زينه، دار النهار، بيروت، 1977

[5]  فكرة التاريخ، ص23

[6]  الجاحظ،(عمرو بن بحر)، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1948-1950، ج1، ص287، لمزيد من التفاصيل انظر الخالدي، المرجع السابق، ص25

[7]   طريف الخالدي، ص27

[8]   روزنتال، علم التاريخ، ص 3 3

[9]  مصطفى ( شاكر )، التاريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1978 ، 4 اجزاء، ج1 ، ص54 – 55

[10]   مصطفى ، ص 55

[11]  المكان عينه

[12]  روزنتال، ص 34

[13]  المكان عينه

[14]  مصطفى، التاريخ العربي، ج1، ص57

[15]  القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 106

[16]   صحيح مسلم، ج8، ص229، نقلا عن صبحي(محمود)، في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافة الجامعية، الاسكندرية، 1975، ص304

[17]  مصطفى، ج1 ، ص63

[18]  البيروني، الآثار الباقية، ص 99

[19]  ابن النديم، الفهرست، نشر فلوجل، ص305-316 ، ومصطفى، ج1، ص69

[20]  الفهرست، ص 91

[21]  فوزي (ابراهيم)، تدوين السنة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 1994،ص146

[22]  كوثراني ( وجيه)، التأريخ ومدارسه في الغرب وعند العرب، الاحوال والازمنة للطباعة والنشر، بيروت، 2001 ، ج1، ص82

[23]  ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وابراهيم الايباري وعبد الحفيظ شلبي، دار الكنوز الادبية، بيروت، دون تاريخ، ج1، ص10

[24]  انظر حياته في فصل الاخبار التاريخية

[25] –  ابن النديم، الفهرست، ص144

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *