ي ادارة ندوة كتاب الدكتور شربل داغر ” بين السلطان والمقاطعجيين والعوام: الحراك والافق” في 6-11 – 2013

ايها الاصدقاء، ننتدي واياكم في رحاب الحركة الثقافية – انطلياس، لمناقشة كتاب الدكتور شربل داغر المعنون:”بين السلطان والمقاطعجيين والعوام: الحراك والافق”

يعزو تونبي تطور المجتمعات الى صراعات بين تيارات داخلية واخرى خارجية متعارضة معها، او الى تيارات داخلية قديمة واخرى تتوق الى الحداثة. فينتج عن هذا التفاعل التناقضي مسارات جديدة تكسر، على المدى القصير او البعيد وتبعا لشدة الصراع، الجمود الاجتماعي والسياسي، وتفسح في المجال الى بروز جديد ما تتحدد هويته وتاثيراته بتطور الاحداث.

على هذا تعرض الجبل اللبناني الى عدد من التحولات في القرن التاسع عشر هزت بنيانه السياسي والاجتماعي والسكاني والاقتصادي والفكري، تأتت من صراع على مستويات متعددة بين الموروث والتحرر من التقليد، وتأثرت في آن بمستجدات داخلية وعوامل خارجية متعاقبة. اجد من المفيد الاشارة اليها من دون الغوص في التفاصيل تاركا للمحاضرين الكرام امر العناية به.

 ويستوقفني في هذا المحال حدث انتقال الامارة من المعنيين الى الشهابيين في اواخر القرن السابع عشر 1697 لمساهمته الفعالة باحداث تحولات سياسية وادارية واجتماعية واقتصادية في الجبل اللبناني. وقد اسماه جان شرف الميثاق الشهابي، لأنه تم خلافا للتقليد الموروث؛ فبموجبه حصر الاعيان الامارة بالبيت الشهابي، وقيًدوا الامير بضوابط بنيت على مبدأ الشورى في الحكم. فشكلوا بذلك مجلسا استشاريا غير رسمي، حاصر صلاحيات الامير المطلقة. فاشترطوا عليه عدم تجنيد الاهلين الا بعد بموافقة الاعيان لأنهم هم وحدهم القيمون عليهم. وتعهد لهم الامير بشير الاول مقابل اعتلائه سدة الامارة الا يزيد الضريبة الا بمقدار …والا يقتل احدا من الاعيان. فصار الامير بموجب هذا الميثاق اول بين متساويين. و”انتقل مجتمع الجبل من التعايش الى الاجتماع السياسي الذي تمحور حول مفهوم السلطة وطرق ممارستها في المجتمع التعددي.” على حد تعبير جان شرف، بل بات المجتمع مركبا.  وكان اخلال اي حاكم بمندرجات هذا الميثاق غير المكتوب يهدد استقرار الجبل على المستويات كافة، لا سيما الوضع الامني.

يعتبر عهد الجزار نموزجا فذا في الفوضى السياسية، والرعب الاقتصادي، فقد شكل ابتزازه للامير والاعيان على حد سواء احد اهدافه الخبيثة. حتى باتت خلعة الولاية اكثر كلفة من نتائجها على المستويين الاداري والمالي، ما دفع الامير الحاكم ( يوسف حينا وبشير الثاني حينا آخر) الى خرق الميثاق الشهابي على الاقل على مستوى زيادة الضرائب، والاستقرار الداخلي.

 شكل موت الجزار سنة 1804 منعطفا جديدا في مسار الجبل اللبناني، فاستعاد الامير بشير الثاني توازنه، وشرع يبسط سلطاته على الاعيان ويسترد صلاحياته، مسقطا من حسابه مندرجات الميثاق الشهابي. فما عاد الحكم شورى بين الامير والاعيان، وصار المساس بصلاحياتهم الاقطاعية والادارية كما قتل من بشكلون خطرا عليه مباحا. ما ادى الى تبدل تدريجي في التركيب الاجتماعي في الجبل لصالح العامة. والى ذلك، ساهمت عوامل كثيرة في هذا التحول لاسيما الاختلال الديمغرافي لصالح المسيحيين، وتأثيره على بعض الامراء الدروز  ممن تحول تباعا الى المسيحية.

وساهم خطا شريف كلخاناه وشريف همايون في تحول بنية مجتمع الجبل؛ فاعتراف العثمانيين بحقوق الملة سنة 1839، وبالمساواة بين المواطنين امام القانون عام 1856. لم يستوعبهما غير المسيحيين في السلطنة العثمانية لا سيما في الجبل اللبناني. وبات اقرارهما مكسبا للمسيحيين  وغرما لغيرهم، وبالتالي عاملا صراعيا اضافيا.

وشكلت حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام احدى اهم التحولات التي عرفها مجتمع الامارة اللبنانية، لأن المساواة بين المواطنين وخرق شروط الذمة على الاقل لجهة حمل السلاح والخدمة العسكرية سبقت عهد التنظيمات العثمانية. فلم يستثغ الدروز بل لم يستوعبوا انخراط المسيحيين في جيش الامير بشير الثاني. واشتد قلقهم من الاخلال الديمغرافي لصالح المسيحيين ايضا.

وادت زيادة الضرائب وتكرارها في العام الواحد الى نقمة الناس والاعيان على الحكم المصري والامير بشير الثاني. وجاء تجريد الاهلين من السلاح ليزيد في الطين بلة. وادت ثورات الدروز على الحكم المصري واضطرار الامير الى قتالهم بجيش من المسيحيين الى الاخلال بثوابت التركيب الاجتماعي والسياسي. وزاد في الامر سوءا اقتصاص الامير من الاعيان لصالح المؤسسات التي استحدثها ليتمكن من الحكم، فخسر الاعيان الكثير من مصالحهم، وانتعش وضع العامة نسبيا .

وادت اشكاليات الضرائب الى قيام العاميات. التي تعتبر حدثا قائما بذاته، يؤشر الى اختلال في البنى الاجتماعية والسياسية. وهي تطورت تدريجا الى ثورات ليس على الامير والمصريين فحسب بل على الاعيان ايضا، واستغلها الخارج ليزيد الوضع تأزيما.

 وبنفي الامير بشير الثالث اانتهى الحكم الشهابي ونشأ حدث بالغ الاهمية تمثل باعتراف العثمانيين للمرة الاولى بحاكم مسيحي على جزء من الجبل “في القائمقامية المسيحية”. واهتزت البنى الاجتماعية والسياسية في الجبل، ونشأت المجالس، وصار للعامة دور بارز، ليزداد ابان الفتن الطائفية، مع بروز قادة جدد من جارج الامراء والاعيان، عرفوا بالشباب، وشيوخ الشباب.

ازداد هذا التطور في عهد المتصرفية، بحيث ادى النظام الاداري الجديد الى خلخلة بنية نظام المقاطعجي. فصارت الاهمية للمجالس المنتخبة بدءا من اسفل الهرم: المختار، مرورا بشيخ الصلح، والمندوبين، والقضاة، والمدراء، والحاكم، والقئمقام، بالتكامل مع نشوء الاقضية والنواحي.

ان اهمية كتاب الدكتور شربل داغر ” بين السلطان والمقاطعجي والعوام: الحراك والافق” هو ليس دراسته للبنى المتعددة في الجبل وتبيان الحراك الاجتماعي على حساب التقليد الموروث المتمثل بالامراء والاعيان عامة فحسب، انما بتطبيقه على البترون عموما وابرازه دور تنورين في هذا الحراك بالاعتماد على وثيقة جديدة. ان هذا النوع من الابحاث والدراسات يزيدنا معرفة بماضينا، ويوضح الفروقات بين التنظير والتطبيق العملي. ويلغي الكثير من المقولات التي اجترها كثيرون من دون الغوص في العمق. وكان قسم التاريخ في كلية الآداب الفرع الثاني رائدا بدراسة التاريخ الاجتماعي والريفي،  ولعل من ثماره اليانعة اطروحة الدكتور سيمون عبد المسيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *