علاقة الفاطميين بمن جاورهم في بلاد الشام في عهدي المعزوالعزيز 358-386/969-996

ان تاريخ العصور الوسطى الاسلامية يتجاوز المفهوم السياسي التقليدي المبني على الصراع على السلطة في المنظومة السياسية والاتنية والدينية الواحدة، فقد تجاذبته اطراف عديدة ذات مذاهب واتنيات متنوّعة، وديانات مختلفة. فمنذ قيام دولةالخلافة في العصر الراشدي كانت سيطرة السنة واضحة، واستمرت فعاليتها حتى اواخر العصر العباسي الثاني. ولم يكن الشيعة انذاك مستكيني المواقف، اومتخلفين عن الركب السياسي، فقد عملوا سرا وجهرا لانشاء دول خاصة بهم تبعا لمقتضيات الظروف وتقلبات الاحوال: فكلما كانت تضعف السلطة المركزية العباسية كانوا يغتنمون الفرصة لانشاء دولة او دويلة لا تلبث ان تزول.

    ولم يسر الوضع السياسي والاداري العباسي على وتيرة متصاعدة من النجاح، بل شاخت الدولة وهي بعد شابة، فاعتراها الوهن والتخلف عن مواكبة تطور الاحداث السياسية العاملة على الحط من هيبتها منذ اواخر العصر العباسي الاول، بل من اواسطه عندما قسّم الرشيد الدولة بين اولاده الثلاثة المأمون والامين والمعتصم، وتلا ذلك الصراع بين الاخوين الامين والمأمون المغلف بابعاد سياسية عنصرية ان جاز التعبير، او على الاقل عصبية بين العرب والفرس، مما انهك قدرة الدولة حتى عجزت عن الامساك ببعض الاطراف ولا سيما خراسان التي استقل بها طاهر بن الحسين قائد جيوش المأمون الفارسية.

    ولم يكن عهد المعتصم بافضل، اذا استُهلك جيشه الفارسي الجنسية بالحروب ضد الزنادقة، فاستعاض عنه بعناصر فارسية دخلت جماعات جماعات كل واحدة بامرة قائدها، فانعدم ولاء الجيوش الجديدة للخليفة وانحصر بالقادة[1]. وزاد في الامر سوءا عندما شرع هؤلاء ينازعونه السلطة السياسية والادارية[2]. ومنذ ذلك التاريخ بدأت مسيرة السلطة المركزية للدولة العباسية بالانحدار السياسي والاداري والعسكري، ففقدت سلطانها على معظم الاقاليم، وصار الخليفة صورة دينية، بوجه عام، ورمزا اجوف من كل سلطة سياسية وعسكرية فاعلة.

   في حمأة هذه الصراعات في المشرق العربي كانت الخلافة الفاطمية تأخذ طريقها الى الظهور العلني في عام 297/909 بفضل جهود ابي عبد الله الشيعي، الذي اظهر امامة سعيد بن الحسين، ثم اعلنه خليفة من سلالة الامام علي وفاطمة الزهراء. ولكن ذلك لم يؤد ابدا الى تخط المصاعب الكثيرة التي حبل بها المغرب، فقد كانت حقول الالغام المتنوعة تعترض سبيل استقرار الفاطميين فيه لدواعي متنوّعة بعضها مذهبي بحيث كانت الدويلات التي سبقتهم الى المغرب قد ركزت اقدامها فيه مثل دولتي الخوارج المدرارية والرستمية، ودولة الادارسة الشيعية، ودولة الاغالبة السنية[3]. ناهيك بطبيعة المغرب الوعرة ولا سيما في المناطق الداخلية، اضف الى ذلك مشاكل التركيب البنوي السكاني المبني على الولاء القلبلي. وقد تقاطعت بعض هذه العقبات فيما بينها حتى كادت تودي بالخلافة الفاطمية في ثورت الخوارج المتكررة ولا سيما ثورة ابي يزيد مخلد بن كيداد[4]، مما ادى الى وضع غير مستقر، وحالة استحضار عسكري دائمة الجهوزية.

    على ان عهد المعز لدين الله ( 341-365/953-975 ) هو الذي ارسى بفعالية ركائز حكم الفاطميين في المغرب باقامة علاقات وطيدة مع قبيلتي كتامة وصنهاجة، واخلصت له صنهاجة بحصولها على دور في السلطة[5]، وتمكن ايضا من مد صلاة ود او عدم اعتداء مع القبائل الاخرى. ولكن طموحه لم يكن الاستئثار بالمغرب، وهو الامام الاسماعيلي الفقيه الذي كتب رسائل عديدة في العقيدة الاسماعيلية[6]، بل رغب بتصدير المذهب الاسماعيلي الى كل العالم الاسلامي على الاقل. ولكن اصطدامه بالمقاومة الاموية الشرسة في الاندلس، واقتناعه ان الهدوء في المغرب ليس الا وقتيا بسبب العقلية القبلية وعداء القبائل بعضها للبعض الآخر، هذا فضلا عن ان نفوذ الفاطميين انحصر في المناطق الساحلية اجمالا، من دون ان ينسى المعز تداعيات ثورة ابي يزيد مخلد بن كيداد التي كادت تودي بالاسماعيلية زمن اجداده.

الفاطميون في المشرق: اذا كانت الصعاب التي نشأت في المغرب اقلقت الفاطميين، فان عوامل اخرى تقاطعت فيما بينها وعملت على توجيه انظار الفاطميين الى المشرق العربي وتحديدا الى مصر نقطة الانطلاق نحو العالم المشرقي الرحب. ان سيطرة الفاطميين على صقلية بعد انتزاعها من بني الاغلب، وكذلك بسط نفوذهم على طرق الواحات التجارية كانت تجعل من احتلالهم لمصر محورا مركزيا للسيطرة على  تجارة العبور بين الشرق الاقصى والغرب الاوروبي كون مصر تشكل اقصر حلقة اتصال بينهما، ولأن موقعها المشرف على البحر المتوسط في الشمال وعلى البحر الاحمر في الشرق، بما فيه من موانئ، امتدادا الى المحيط الهندي، يجعل حاكم مصر يسيطر على احد اهم الطرق التجارية القادمة من الشرق الاقصى. وكان حكامها منذ العهد الطولوني يبسطون نفوذهم على الاماكن الاسلامية المقدسة، وهذه النقطة كانت محورية بالنسبة للفاطميين وهي شكلت دافعا رئيسا لهم  لسلب العباسيين احد اهم اسلحتهم الدينية بعد ان كان القرامطة سلبوهم محورا آخر شديد الاهمية بسيطرتهم على طريق الحج الذي قطعوه مرارا وسلبوا قوافل الحجيج تكرارا. ولعل التشرزم السياسي والعسكري الذي حاق بالدولة العباسية ساهم بفعالية ليتوجه الفاطميون الى المشرق، فنجحوا في عهد الخليفة المعز لدين الله  وبقيادة جوهر الصقلي بالاستيلاء على مصر المتداعية امنيا واقتصاديا وعسكريا بفعل الازمات المتنوّعة التي اصابتها بعد وفاة كافور الاخشيدي.

   ويبدو من خلال ما اوردته المصادر المتنوّعة عن اعداد الجيش الفاطمي وعدته وصناديق الاموال التي حملها جوهر معه التي اربت على الألف ومائتي صندوق[7] ان الفاطميين ارادوا التأثير نفسيا واخلاقيا على المصريين اولا، وعلى سائر القوى السياسية والعسكرية في بلاد الشام في مرحلة ثانية، وبالتالي التأثير المعنوي السلبي على الخلفاء العباسيين.

  وازعم ان الخليفة المعز لدين الله درس المصوّر السياسي العسكري الجغرافي في المشرق العربي فوجد الظروف مناسبة للحول مكان العباسيين في مناطق عديدة؛ فقد كان البويهيون الشيعة يسيطرون سياسيا وعسكريا على العراق وبلاد فارس، وبدا الخلفاء العباسيون معهم فاقدي كل دور قيادي[8]. وكان القرامطة منذ زمن بعيد قد قضّوا مضجع العباسيين وانهكوا جنوب العراق بغاراتهم المتكررة التي احتلوا فيها البصرة مرارا وخلّفوا فيها دمارا كثيرا، كما كانت لهم سيطرتهم على قسم كبير من بلاد الشام: في دمشق، وفي البحرين. وكانت تجمعهم بالفاطميين صلاة المذهب الواحد عموما فتوقعوا منهم المساعدة لاضعاف القدرة العباسية السياسية والمعنوية على الاقل. وكان الحمدانيون الشيعة يسيطرون على شمال بلاد الشام في الموصل وحلب وينازعون الاخشيديين السنة السيطرة على قلب بلاد الشام. فكان ذلك المصوّر يؤشر الى انقسام العالم الاسلامي الى فريقين مذهبيين: سني وشيعي. وكانت المعطيات تؤشّر بدورها الى غلبة الشيعة على مراكز القرار حتى في بغداد حاضرة العالم الاسلامي السني، واذا اتحدوا جميعهم قد ينتصرون على السلطة العباسية ويحلون مكانها.

 ومع ارجحية هذا الرأي الذي قال به مؤرخون كثر ازعم ان التاريخ لا يدرس او يفسّر على اساس ديني اومذهبي فقط، على رغم ما لهما من تأثير في تقلب الاحوال وتطور الاحداث وتأثير على الناس، لأن تاريخ العصور الوسطى حافل بالمواقف والتوجهات التي طالما خالفت النظرة الدينية والمذهبية في تفسير الاحداث. فالمصالح الفردية غالبا ما كانت تتفوّق على ما كان يفترضه السلوك المذهبي او الديني من اجل الصالح العام باعتبار ان الغاية الشخصية تبرر الوسيلة، وبالتالي فالتضحية بالمذهب لم تكن وليدة تلك الظروف والمرحلة وان شكلت سمتها، اذ تُبرز لنا الذاكرة التاريخية للعصور الوسطى السابقة على مجيء الفاطميين الى الشرق نماذج كثيرة جدا على التضحية بالديني او المذهبي لصالح السياسي الشخصي، ان لم نقل الاناني الفردي. مما يجعل معادلة او جدلية العلاقة بين الولاء المذهبي والولاء السياسي جديرة بالبحث للخلوص منها بالعبر. 

   وسنحاول في هذا البحث التبحر في التطورات السياسية في المشرق العربي وربطها بالتوجهات المذهبية والدينية للوقوف على سير الاحداث بشكل بياني في مقاربة لدراسة جدلية العلاقة بين الولاء المذهبي والولاء السياسي خلال الفترة الممتدة من 358/ 969 الى 386/ 996

1- علاقة الفاطميين بالبويهيون: خلف البويهيون اتراك العصر العباسي الثاني ( 232-334/847-945) في حكم العراق، وامتد سلطانهم على معظم بلاد فارس مشكلين قوة عسكرية بالغة القوة والخطورة، وسمح توّزع قواهم بين قادتهم الاساسيين واستقلال كل منهم في قسم من البلاد الشاسعة التي سيطروا عليها باضعاف جبهتهم. وما كان ممكنا ابدا لحكمهم ان يستمر ويستقر في العراق بوجود امارات تركية فيه، خصوصا في واسط والبصرة والبطيحة وغيرها[9]. وبعد اخضاعها عملوا على دمج قواتها ولا سيما الفرسان بجيشهم المفتقر الى هذا العنصر الفعال[10].

    اما مواقفهم من الخلفاء العباسيين فقد تأرجحت بين العزل والسيطرة التامة، الى ان استقر الرأي على الابقاء عليهم كرمز ديني اسلامي وتجريدهم من كامل صلاحياتهم المدنية لأنهم افتقروا في مذهبهم الزيدي لبدائل عنهم، اذ يذكر البيروني ان :” معز الدولة … كان يفرط في التشيّع وانه اشخص من بلاد فارس احد كبار العلويين- محمد بن يحي الزيدي- مشتهرا بالديانة وحسن السيرة والصيانة…وانه انما استحضره ليوصل الحق الى ذويه ويسلم الملك والخلافة الى اهليه…- فرد العلوي- ان عامة الناس في الاقطار والامصار قد اعتادوا الدعوة العباسية ودانوا بدولتهم وطاعوهم كطاعة الله ورسوله…”[11] مما يعني ان معز الدولة اقتنع بفشل تحويل الخلافة الى الشيعة او حاول اقناع نفسه بهذا الامر. ويؤيد ما ذهبنا اليه ما اورده ابن الاثير عن بعض خواص معز الدولة حينما اقترح هذا الملك عزل الخليفة العباسي واسناد مركزه الى الخليفة المعز لدين الله الفاطمي قائلا:” ليس هذا برأي فانك اليوم مع خليفة تعتقد انت واصحابك انه ليس من اهل الخلافة، ولو امرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى اجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد انت واصحابك صحة خلافته، فلو امرهم بقتلك لفعلوا [12] “. لهذا ابقى البويهيون على الخلفاء العباسيين وجعلوهم رموزا دينية فارغة من اي مضمون حقيقي وفعال[13].

   فهل هذا يعني ان البويهيين اكتفوا بهذه المواقف من الخلافة ام انهم عملوا على اضعاف الفاطميين ليظلوا هم سادة متوّجين في ظل خلافة عباسية ضعيفة لا بل منهكة سياسيا وعسكريا؟

واستطرادا ماذا توّقع المعز لدين الله من البويهيين: هل الوقوف على الحياد امام المد الفاطمي القادم الى بلاد الشام، ام التحالف معه من اجل اسقاط الخلافة العباسية؟

   للاجابة على هذه التساؤلات يقتضي دراسة علاقتهم بالقوى السياسية الاخرى في بلاد الشام التي كانت على تماس مع الفاطميين كالقرامطة والحمدانيين، ومن ناحية ثانية دراسة مواقف هذه القوى الشيعية من الخلافة الفاطمية.

     كان القرامطة يشكلون سدا بشريا وجغرافيا بين البويهيين والفاطميين المرتقب قدومهم الى مصر، ومخافة ان يسقط البويهيون في احضان القادمين الجدد مالءوا القرامطة، وربما من هذا المنظار يمكن تفسير الحالة المهادنة التي طغت على العلاقة بينهما. رغم انها تأرجحت بين المهادنة والصراع، فلم يعتبر البويهيون القرامطة هراطقة خطرين على حد تعبير محمد شعبان، بل تسامحوا معهم شأن موقفهم من كل المذاهب.[14] ولكن احتلال البويهيين البصرة عام 336/948 وسيطرتهم على مينائها ادى الى فرار متوليها او مغتصب سلطتها “البريدي” الى البحرين ملتجئا الى القرامطة، الذين غضبوا من تصرّف البويهيين واعتبروه تعديا على مصالحهم الحيوية، فبعثوا رسولا الى معز الدولة البويهي ليدين تصرّفهم غير المبرر قَرْمَطيا، فاستقبله معز الدولة بكثير من الاحتقار، وهزئ من ادعاء اسياده، فرد القرامطة بحملة فاشلة على البصرة[15]. ومن ثم تمّ الاتفاق بين الجانبين على ترتيبات اقتصادية، كانت اشد فعالية من الصراع العسكري الذي كان من المفترض ان يحقق الغايات الاقتصادية للمنتصر، ارضتهما فاجاز البويهيون للقرامطة اقامة مركز جمركي على مقربة من مركز الجمارك البويهي في البصرة، واجتهد محمد شعبان انطلاقا من الاتفاق المذكور ليسوّغ اتخاذ ترتيبات مماثلة على طريق الحج تقاسم بموجبها الطرفان العائدات المالية[16]، وخففت مفاعيل الصراع العسكري. مما يعني ان الدور المذهبي في تلك العلاقة احتل المرتبة الدنيا، وفاقته اضعافا المصالح الاقتصادية المقرونة بالقوة العسكرية. وازعم انه بدافع من تلك الترتيبات لم يعمد البويهيون للحط من منزلة القرامطة المذهبية او التوسع في محاربتهم، بل اكتفوا بتبيان مقدرتهم العسكرية عليهم، وارضوهم بالحوافز الاقتصادية المذكورة.

   ولعل التفسير لتطوّر الاحداث يظهر نوعا من الرؤية المستقبلية اللاعنفية التي اعتمدها البويهيون، اذ اجتهدوا لمساعدة القرامطة ليبقوا سدا منيعا بينهم وبين اشقاهم في المذهب عنيت بهم الفاطميين، لأنهم على حد تعبير شعبان كانوا:” على استعداد لتقديم تسهيلات كبيرة لكسب القرامطة، وكانوا كذلك على استعداد لمعارضة التجارة عبر ميناء سيراف وتحويل التجارة كلها الى البصرة حيث يتسنى للطرفين اقتسام المكاسب.”[17] ويمكن تفسير مواقف البويهيين من القرامطة تصرفا احترازيا ضد الفاطميين المتوقع قدومهم الى مصر بسبب الحملات المتكررة التي ارسلوها اليها، ومن جهة ثانية اعتبروا ان استقرار الوضع العسكري سيسهم من دون شك بتطوّر القوة الاقتصادية للفريقين مستفيدين من العلاقة المذهبية التي تجمع بينهما وان ظاهريا. وقد نجد تعليلا لهذه المعادلة بما حصل لاحقا بين الفاطميين والقرامطة وبالموقف المعادي الذي اتخذه البويهيون من الفاطميين.

    وعلى هذا لا يمكن اعتبار ان الولاء المذهبي احتل مرتبة عالية عند البويهيين، فهم وان نجحوا بممارسة بعض الشعائر الشيعية كذكرى كربلاء وغيرها في بغداد عاصمة العباسيين والسنة، فانهم في الوقت عينه ما كانوا على استعداد للتنازل عن سلطانهم لأي قوة شيعية مهما بلغ مستواها الديني. وستتضح هذه المعادلة بدراسة علائق الفاطميين بالقوة الشيعية الاخرى في بلاد الشام.

2-  العلاقة الفاطمية القرامطية:

أ- فبل مجيء الفاطميين الى مصر: قد تكون العلاقة بين الفاطميين والقرامطة من اشد العلائق تعقيدا لما كان بين الاثنين من صلاة القربى المذهبية، بل لتحدرهما من جذر مذهبي واحد وعقيدة واحدة. ومن الواضح انه على الرغم من انشقاق حمدان قَرْمَط ومن بعده صهره عبدان داعي دعاة الاسماعيلية عن الاسماعيلية، فان ابا سعيد الجنّابي قائد قرامطة البحرين ظل وفيا للامام الاسماعيلي الفاطمي في المغرب[18]، ويضيف مادلونغ ان الصلاة اشتدت قربا في ظل قيادة ابنه ابي طاهر الذي كان ينفّذ اوامر الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي، واستمر الامر على هذا النحو من التقارب والتفاهم حتى مقتل سابور قائد القرامطة وتولّي الحسن الاعصم مكانه.[19]

    ويشوب دراسة العلاقة بين الفريقين بعد ذلك التاريخ الكثير من التعقيدات بسبب الآراء والاجتهادات المتعددة التي انتهجها المؤرخون المحدثون[20]، ونحن لن ندخل بكل تلك الاجتهادات بل سنكتفي بالاشارة الى ان القرامطة فرضوا وجودهم حتى على السلطة العباسية السياسية المتمثلة بامراء الامراء الاتراك، والملوك البويهيين، وعلى الامراء الحمدانيين، من اجل تأمين طريق الحج الذي صار سلوكه خطرا نظرا لهجمات القرامطة وسيطرتهم على معظم مسالكه، مما حدا بتلك القوى السياسية التفاهم المادي معهم فدفعوا لهم اتاوات لقاء مرور آمن للحجيج، حتى ان سيف الدولة قدم لهم احمالا من الحديد لهذه الغاية[21].

   على هذا، بات القرامطة قوة اساسية بل لاعب سياسي رئيسي في التحولات التي كانت تحصل في بلاد الشام وجنوب العراق، فقد صارت سطوتهم مخيفة، وجهد الحكام الى اجتناب مواجهتهم. وما يهمنا في هذا الاطار هو تطوّر قوة القرامطة عشية دخول الفاطميين الى مصر بظل قيادة الحسن الاعصم، وهل حَسِب لها الفاطميون التقدير الكافي، ام اعتبروا ان توأمهم سينسى الخلافات الجانبية ويؤيّد مواقفهم وينحاز اليهم عسكريا من اجل سيادة الشيعة على العالم الاسلامي المشرقي؟

   لا بد من الاشارة هنا الى ان القرامطة كانوا حوالى عام 313/925 قد انقسموا على انفسهم: فبعضهم كان دعا، على الارجح تقية، الى الخليفة العباسي المقتدر واعلنوه اماما لهم، اذ بعد القبض على حوالى ثلاثين شخصا منهم في مسجد براثا في بغداد وجدوا معهم اختاما نقش عليها: محمد بن اسماعيل الامام المهدي.[22] ولهذا النقش دلالة مذهبية بالغة الاهمية، وهي الدعوة الى الامام محمد بن اسماعيل وليس الى عبيد الله المهدي الامام الفاطمي والخليفة لاحقا، الذي كان قد ادعى انه المهدي. واذا اضفنا الى هذه الحادثة هجوم القرامطة على سلمية بغية قتل جميع الذكور فيها بهدف القضاء على سعيد بن الحسين “عبيد الله المهدي” ندرك كم كان عمق الخلاف المذهبي بين الفريقين. واذا كانت العلاقات عادت بعد ذلك الى الوئام بين الفاطميين والقرامطة فهذا لا يعني ان كل القرامطة كانوا يعتبرون الخلفاء الفاطميين ائمتهم، لانهم استمروا يخصصون خمس غنائمهم ” لصاحب الزمان”، مما يعني عدم انصياعهم للتعاليم الفاطمية، وبالتالي الى بروز ازمة ثقة مذهبية بين الفريقين[23]، انما على الارجح ان قلة من القرامطة انشقت عن الفرع الرئيسي في حين ان البقية كانوا يراسلون الامام المنصور بن القائم الفاطمي ويدعون ان دعوتهم اليه[24].

     ومن الواضح ان القرامطة صاروا قوة مخيفة بل محورية في بلاد الشام يخطب ودها عدد من حكام الدويلات، ففي اواخر عام 354/965 نهب عرب بني سليم قوافل الحاج الشامي والمصري واستولوا على ما كان معهم من امتعة وبضائع، فتدخل القرامطة واسترجعوا المسلوب وقدموه لكافور الاخشيدي حاكم مصر[25] نظرا للتفاهم الذي كان حصل بينهما ومؤداه ان يدفع الاخشيديون ثلاث مائة ألف دينار سنويا للقرامطة[26] مقابل حماية تجارتهم وعدم تعرضهم عسكريا الى بلاد الشام الاخشيدية وتحديدا دمشق، مما جعل بلاد الشام ولا سيما دمشق مجالا ماليا حيويا لهم، ناهيك بعمقهم المذهبي فيها، وبالتالي ما كان ممكنا التخلي عنها بسهولة.

   ونحن لا نعلم ما الذي بدّل العلاقة الجيدة بين الفاطميين والقرامطة قبيل دخول المعز لدين الله الى مصر. ويعزز صحة اعتقادنا، ان الفريقين كانا متفاهمين وئاميا، الكتابُ الذي وجهه هذا الخليفة الى الحسن الاعصم بعد هجوم القرامطة على القاهرة عام 358/969 [27]. فقد اشار فيه بوضوح الى ان القرامطة كانوا، قبل تسلم الحسن الاعصم قيادتهم، يخضعون الى سلطة الامام الخليفة الاسماعيلي، وينفذون اوامره، ومن ذلك قوله للحسن :” فاما انت الغادر الخائن، الناكث البائن، عن هدى آبائه واجداده، المنسلخ عن دين اسلافه وانداده…فعرفنا على اي رأي أصلت، واي طريق سلكت: اما كان لك بجدك ابي سعيد اسوة، وبعمل ابي طاهر قدوة…”[28] فهل كانت المشكلة محصورة بالقائد فقط، ام ان تحوّلا طرأ على سلوك القرامطة المذهبي والسياسي خصوصا بعد الضربات التي انزلها بهم البويهيون، ومن ثم التفاهم المادي الذي تم بينهما، وبالتالي لم يعد لهم مجالا استراتيجيا سوى بلاد الشام؟

  يمكن الاجتهاد بان القرامطة قاموا بانقلاب داخلي في شهر رمضان 358/969 على قائدهم سابور بن ابي طاهر الذي كان يكّن عداء مخيفا للعباسيين وودا للفاطميين وقتلوه بعد مرور شهر واحد على دخول جوهر الصقلي، ولأنه كان ازعج الخلافة العباسية كثيرا بغاراته المتكررة على سواد العراق[29]، ولعل مرد ذلك عدم رغبة القرامطة بالتخلي عن استقلالهم الذاتي والذوبان في الخلافة الفاطمية، والابقاء على الدرع العباسي الذي يعيشون في كنفه من دون كبير مشقة.

ب- بعد دخول الفاطميين الى مصر وبلاد الشام: كانت بلاد الشام محور تنازع بين عدد من القوى الاساسية: الحمدانيون كانوا يريدون الاستيلاء عليها بقصد توسيع امارة سيف الدولة ليستطيع منافسة القوى الاخرى، وكافور الاخشيدي كان يعتبرها امتدادا طبيعيا لمصر وخط دفاع اولي عنها، والقرامطة يعتبرونها مجالا حيويا لهم على عدة مستويات: مذهبي واقتصادي وسياسي وعسكري. فبعد وفاة كافور الاخشيدي ضعفت سلطة الاخشيديين على بلاد الشام، فاغتنم الفرصة القرامطة بمبادرة شخصية منهم ومن دون علم المعز لدين الله الفاطمي عام 353/964 وهاجموا دمشق واحتلوها فصالحهم الحسن بن عبيد الله بن طغج على جزية سنوية مقدارها ثلاث مائة ألف دينار، وأكملوا طريقهم واستباحوا الرملة.[30]وبذلك تأمّن لهم مدخولا ماليا مهما بعد ان كانوا قد تفاهموا مع البويهيين على الارباح التجارية في البصرة وعلى طريق الحج، مما كان يجعل تنازلهم عن السيطرة المالية والسياسية العسكرية في الشام امرا بالغ الصعوبة.

    ادت حملة جوهر على مصر عام 358/969 الى سقوط مصر بايدي الفاطميين بعد ان استسلم معظم الاخشيديين وفرّ القسم الباقي من الاخشيدية الى بلاد الشام. وكان للأمان الذي اعطاه جوهر للمصريين على اموالهم، ودينهم، والتعهّد بالضرب على ايدي المخربين والمفسدين والمحتكرين، والذود عن المصريين، كبير الأثر في قبول المصريين بالحكم الفاطمي.[31] ولما لم تجابهه مقاومة تذكر شرع بتنظيم الادارة وتنفيذ عهده، وبناء القاهرة المعزية، وتطلّع الى بلاد الشام الامتداد الطبيعي لمصر، ولعلّه اعتبر اسياده ورثة الاخشيديين السياسيين حتى في الرقعة الجغرافية التي كانت لهم. ولا ندري اذا كان رغب جوهر، في المغامرة التي خاضها القائد الفاطمي جعفر بن فلاح المرسل من قبله لفتح بلاد الشام، بامتحان جيشه عسكريا، الذي لم يخض معركة عسكرية حقيقية في مصر، وبامتحان آخر لموقف القوى السياسية والعسكرية المتزاحمة على بلاد الشام من الفاطميين، وجس نبض السلطة البويهية في العراق. في مطلق الاحوال كانت مغامرة غير مدروسة لأن جعفر بن فلاح كان منافسا وحاسدا لجوهر ومتعاليا في مواقفه مستهينا باخصامه[32]، وكان يجهل ايضا عقلية السكان المشرقيين ولا سيما الشاميين بل طبائعهم، ومعتادا على الذهنية القبلية المتأصلة بقبائل البربر في شمالي افريقيا. فما كان مصير تلك المغامرة؟

   توجّه جعفر بن فلاح الكتامي عام 359/969 الى الرملة وانتصر على متولّيها الحسن بن طغج واسره، ودخل المدينة عنوة واستباحها، وجبى خراجها وقطع الخطبة العباسية فيها لصالح المعز لدين الله[33]. ثم اكمل طريقه الى طبرية التي خضعت للفاطميين من دون قتال، ثم فتح دمشق بعد ان قاومه اهلها مدة وجيزة واقام الخطبة فيها للمعز بعد ان فرّ منها ظالم بن موهوب العُقيْلي زعيم بني عقيل ملتجئا الى الحسن الاعصم في الاحساء. [34]ونرجّح، قياسا على ما جرى فيما بعد، ان المغاربة _جيش جعفر بن فلاح- اساؤا التصرف تجاه الدمشقيين، مما حدا بالشريف ابو القاسم بن ابن يعلي الهاشمي، بما توفّر لديه من احداث المدينة، الى مقاومة الفاطميين والى اعادة الخطبة للمطيع العباسي، وجرى قتال عنيف بين الفريقين كانت كفته راجحة الى جانب المغاربة. وبعد مشاورات تم الصلح بين الدمشقيين وجعفر بن فلاح، فدخل المغاربة المدينة وعاثوا فيها فسادا ونهبوا قسما كبيرا منها فثار الاهالي، واشتد القتال، فاحرق المغاربة قسما من دمشق. وبعد ان توقف القتال بسعي من الخيّرين، قبض على الشريف الهاشمي وارسل الى القاهرة، وعلى مجموعة من الاحداث، فهدأت الحال في الشام[35].

هجوم القرامطة على دمشق: يرجع بعض المؤرخينسبب هجوم القرامطة على دمشقلانقطاع الجزية الاخشيدية عنهم. قد يشكل هذا السبب دافعا، ولكن ما الذي جعل القرامطة يسوّدون اعلامهم ويكتبوا عليها ” السادة الراجعون الى الحق”، ويعملون باسم الخليفة العباسي المطيع[36]؟ فهل هذا يعني طلاقا تاما بين اهل العقيدة الواحدة، ولماذا حاد القرامطة عن الخط الذي كانوا ساروا عليه لمدة طويلة؟ اسئلة كثيرة لا نجد لها جوابا شافيا الا بدراسة معمقة لتطوّر العلاقة القرمطية الفاطمية منذ اعلان سعيد بن الحسين نفسه مهديا وحتى دخول المعز لدين الله الى مصر. وقد حاول عدد من المؤرخين المشهود لهم القيام بمثل هذه الدراسة من دون التوصل الى جواب نهائي.

    وما نطرحه للبحث في هذا المجال هو تصرف القرامطة المغاير كليا لمواقفهم السابقة بحيث سارعوا الى الهجوم على دمشق، فاستهان بهم جعفر بن فلاح، فانقضوا عليه وقتلوه، واستردوا دمشق وكامل بلاد الشام التي كان اخضعها جعفر، وخطبوا في كل مدنها الى المطيع العباسي[37] ويقول المقريزي في هذا الصدد:” واقام القرامطة الدعوة للمطيع لله العباسي في كل بلد فتحوه، وسوّدوا اعلامهم…واظهروا انهم كأمراء النواحي الذين من قبل الخليفة العباسي.”[38] 

    لم يكتف القرامطة بما انجزوه في بلاد الشام، بل بدا وكأنهم يريدون استئصال شأفة الفاطميين في المشرق، وكأن عداوة دفينة ذرت قرنها بين الفريقين، حتى بات الامر مسألة شخصية. فهاجموا القاهرة وحاصروها بما اجتمع اليهم من العرب والاخشيدية. وتمكّن جوهر بعد جهد جهيد من صد الهجوم وارغام القرامطة على التراجع الى بلاد الشام.[39] وكتب الى المعز يستدعيه على جناح السرعة ليجد حلا لمعضلة القرامطة، فحاول المعز اعتماد السياسية الدبلوماسية بان ارسل الى الحسن الاعصم كتابا طويلا يذكر فيه نفسه وفضل اهل بيته، وان الفاطميين والقرامطة على مذهب واحد مشيدا بالعلاقة التي جمعت بينهما ايام ابيه واجداده، ومهددا الحسن من جهة ثانية[40]، وعتب عليه بل قرّظه لأنه دعا للعباسيين قائلا:” بئس الاسم الفسوق بعد الايمان، وعصيانك مولاك، وجحدك ولاك، حتى انقلبت على الابار وتحملت عظيم الاوزار، لتقيم دعوة درست، ودولة طمست…”[41] فرد الحسن:” وصل الينا كتابك الذي كثر تفصيله، وقلّ تحصيله، ونحن سائرون على اثره والسلام، وحسبنا الله ونعم الوكيل[42].” مما يعني انه رفض حتى النقاش العقائدي، او ان يقترح لقاء، او يطلب امرا محددا، بل كان مدفوعا بحمية وحقد بالغين، قد يكونان غير مبررين مذهبيا، الا اذا كان الحسن اراد الحصول على مصر وبلاد الشام من العباسيين ليحكمهما باسم الخليفة العباسي: فلماذا لا يحل مكان الاخشيديين، وتاليا مكان الفاطميين، ما دامت املاك الدولة العباسية معروضة للاغتصاب، وكل قادر يقتطع منها رقعة يقيم عليها دويلته؟!

    سار الحسن الى مصر يرافقه اميران عربيان هما حسان بن الجراح الطائي امير عرب بلاد الشام، وظالم بن موهوب العقيلي وحاصروا القاهرة. وكانت القوات الفاطمية عاجزة عن مجابهة هذا الجيش المتعدد المشارب، فعمد المعز الى الحيلة فاستمال حسان بن المفرج الطائي بالمال ما ادى الى هزيمة القرمطي. فاستعاد المعز بلاد الشام وعيّن عليها ظالم بن موهوب العقيلي واليا[43].

   ان انتصار المعز على القرامطة لا يؤشّر ابدا الى ارجحية قوته، بل يوضح العجز الفاطمي عن التصدي لهذه المجموعة، ما يطرح تساؤلا اساسيا بل مركزيا : هل فعلا كان الفاطميون بوارد مهاجمة العباسيين، ام كانوا يعتمدون على القوى الشيعية الاخرى المنتشرة في بلاد الشام والعراق وبلاد فارس لتعاونهم عسكريا ومذهبيا ؟!

لم يكن اختيار ظالم بن موهوب العقيلي واليا لدمشق خيارا صائبا، لسببين: لأن الجيش الفاطمي كان بقيادة  ابي محمود بن جعفر بن فلاح الكتامي غير الكفوء” ولم يكن صاحب رأي سديد ولا تدبير حميد ولا حسن سياسة”[44]، ولازدواجية، من ناحية ثانية، في السلطة والرأي والسلوك بين ظالم وابي محمود.

      كان الدمشقيون قد كرهوا المغاربة منذ حملة جعفر بن فلاح، واعتاد الجيش الفاطمي الغريب الدار على النهب والسلب من دون الإلتفاة الى المصلحة العامة. وكان نشوب الصراع بين الغرباء والدمشقيين شبه حتمي لأسباب متعددة: انحصر هم ظالم بجباية الخراج لأنه كان موقنا قصر ولايته على المدينة، ورغب الاحداث بالثأر من المغاربة، وجنح المغاربة الى السلب والنهب. وكان اشراف دمشق في مأزق كبير لأنهم كانوا عاجزين عن كبح جماح الاحداث والعامة الشامية، وعاجزين ايضا عن انتزاع تعهّد من ابي محمود يكبح جماح الجيش المغربي او السيطرة عليه، لأنه فعلا كان غير جدير بالمسؤولية لقلة دربته، ولافتقاره للمال لأن الخراج كان يجبيه ظالم ويتصرف به[45]

   وهكذا اندلع الصراع بين الاطراف المتنازعة على مدى ما يقرب الثلاثة اشهر بين كر وفر، فاعتدى المغاربة على اسواق القاهرة واهلها واضرموا النار فيها وفي العديد من احيائها، واستولوا على القوافل التجارية والتموينية القادمة اليها او المارة بالقرب منها، وانتهبوا القرى. ولم يؤدِ انحياز ظالم بن موهوب العقيلي الى جانب الدمشقيين الى توازن في القوى المتحاربة، بل استمرت الغلبة للجيش المغربي.[46]ويوجز ابن القلانسي الحال قائلا:” وانتشر الفساد في سائر الضياع والجهات، وطرحت النار في الاماكن والحارات، وثارت الفتنة واشتدت النار، وعظم الخوف وفني العدد الكثير من الفريقين.”[47]

   نتائج السياسة العسكرية الفاطمية في الشام:

1- على المستوى المدمشقي الداخلي: لما علم المعز بالاوضاع الدمشقية طلب من ريّان الخادم والي طرابلس التوجه الى دمشق لحفظ الامن فيها والنظر باحوالها، وصرف ابي محمود عنها، خوفا من تزايد الهوة بين الدمشقيين والسلطة الجديدة الطارحة نفسها حلاً للمشاكل الاسلامية، التي عجزت عن تنفيذها الخلافة العباسية بوجود الاغراب على رأس السلطتين العسكرية والسياسية في العراق. وارسل المعز الى القائد المعزول كتاب توبيخ وتقريظ.[48]  اما الدمشقيون فقد ذهولوا من هول ما جرى، واستاكنوا آنيا بانتظار الفرصة المناسبة للانقضاض على الحكم الفاطمي، الذي صار بنظر معظمهم قمعيا.

2-على المستوى الاقليمي: كانت الصراعات في العراق على اشدها بين البويهيين بزعامة بختيار بن معز الدولة والاتراك الجدد وتحديدا حركة سبكتكين الذي كان أفتكين التركي احد ابرز قادته، وكان قد انهزم امام القوة البويهية واستقر في جوسية احدى اعمال دمشق ومعه حوالى ثلاث مائة جندي من الطراخنة.[49]ولعبت المصالح الشخصية والاقليمية دورا بارزا في توجيه كفة الصراع: فقد كان البويهيون يريدون القضاء على القوة التركية الجديدة في جيشهم، وفي آن ما كانوا يودون النجاح للفاطميين والاستقرار في بلاد الشام حفاظا على مصالحهم. وجهد الحمدانيون لابعاد الخطر الفاطمي عن دويلتهم في حلب ومارسوا سياسات عدائية ضمنية ضدهم. وكان الامراء العرب في فلسطين يقومون بدور المستفيد من الرياح من اين هبت، فارتأى  ظالم العقيلي متولي بعلبك من قبل الفاطميين ان يحارب افتكين ليرتفع مركزه عند الفاطميين.

   وتلاحقت المواقف والاحداث سريعا، وحولت افتكين الى بيضة قبان في الصراعات: فارسل له ابو المعالي بن حمدان ثلاث مائة جندي بقيادة بشارة الخادم نكاية بظالم الذي كان يريد قتاله تقربا من السياسية الفاطمية، ورجاه  الدمشقيون ليقودهم ويساعدهم لردع تعديات الاحداث، وقتال المغاربة اذا اقتضى الامر[50]، وقال ابن القلانسي الدمشقي في هذا الصدد:” فنزل بظاهرها-اي دمشق- خرج اليه شيوخها واشرافها وخدموه، واظهروا السرور به، وسألوه الاقامة عندهم، والنظر في احوالهم، وكف الاحداث الذين بينهم، ودفع الاذية المتوجهة عليهم منهم…”[51] مما يعني ان الوضع الداخلي في دمشق كان غير مستقر، واهلها منقسمين فريقين: الاحداث الذين بدفاعهم عن مدينتهم آذوا الدمشقيين انفسهم بممارساتهم الشاذة، والخاصة الدمشقية الدينية والاقتصادية الراغبة بالهدوء باي ثمن.

    وارتفعت منزلة افتكين عند الدمشقيين لأنه قطع الخطبة الفاطمية، وقمع حركات الاحداث وشغبهم، واسترد ضواحي دمشق من العرب الذين كانوا استولوا عليها ابان الفوضى العسكرية، ولأن مقدرته الدبلوماسية نجحت بدرء خطر حملة ابن الشمشقيق عنها، فقد اكرم وفادة الامبراطور البيزنطي بان قدم له كل ما كان حمله معه من بغداد، ولعب امامه ضروبا مدهشة من الفروسية، فاعفى دمشق من الجزية التي كان فرضها على اهلها[52].

   وحاول افتكين تمكين مركزه في المدينة بطلب المساعدة من القرامطة، الذين سارعوا الى الرملة واستولوا عليها بعد ان هرب ابراهيم بن جعفر واليها الفاطمي[53]. واطمأن افتكين الى هذا الحاجزا الذي شكلوه بينه وبين الفاطميين من دون ان يقدر الموقف الفاطمي حق تقديره، منتهزا الفرصة للاستيلاء على الساحل الفاطمي في بلاد الشام والداخل اللبناني، بقصد الاستقلال ببلاد الشام بعد تفاهمه مع القرامطة، مما افشل جهود المعز لدين الله الهادفة الى جعل افتكين واليا فاطميا على بلاد الشام.

ولما أمن افتكين جنوب بلاد الشام بواسطة القرامطة وعلم بوفاة المعز بدأ بتنفيذ مشروعه الاستقلالي: فاحتل صيدا وطرد منها ابن الشيخ واليها الفاطمي، واكمل طريقه الى عكا. ولما فشل العزيز، الذي خلف والده المعز باصطناع افتكين الذي رد على كتابه بانفة وجفاء :” هذا بلد اخذته بالسيف وما ادين فيه لاحد بطاعة ولا اقبل منه امرا.”[54] ارسل جوهر الصقلي على رأس جيش جرار لاستعادة بلاد الشام كلها، فتراجع افتكين الى دمشق بعد ان حمل معه المؤن من حوران وغيرها من المناطق الزراعية استعدادا لحصار فاطمي مرتقب. ولما كان تعداد القرامطة غير كاف في الرملة لمجابهة جوهر انكفؤا الى الاحساء، من دون ان يخرجوا نهائيا من المعادلة العسكرية.

    في عام 975 هاجم جوهر دمشق وحاصرها وضيّق على افتكين واضطرّه للاستنجاد بالقرامطة بقيادة الحسن بن احمد الاعصم الذي اسرع لنجدته حفاظا على مجالهم الحيوي واضغافا للموقف الفاطمي في بلاد الشام. ومخافة ان يصبح جوهر بين نارين تراجع الى طبرية فالى الرملة وتحصّن بها بعد ان اودع احماله في عسقلان، ولاحقه افتكين والقرامطة. وبعد مناوشات وحروب عديدة انهزم جوهر بنهايتها، وبعد محادثات شاقة تم الصلح بينهما وسمح بموجبه لجوهر الانسحاب الى القاهرة شرط ان يمر تحت سيف أفتكين ورمح القرمطي تدليلا على الهزيمة بل على الذل والمهانة. فعاد الى القاهرة عام 368/978 وتذرّع للعزيز بان تخاذل الجيش المغربي وتحديدا الكتاميين بالقتال ادى الى هذه النتائج الكارثية.[55]

  لم يُخفِ العزيز غضبه لان مهابة الفاطميين كانت في الميزان، رافضا النتائج المذلة التي اسفرت عنها حملة جوهر، فقاد جيشا جرارا وتوجه الى بلاد الشام وهزم افتكين والقرامطة معا. ولما قُبض على افتكين ومثل بين يديه عفا عنه واكرمه، وتلك سياسة اتبعها الفاطميون في معظم مراحل تاريخهم من دون ات تعطي ثمارا، فاسطناع المتمردين، او العفو عنهم كانت نتائجه باستمرار كارثية.

    وانتهى بذلك فصلا اساسيا من مراحل الصراع بين القرامطة والفاطميين بمشاركة فعالة من القوى المتضررة من دخول الفاطميين المعترك السياسي في بلاد الشام مظهرا ان الروابط المذهبية، كانت على صعيد الواقع وتضارب المصالح، اقل قوّة وفاعلية مما كانت تبذو عليه على المستوى التنظيري. لأن السياسة كانت تتقمص تلاوين دينية ومذهبية لتحقيق اغراض اقل ما يقال فيها شخصية بل انانية، ولكن الصراع لم ينته بين توأمي المذهب الاسماعيلي، فعاد باشكال اقل حدة فيما بعد خصوصا في عهد الحاكم بامر الله الفاطمي.

3-العلاقة مع الحمدانيين:

أ – في الموصل: كان الحمدانيون العرب شيعة ويتأثرون قوة وضعفا بولاءات القبائل العربية في بلاد الشام، وتمكنوا من تأسيس امارتين: الاولى في الموصل وكانت، في المرحلة التي ندرس، بقيادة ابي تغلب، والثانية في حلب بقيادة ابي المعالي ابن سيف الدولة. وعندما قدم جوهر الى مصر كاتبه جماعة منهم يبذلون له الطاعة، ويضعون قوتهم في خدمته، فارسل يستشير سيده. ولكن المعز لدين الله كان له موقف صارم من الحمدانيين،  فكان يعتبرهم وصوليين، وممارسي التقية السياسية تحقيقا لمآربهم، فكتب الى جوهر ينير سبيله قائلا:” احذر ان تبتدئ احدا من بني حمدان بمكاتبة –ترهيبا له ولا ترغيبا- ومن كتب اليك منهم فاجبه بالحسن الجميل، ولا تستدعه اليك، ومن ورد اليك منهم فاحسن اليه، ولا تمكّن احدا منهم من قيادة جيش ولا ملك طَرَف، فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة اشياء عليها مدار العالم، وليس لهم فيها نصيب: يتظاهرون بالدين وليس لهم فيه نصيب، ويتظاهرون بالكرم وليس لواحد منهم كرم في الله؛ ويتظاهرون بالشجاعة، وشجاعتهم للدنيا وليست للآخرة؛ فاحذر كل الحذر من الاستنامة الى احد منهم.”[56] محددا بهذا الموقف سياسته تجاههم، ومحذرا جوهر من التعاطي معهم، او دعوتهم لاقامة الخطبة للفاطميين.

   انما العلاقة التنافرية بين جوهر والقائد جعفر بن فلاح جعلت الاخير يخالف وصية المعز – وقد يكون لم يطلع عليها – بان حاول اخضاع ابي تغلب بن حمدان بالقوة او ان يرهبه، اذ بعد احتلاله الرملة ثم طبرية ارسل اليه رسولا ليقول له:” اني سائر اليك فنقيم الدعوة.” فرد ابو تغلب وكان في الموصل:” هذا ما لايتم لأنا في دهليز بغداد، والعساكر قريبة منا، ولكن اذا قربت عساكركم من هذه الديار امكن ما ذكرتم.”[57]  واضح ان في الجواب هزءا واحتقارا من استكبار جعفر، وحضّا للقدوم الى الموصل ليدخل بصراع مع البويهيين اصحاب السلطة العسكرية الفعلية في العراق، وكان على يقين ان جعفر لم يقدم على هكذا مشروع من دون موافقة المعز لدين الله.

    وكان ابو تغلب شارك بفعالية بمقتل جعفر بن فلاح وبسقوط دمشق بيد القرامطة بان امدّهم بالمال والسلاح والرجال بطلب من عز الدولة بختيار البويهي[58]. ولما تدخل ابو نغلب بسياسة البويهيين الداخلية هاجمه عضد الدولة وطرده من امارته ولم يسمح له بالعودة اليها، مما اضطره للالتجاء الى دمشق الفاطمية التي كان يتولاها قسّام الحارثي[59]، الذي كان يخشى من ان يستميل ابو تغلب الخليفة العزيز ليوليه على دمشق بدلا منه، لذلك اثار الخليفة على هذا الخصم المرتقب.[60]

   وبفشل مشروعه مع قسّام حاول مجددا مع القائد الفاطمي الفضل بن صالح المنتدب من قبل العزيز للاتفاق مع بني الجراح في الرملة وقسّام الحارثي للتخلص من مناورات ابي تغلب. ووقع الحمداني في الفخ الذي نصبه له الفضل بن صالح مع بني الجراح وبني عقُيْل، فاشترك في القتال لاخراج بني الجراح من المعادلة السياسية في فلسطين، وانتهى الامر بانقلاب الفضل عليه خلال المعركة، ثم اسره واعدامه.[61]

ب – في حلب: شهدت حلب الحمدانية عصرها الذهبي في ظل سيف الدولة، وبوفاته عام 356/966 خلفه ابنه سعد الدولة ولم يكن على قدر من الحنكة السياسية والمقدرة العسكرية، والدربة الادارية. فاستغل مولاه قرعويه نقاط ضعفه هذه وتمرد عليه وسلبه الحكم[62] قبل دخول الفاطميين الى مصر بعام واحد اي سنة 358/968.

 ولم تسلك حلب سياسة واضحة المعالم تجاه القوى السياسية الاساسية المتصارعة: فحينا كان حاكمها يوالي الخلافة العباسية وحينا آخر الخلافة الفاطمية، ومرة ثالثة الامبراطورية البيزنطية، تبعا لتقلب الاحوال ومقتضيات الظروف جريا وراء مصالحه الشخصية. وفي عام 360/970 اصطلح الحال بين سعد الدولة وقرعويه بمباركة فاطمية من دون ان يتمكن سعد من استرجاع امارته ربما لأنه لم يكن يملك القوات الكافية، ولأن الفاطميين ما كانوا يريدون الدخول في سياسة المحاور الداخلية بين الاثنين لعدم ثقتهم بهما، ولجعل حلب خط دفاع اولي ضد البيزنطيين، واكتفوا بخضوعها الاسمي لخلافتهم[63]. ولم يبذل العباسيون  جهدا ايضا لمساعدته للعودة الى امارته[64] ربما لأنهم لم يتوسموا فيه القيادي البارز.

   ولم يطل الامر بقرعويه حتى انتزع منه الحكم مولاه بكجور بمباركة سعد الدولة[65]، ثم دخل بصراع مع سعد الدولة الذي تمكن من العودة الى حلب واعطى بكجور ولاية حمص[66]. ويبدو جليا ان الفاطميين بعد ان شبه استقر لهم الوضع في الشام الجنوبي عموما، وجّهوا انظارهم لاستكمال اخضاع بقية بلاد الشام وتحديدا شماله رغم المخاطر، التي كان يمكن ان تتأتى عن مجاورة البيزنطيين المباشرة. ويبدو ايضا ان جعفر بن فلاح اخاف الحمدانيين في كامل بلاد الشام عندما طلب منهم بتهديد مبطن اقامة الخطبة الفاطمية.

   وعجز سعد الدولة عن اقامة توازن بين القوى الثلاث الاساسية المحيطة به، او الاخلاص لاحداها ليأمن بمساعدتها خطر القوتين الاخريين، وحاول اعتماد الولاء المزدوج للفاطميين وللعباسيين الممثلين بالبويهيين اصحاب السلطة الفعلية[67].

   وتمكّن بكجور بحسن ادارته وحزمه من تطوير حمص على المستويين الاداري والاقتصادي التجاري بتأمين الطرقات اليها من اللصوص وقطاع الطرق[68]، اذ ضرب القبائل العربية التي كانت تعيث فسادا ليس فيها فحسب بل في محيط دمشق، فارتفع شأنه عند الخليفة الفاطمي العزيز بالله.

    وضاع دغفل بن الجراح الطائي رغم قوة قومه في هذا الخضم من الصراع المتنوع الاتجاهات والولاءات، حتى اضطر بعد ان هزمه رشيق الحمداني الى اللجوء الى انطاكيا ملتمسا النجدة من الامبراطور البيزنطي باسيل الثاني، وبعد حصوله على الصلة عاد الى الشام والتمس الصفح من الخليفة العزيز[69]. وكان بكجور يجتهد للتقرب من الفاطميين فدعا للعزيز وهو في حمص، ثم طلب منه جيشا لاحتلال حلب وضمها للفاطميين مما ادخل الفاطميين، للمرة الاولى، بصراع مكشوف مع الحمدانيين[70]. واثناء حصار بكجور للمدينة خرج الامبراطور البيزنطي نقفور فوكاس على رأس جيش كبير يرافقه دغفل بن الجراح في غزوة على بلاد الشام. وكما ان حملة ابن الشمشقيق  Iohannès Tzimiskès(969-979) اعادت خلط الاوراق السياسية والعسكرية في بلاد الشام ايام المعز لدين الله، فان حملة نقفور فوكاس Niképhoros Phokas (963-969)  عام 373/983 اعادت الكرة: فتراجع بكجور عن حصار حلب بعد ان حذّره ابن الجراح[71]، واتفق مع سعد الدولة على اربعين ألف دينار جزية سنتين، ثم اكمل طريقه الى حمص وسباها واحرق قسما منها بعد ان نهبها ليحقق هدفين معا: الحصول على غنائمها، واضعافا لبكجور عدو حليفه سعد الدولة ،[72] ثم اكمل طريقه باتجاه طرابلس.

    واذا كانت هذه الحملة البيزنطية حققت المصالح البيزنطية الاساسية اضافة الى تعزيز موقع حليفها الآخذ بالانحدار، فانها ايضا شددت قبضتها عليه بالتأكيد على معاهدتها السابقة او الهدنة المؤبدة كما يسميها الانطاكي[73] التي  كان عقدها البيزنطيون مع الحلبيين عام359/ 969، ومما جاء بابرز بنودها: يحمل الحلبيون الى الروم عن حلب وحمص واعمالهما ثلاثة قناطير ذهب عن حق الارض، وسبعة قناطير ذهب ايضا بدل خراجها، ودينار واحد سنويا عن كل رجل حالم، ويكون للروم نائبا فيها[74]. ويمكن اضافة دافع آخر لهذه الحملة البيزنطية المفاجئة وهو وقف المد الفاطمي المتنامي الذي بدأ يتدخل بامور الحمدانيين الآخذ دورهم بالضعف في حلب ليحلوا مكانهم فيها، مخافة ان يصبح البيزنطيون في مواجهة مباشرة معهم. وفعلا حققت هدفها لأن بكجور تراجع عن حصار حلب وتوجّه نحو الشام وطلب من الخليفة العزيز ولايتها، فتم له ذلك عام 373/983 على رغم معارضة الوزير الفاطمي يعقوب بن كِلِّس[75] الذي رأى في بكجور مشروع استقلال في دمشق ونزاع مستقبلي مع الخلافة الفاطمية.

    حاول بكجور الافادة ماليا قدر المستطاع من ولايته على دمشق، وجهد لابتزاز الوزير ابن كلس بان قتل احد جواسيسه المدعو ابن ابي العود اليهودي، ودارت حرب باردة بين الاثنين كانت ارجحيتها لبكجور المؤيَّد من الخليفة العزيز. واشتد ظلم بكجور على الدمشقيين في انفسهم، واموالهم. وضاق به ذرعا العزيز لكثرة ما خالف اوامره، [76]وارسل حملة للقضاء عليه بقيادة القائد منير الخادم في رجب من عام 378/988. وادرك بكجور ان العزيز لن يرض عنه فسار عن دمشق بامواله نحو الرَقّة يرافقه دغفل بن الجراح[77] بعد ان سدت كل الابواب بوجهه: ومنها انهزام الكردي المتغلّب على ميّافارقين امام الجيوش العباسية وكان كاتبه طالبا ان يجيره وان يخطب للعزيز على غراره معللا النفس بصفح العزيز، وخوفه من المؤامرات التي كان يحيكها الوزير ابن كلّس ضده، ومنها ايضا فشله في الحصول على ملجأ عند البويهيين، وخشيته من وصول نزّال والي طرابلس عونا لمنير الخادم الذي ارسله العزيز واليا على الشام. عند ذلك ترك دمشق لمنير الخادم، وطلب من سعد الدولة الحمداني اعادته الى ولاية حمص، فاجابه[78] ليأمن شره من جهة، وليستخدمه لابعاد خطر الفاطميين عن حلب من جهة ثانية، هذا على الاقل ما اعتقده سعد الدولة صوابا، والا لم يكن هناك دافع حقيقي يرغمه على اعطائه ولاية حمص. لأنه بغبائه كاد يدخل مجددا بصراع مباشر مع الفاطميين، وعن طريق بكجور بالذات، الذي فشل في الاستيلاء على حلب رغم الرشوة التي قدمها لجماعة من مماليك سعد الدولة ليساعدوه  بالانقلاب على سيدهم، ولكنه انتهى اسيرا في حلب، وتم اعدمه فورا.[79]

    ويبدو ان سياسة الفاطميين واصطناعهم القادة لم يكن دائما يوتي ثماره، فمعظم القادة الذين كانوا  يتولون دمشق كانوا يعمدون للاستقلال فيها، فيرسل الخليفة قائدا آخر لازاحة المتغلّب عليها، فلا يلبث ان يستقل بها بدوره. وحاول العزيز توحيد بلاد الشام كلها بعد ان اضعف القرامطة واستولى على معظم بلاد الشام سوى اطرافه الشمالية وبعض جنوبه، فبعث رسولا الى سعد الدولة الحمداني يدعوه لاقامة الخطبة الفاطمية، وكان الامير الحمداني على دراية بواقع الحال الفاطمي المتردي في دمشق، فاهان الرسول واطعمه الكتاب، وارسل معه تهديدا للعزيز متوعدا بالهجوم على دمشق[80]. ولكن الموت فاجأه لتنتهي بذلك مرحلة ثانية من الصراع بين الحمدانيين والفاطميين، رغم ان حالة العداء لم تنته، وظل الحمدانيون مكابرين، يستظلون الحماية البيزنطية كلما احدق بهم الخطر، الى ان انتهى امرهم عام 1002 في عهد الحاكم بامر الله الفاطمي(996-1021)

     لقد نشأت الخلافة الفاطمية على المذهب الاسماعيلي وهدف مؤسسها الى نشره في العالم الاسلامي كلّه، واعتقد ابناؤه واحفاده ان العمل على الاساس الديني بل المذهبي قد يمكنهم من تطوير خلافتهم واضعاف نظيرتها العباسية عدوتهم المذهبية بفعل انتشار الدويلات الشيعية في المشرق العربي. ولعلّ افتراض الخلفاء الفاطميين ووزرائهم وقادتهم في عهدهم الاول في مصر وبلاد الشام اي في عهدي المعز والعزيز ان الولاء المذهبي قد يوحّد بين الدويلات الشيعية المتعددة في بلاد الشام والبويهيين في العراق تحت المظلة الفاطمية، فتسود خلافتهم على كامل الرقعة الجغرافية المشرقية. ولكن سوء تقديرهم للاطماع الشخصية المغلّفة بغطاء مذهبي، وقلة دربة قادتهم وسوء سلوكهم تجاه الحمدانيين والدمشقيين، وعدم أخذهم بالاعتبار مصالح القرامطة، بل حسن قراءة العلاقات القرمطية الفاطمية منذ اعلان سعيد بن الحسين نفسه مهديا مما كان يتنافى والعقيدة القرمطية، وتاليا قلّة التبحّر بحالات العداء والوئام بين الفريقين، وعدم تنسيق الفاطميين سياسيا مع القرامطة واشراكهم في الحكم، كان له كبير الاثر في فشل المشروع الفاطمي المذهبي. ويجب الا يغيب عن بالنا دور البويهيين المناهض للتوسع الفاطمي الذي كان سيضعف من قدراتهم السياسية وتطلعهم الاستقلالي، مما جعلهم يغذّون كل الحركات الاستقلالية في بلاد الشام ماليا واحيانا عسكريا، بل كانوا هم وراء معظم تحركات القرامطة المعادية للفاطميين، وضغطوا سياسيا وعسكريا على الحمدانيين للغاية عينها.

    واذا كان من خلاصة نسترشد بها من خلال كل ذلك المسرح السياسي العسكري والديني والمذهبي، نقول ان التلطي وراء الاقنعة الدينية والمذهبية لم يكن سوى بداية مرحلة استقلالية، لا تلبث ان تتحوّل مشروعا عسكريا يهدف للقضاء على كل القوى التي تعترضه حتى وان كانت من مذهبه، وبالتالي فان عملية الدفاع عن النفس اعتبرها اصحابها عملا مشروعا يقتضي انجاحها بكل الوسائل من دون التطلع الى المصالح العليا التي طالما حلم بها فرقاء ما، وبالتالي فان الولاء المذهبي خرّ صريعا امام الولاء والسياسي والطموح الشخصي.


[1] – ابن الاثير، عز الدين ابو الحسن علي، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1965، ج7، ص32، 64،

– المسعودي، علي بن الحسن، التنبيه والاشراف، مكتبة خياط، بيروت، 1965، ص361

– شعبان، محمد عبد الحي محمد، الدولة العباسية –  الفطميون، الاهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1981، ص98

[2] – انظر حول تفكك الخلافة العباسية الى دويلات وامارات: مؤلف مجهول، العيون والحدائق في اخبار الحقائق، تحقيق عمر السعيدي، دمشق، المعهد الفرنسي للدراسات الاسلامية، 1973، ص 298-299

  • ابن الاثير، ج8، ص322-324
  • ضومط، انطوان وآخرون، الشرق العربي  في القرون الوسطى، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، بيروت، 1966، ص112-114

[3] – العبادي، احمد مختار، في التاريخ العباسي والفاطمي، دار النهضة العربية، بيروت، 1971، ص226-2229

[4] – القاضي النعمان، محمد بن حيّون، المجالس والمسايرات، تحقيق ابراهيم شبّوخ وآخرين، الجامعة التونسية، تونس، 1978، ص55، 73، 114، 214، وغيرها، ابن الاثير، الكامل، ج8، ص 422 وما بعد، ابن عذاري، ابو عبد الله محمد المراكشي، البيان المغرب في اخبار الاندلس والمغرب، تحقيق كولان وليفي بروفنسال، ليدن، 1948، ج1، ص216-220

المقريزي، تقي الدين احمد بن علي، اتعاظ الحنفا باخبار الائمة الفاطميين الخلفا، تحقيق جمال الدين الشيال، ط2، القاهرة، 1996، ج1، ص78-79

[5] – المقريز، تقي الدين احمد بن علي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، طبعة دار صادر، بيروت، بدون تاريخ، ج1، 8

[6] – دفتري، فرهاد، مختصر تاريخ الاسماعيلية، نقله الى العربية سيف الدين القصير، دار المدى، دمشق، 2001، ص140

[7] –  المقريزي ، اتعاظ الحنفا ، ج1، 113

– ابن تغري بردي، جمال الدين ابو المحاسن، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929، ج4، ص 29، 41

[8] – البيروني، احمد بن محمد، الآثار الباقية عن القرون الخالية، ليبزك، 1913، ص132

[9] – فوزي، فاروق عمر،الخلافة العباسية، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص92-93

– شعبان ، المرجع السابق، ص195-196

[10] – شعبان، الدولة العباسية، ص196-197

[11] – البيروني، ابو الريحان محمد بن احمد، كتاب الجماهر في معرفة الجواهر، عالم الكتب، بيروت، دون تاريخ، ص 22-23

[12] – ابن الاثير، الكامل، ج8، ص452

[13]  – مسكويه، تجارب الامم، طبعة امدروز، ج2، ص86

[14] – المرجع السابق، ص 196

[15] – مسكويه، ج2، ص 113، ابن الاثير، الكامل، ج8، ص351

[16] – شعبان، ص200-201

[17] – المرجع السابق، ص 201

[18] – مادلونغ، ورفيلد، ” الفاطميون وقرامطة البحرين” ضمن كتاب الاسماعيليون في العصر الوسيط، جمعه فرهاد دفتري، ترجمة سيف الدين القصير، دار المدى، دمشق، 1999، ص 37، وسنشير اليه ب: الاسماعيليون

[19] – المرجع السابق، ص 37

[20] – لعل من ابرزها دراسة دي غويه، وبرنارد لويس، وحسن شرف، وحسن ابراهيم حسن…

[21] – مسكويه، تجارب، ج2، 215 ، شرف،( حسن)، و ابراهيم، (حسن)، المعز لدين الله، القاهرة، 1948، ص100، الاسماعيليون، ص49

[22] – ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والامم، حيدر آباد، 1938، ج6، ص195

[23] – مادلونغ، الاسماعيليون، ص67

[24] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص189

[25] – مادلونغ، الاسماعيليون، ص49

[26] –  ابن القلانسي، حمزة بن اسد التميمي، ذيل تاريخ دمشق، تحقيق سهيل زكار، دار حسان، دمشق، 1983، ص1 المقريزي، ابن الاثير، تاريخ، ج8، ص615 اتعاظ، ج1، ص187

[27] – مادلونع، الاسماعيليون، ص 67 ، انظر نص الكتاب كاملا في المقريزي، اتعاظ، ج1، ص189-201

[28] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص195

[29] –  الازدي، ابن ظافر، الدول المنقطعة، او اخبار الزمان في تاريخ بني العباس، مخطوط مصوّر بدار الكتب المصرية، رقم 890 تاريخ، نقلا عن امينة بيطار، مواقف امراء العرب، ص54

[30] – الانطاكي، يحي بن سعيد، تاريخ الانطاكي، تحقيق عمر تدمري، جروس برس، طرابلس لبنان، 1990، ص 128، المقريزي اتعاظ، ج1، 186-187

[31] – الانطاكي، ص 130

المقريزي، اتعاظ، ج1، ص 103-106

[32] –  ابن القلانسي، ص1

[33] – الانطاكي، ص143، ابن الاثير، الكامل، ج8، ص591

[34] – ابن الاثير،  الكامل، ج8، ص 591، اتاعظ، ج1، ص186، ابن تغري بردي، نجوم، ج4، ص33

[35] – ابن الاثير، ج8، ص591-592

[36] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص188، ابن تغري بردي،، نجوم، ج4، ص74

[37] – الانطاكي، تاريخ، ص146-147، ابن القلانسي، ذيل، ص1-3، ابن الاثير، الكامل، ج8، 615-616 المقريزي

[38] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص189

[39] – ابن القلانسي، ذيل، ص3- 4

[40] – انظر الكتاب في اتعاظ الحنفا، ج1، ص189-201

[41] – المقريزي، اتعاظ، ص197

[42] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص202

[43] – ابن القلانسي، ذيل، ص3-5-9، ابن الاثير، الكامل، ج8، 638، المقريزي، اتعاظ، ج1، 202-206، ابن تغري بردي، ج4، ص74-75

[44] – ابن القلانسي، ذيل، ص16

[45] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص211

[46] – ابن القلانسي، ذيل، ص10-18، ابن الاثير، الكامل، ج8، ص640- 641،  واتعاظ، ج1، ص211-214

[47] – ابن القلانسي، ذيل، ص18

[48] – ابن القلانسي، ص20، الكامل، ج8، ص643، اتعاظ، ج1، ص214

[49] – ابن القلانسي، ص21،  المقريزي، اتعاظ، ج1، ص219 ، والطرخان هو الجندي البطال لأكثر من سبب اما لتقدمه بالعمر، او لعزله لسبب سياسي…

[50] – الانطاكي، ص161، مسكويه، تجارب الامم، ج2، ص384 ، ابن القلانسي، ص 21 ، ابو الفدا، المختصر باخبار البشر، ج2، ص 121، المقريزي، اتعاظ، ج1، ص219-220

[51] – ابن القلانسي، ذيل، ص22

[52] – الانطاكي، ص162 ابن القلانسي، ذيل، ص22، 25،  المقريزي، اتعاظ، ج1، ص220-221

[53] –  الانطاكي، ص180 ابن القلانسي، ذيل، ص 28، المقريزي، اتعاظ، ج1، ص238

[54] – ابن القلانسي، ص29

[55] – الانطاكي، ص181، ابن القلانسي، ص 33-34، اتعاظ، ج1، 242-244

[56] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص98

[57] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص187

[58] – ابن القلانسي، ذيل، ص1، الدواداري، الدرة المضيئة في اخبار الدولة الفاطمية، ج6، تحقيق صلاح الدين المنجد، القاهرة، 1961، ص 134

[59] – مسكويه، تجارب، ج2، ص401

[60] – ابن القلانسي، ذيل، ص38-39، الدواداري، ج6، ص192

[61] – مسكويه، تجارب، ج2، ص402، ابن القلانسي، ذيل، ص41-42، الدواداري، ج6، ص 193

[62] – ابن القلانسي، ذيل، ص48-49

[63] – ابن تغري بردي، نجوم، ج4، ص58

[64] – CANARD, M, Histoire de la Dynastie de Jazira et de Syrie, Paris, 1951, p. 667

[65] – الانطاكي، ص 186، ابن القلانسي، ص48

[66] – الانطاكي، ص187، ابن العديم، زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان، المعهد الفرنسي، دمشق، 1954، ج1، ص172

[67] – الانطاكي، ص 187

[68] – ابن القلانسي، ص49

[69] – الانطاكي، ص199-200، الكامل، ج9، ص7، اتعاظ، ج1، ص256

[70]  – الانطاكي، ص200، ابن القلانسي، ص50

[71] – المقريزي، اتعاظ، ج1، ص258

[72] – الانطاكي، ص200-201، ابن القلانسي، ص50-51

[73] – الانطاكي، ص205

[74] – الانطاكي، ص135، ابن العديم، زبدة، ج1، ص161-168، الكامل، ج8، ص603-604

[75] – الانطاكي، ص201، ابن القلانسي، ص51، اتعاظ،ج1، ص259

[76] – ابن القلانسي، ص52، الكامل، ج9، ص18، اتعاظ، ج1، ص259

[77] – الانطاكي، ص220، ابن القلانسي، ص55، اتعاظ، ج1، ص259 – 260

[78] – الانطاكي، ص220، ابن القلانسي، ص55،

[79] – ابن القلانسي، ص61-63، ابن الاثير، الكامل، ج9، ص86-88، اتعاظ، ج1، ص269

[80] – ابن القلانسي، ذيل، ص65-66، اتعاظ،ج1، ص270

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *