نظرة جديدة في اسباب الحملات المملوكية على كسروان.

نظرة جديدة في اسباب الحملات المملوكية على كسروان.

ان موضوع الحملات المملوكية على كسروان اشبع درسا، ومع هذا يستوقفني في هذه المداخلة ثلاث نقاط نقاط اساسية لا بد من ابراز دورها في هذا الشأن:

1 – اهمية اثبات المماليك جدارتهم بحكم مصر والشام عن طريق طرد كل القوى الغريبة غير المسلمة. تبيان دور معركة عين جالوت كنقطة تحول في تاريخ المشرق العربي عامة، وعند المماليك خاصة. اوبالتالي العمل على السيطرة على السواحل كونها مصدر خطر اساسي على الدولة الفتية.

2 –  استناد الجيش المملوكي على اجناد الحلقة كعنصر اساسي في بداية عهدهم، وعلاقته في ما بعد بالمماليك السلطانية، ودورها في الحملات على كسروان.

3 – فساد المماليك منذ نشأتهم والصراع المستمر في ما بين كبار الامراء.

1 – اثبات جدارة المماليك: وحد الخطر المغولي الامراء المماليك آنيا في معركة عين جلوت، من دون ان يتناسوا الاحقاد والاطماع الدفينة، لأن مصيرهم كان على المحك. وما كان مقتل السلطان قطز بطل عين جالوت على يد بيبرس الذي تبوأ العرش مكانه، الا دليلا على الوفاء الغادر.

اراد بيبرس اثبات جدارته، وتأمين حدود الدولة بازالة ما يمكنه من الخطرين المغولي والصليبي. فجهد يسترد المدن الساحلية في بلاد الشام من الصليبيين من دون ان يتمكن منها كلها. ونجح قلاوون ومن بعده ابنه الاشرف خليل بالاستيلاء على مدن السواحل كلها واجلاء الصليبين نهائيا عن المشرق عام 1291م، وبقيت مناطق داخلية حليفة للاعداء عصية على الدولة كان لابد من اخضاعها. وهنا تداخلت اسباب كثيرة في ما بينها حتمت على المماليك اخضاع الكسروانيين، لن اكررها بل سأربطها بالنقطة الثانية اي بدور اجناد الحلقة في حماية الدولة.

من الواضح ان الشعور الديني والمذهبي بلغ مستويات عالية جدا منذ دخول الصليبيين الى الشرق، وازداد حدة بهجوم المغول على البلاد الاسلامية بما في ذلك القضاء على الدولة الخوارزمية، ودولة سلاجقة الروم، ومن ثم القضاء على الخلافة العباسية في بغداد 1258م. فبات المسلمون في ضياع ديني ان صح التعبير. وزاد في الامر سوءا استغلال هولاكو الصراع السني الشيعي الذي ظل محتدما في تلك الاوقات الحرجة بل المصيرية، فاتخذ احتياطات امنت سلامة قبر الامام علي بالنجف من التدمير. وتشير بعض المصادر الى مساعدة الشيعة للمغول. ما اجج الصراع المذهبي الاسلامي الاسلامي.

اجتهد المماليك للاقتصاص من كل من ساعد اعداء الاسلام او يعتقدون انه سيساعدهم. وباعتقادي انهم كانوا يحاولون حفظ انفسهم من السقوط اكثر من التزامهم الديني. بات المماليك بنظر معظم  المسلمين حماة الاسلام، وما كان ممكنا لهم العمل ضد بعض رجال الدين السنة ممن كانوا يرغبون بتحويل كل السكان على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم الى الدين الحنيف. ولكن هل كانت هذه الدوافع وحدها هي التي حدت بالمماليك للتصرف بوحيشية قاتلة ضد الكسروانيين ؟!!والسؤال الذي يطرح نفسه الى اي حد كانت قوة الكسروانيين فاعلة او قادرة على لخروج على السلطة المملوكية، وهل كانوا على درجة عالية من الغباء للوقوف بوجه السلطة التي تمكنت من المغول، واستولت على الكثير من المدن والابراج الصليبية ؟!

يستوقفني امر في غاية الاهمية: لماذا اصر ابن تيمية على الكسروانيين التحول الى السنة، ولم يعرض عليهم االخضوع للسلطة الجديدة والانخراط في الحلقة، ويفيدوا من المميزات الاقطاعية على ان يظلوا على مذهبهم؟!

هذا اضافة الى سؤال آخر قد يكون اكثر اهمية: لماذا لم تعط المناطق الكسروانية بعد اخضاعها، بالوحشية التي صوّرتها المصادر، والتي افقدت الكسروانيين كل مقدرة قتالية، امكانية للعيش البسيط عموما، لماذا  تعط للتنوخيين حلفاء المماليك، وهم اجناد في الحلقة المملوكية التابعة الى نيابة دمشق؟! على الرغم من ان هناك من يزعم ان عدد اجناد الحلقة من التنوخيين لم يجاوز الخمسة وستين جنديا، وهذا صحيح لأن المماليك لم يرغبوا بزيادة هذا العدد كونه كان كافيا للمهمة التي اوكل بها التنوخيون، ما يدفعني للكلام على النقطة الثانية: اي علاقة اجناد الحلقة بالجيش المملوكي، وبالسلطان والامراء. 

ضمّت الحلقة في العهد المملوكي ثلاثة انواع رئيسة: الاجناد الاساسيين ممن حق لهم قانونا بالاقطاعات، وكانوا يشكلون في بداية العهد المملوكي عماد الجيش، بل كانوا جند السلطان المختارين. ثم قدمت الوافدية وضمّت الى الحلقة ونالوا اقطاعات فيها.ثم نافسهم المماليك السلطانية على بعض اقطاعاتهم، على الى جانب جوامكهم (رواتب) ما اثار اجناد الحلقة الاساسيين على الوافدية والمماليك السلطانية.

اما الفريق الثاني من اجناد الحلقة فتشكل عموما من العربان على اطراف الصحراء، والقبائل في ارجاء الدولة، ولا سيما في الثغور،  وكان منهم التنوخيون، الذين اعطوا اقطاعات وارزاق مقابل خدمات يؤدونها، كتأمين طرق البريد، والدفاع عن مناطقهم تجاه الغزاة، والخلود الى السكينة، من دون ان يتمتعوا بمناصب ادارية التي استمرت حكرا على المماليك والمتعممين. وحرص المماليك على الا يرتقي هؤلاء سلم الامرة الا بدرجات متدنية، وقلما حصل احدهم على امرة اربعين او طبلخاناه.

اما الفريق الثالث (لا يعنينا في هذه الدراسة ) فتشكل من المتعممين وبعض المدنيين ممن اشتروا حقوق بعض اجناد الخلقة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل تصرف الكسروانيون بعد معركة وادي الخازندار بداعي العداء المطلق للمماليك ام بقصد الربح المادي؟ وهي عادة كانت متبعة في كل ارجاء المشرق العربي، بل في كل العالم وهي الافادة المادية من الجيوش المنهزمة. بخاصة ان المماليك ما كانوا بعد قد بسطوا سيطرتهم على كسروان؟! وبالتالي لا يعتبر سكانه من رعاياهم.

ويتجلّى الصراع بالاضافة الى ما ذكرت سابقا عن اوضاع المماليك منذ تأسيس دولتهم، بما ارساه السلطان بيبرس اذ استقدام اعداد كبيرة من الارقاء القبجاق وجعلهم من مماليكه الخاصكية، وصار يعتمد عليهم في معظم مهامه خوفا من غدر البحرية، وبالتالي صار الجيش موزع الولاء بين المماليك السلطانية الجدد، والبحرية، واجناد الحلقة بمن فيهم الوافدية.

ولما اغتصب قلاوون العرش من سلامش ابن بيبرس سنة 1279 ناصبه المماليك الظاهرية (نسبة الى الظاهر بيبرس) العداء. فاسس سنة 1281 فرقة المماليك الجراكسة واسكنها ابراج القلعة فعرفت بالبرجية، وجعلها مميزة عن بقية الجيش، فاخلصت له. وسار ابنه الاشرف خليل على خطاه حتى بلغت اعداد البرجية في نهاية عهده 5700 مملوك. وصار الجيش قسمان الاتراك بزعامة بيدرا، والبرجية الجراكسة بزعامة السلطان.وبانت علامات الغدر في اكثر من مناسبة، وصار الاشرف خليل هدفا للاتراك، حتى تمكن بيدرا من قتله غدرا سنة 1293.

صارت البرجية بدون هدف، وثائرة على كل الامراء وتقتل كل من يعترض طريقها، ما حتم اعطاء العرش الى الناصر محمد بن قلاوون وهو بعد طفل، ولم تهدأ البرجية الا بعد ان قتلت بيدرا زعيم المماليك الاتراك. ومع ذلك استمر الانقسام بين البرجية والاتراك واستغله امراء المائة النافذؤن، وتوالى على العرش في هذه الفترة العصيبة والوجيزة 1293 – 1308 خمسة سلاطين.

اذا الصراع على العرش شكل الهدف الاكبر انذاك، وفي الوقت عينه شكل تنافس الامراء على الاقطاعات والمراكز الاسياسية في الادارة سببا وجيها في ولائهم للسلطان او لمنافسه. ما يعني ان الولاء خلا من اي بعد انساني.

اذا استعرضنا قادة حملة 1292 نجد من ابرزها الامير بيدرا قاتل الاشرف خليل، والامير سنقر الاشقر الذي لا تخلو مؤامرة من اشتراكه بها، وقل الامر عينه عن الامير بدر الدين بكتوت. ويضيف ابن كثير قائلا: وخرج الشيخ ابن تيمية ومعه كثير من المتطوعة والحوارنة، وهم في حقيقة الامر اجناد في حلقة دمشق. اما في حملة 1300 حسب رواية المقريزي فقد شارك فيها نواب البلاد الشامية باجنادهم وهم من اجناد الحلقة.

يمكن اضافة الى اسباب حملات 1292 و1300، 1305  التي تناولها معظم مؤرخي المماليك والمؤرخين المحدثين، سببين اضافيين: ابعاد بعض الامراء ممن كانوا يشكلون خطرا على السلاطين اما بسبب زعامتهم على فريق من المماليك، لأنهم قد يقتلون في المعارك، وتخلو الساحة على الاقل بغيابهم من المؤامرات. السبب الثاني التخفيف قدر المستطاع من اجناد الحلقة الذين باتوا يشكلون عامل عدم ارتياح في القاهرة على الاقل، بخاصة بعد ان منح السلاطين مماليكهم اقطاعات على حساب الحلقة لا سيما في الروك الحسامي 1298. هذا فضلا عن ان كثرة تغيير السلاطين وانتساب مماليك سلطانية الى كل منهم، سبب ازعاجا كبيرا للسلاطين الجدد. بحيث كان يتوجب على كل سلطان جديد الاعتماد على قسم من مماليك السلطان السابق ممن يطلق عليهم قراصنة، ريثما يكبر مماليكه.

بالعودة الى تاريخ صالح بن يحي نلاحظ: ان التدمير الذي لحق بالكسروانيين وبممتلكاتهم كان رهيبا، ومع ذلك تم استخدام بعضهم في حلقة طرابلس أكان بوظائف مدنية ولا ندري ماذا يقصد بالمدنية لأن الوظائف المدنية كانت من حق المتعممين وحدهم. فهل هذا يعني ان من لجأ الى طرابلس بدل مذهبه؟!! واعطي قسم منهم اقطاعات في حلقة طرابلس، وهل هذا يعني انهم خضعوا للسلطة المملوكية وبدلوا مذاهبهم.

على هذا، ألم يكن اجدر بالمماليك اغراء الكسروانيين بوظائف في حلقة طرابلس اي حماية الخط الساحلي الممتد من المعاملتين حتى مغارة الاسد الذي اعطي سنة 1305 الى الامير علاء الدين بن معتب البعلبكي وابن صبح، ثم استرد منهما واعطي للعسافيين التركمان.

مداخلة الدكتور انطوان ضومط في المركز الثقافي الفرنسي في نيسان 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *