الاقطاع والارض في الاسلام.

لقد اوجد الاسلام مفاهيم جديدة لملكية الارض واقطاعها، وهي خضعت ، بوجه العموم ، لاهواء الحكام، على الرغم من محاولة الفقهاء الحد من تجاوزهم لمفاهيم الشرع وما تجدر ملاحظته ان ملكية الارض واقطاعها خضعت اجمالا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتأثرة اصلا بالتحولات السياسية في دار الاسلام، لأن الارض شكلت المصدر الرئيسي للدخل لبيت المال بما كان يفرض عليها من ضرائب، وللسكان بما كانت تنتجه،  خصوصا بعد ان استقرت الدولة وتوقفت الفتوحات ونضب معين المغانم ونزع الحكام والارستقراطية الى حياة البذخ والترف.

1 – سياسة الرسول : اختطها ابان غزواته ونشر دعوته، ويمكن اجمالها بما يلي :

أ -مصادرة الاراضي التي اخذت عنوة لصالح بيت المال.

ب – تقسيم الاراضي او انتاجها بين المسلمين والذين خضعوا لهم.

ج – اقرار الذميين على اراضيهم بموجب عقود الصلح ، وتحديد الضرائب عليها.

أ – مصادرة الاراضي التي اخذت عنوة : كثيرون رفضوا الدعوة الاسلامية فاوجب الرسول قتالهم من دون ان يتخذ موقفا موحدا منهم : فاجلى بني النضير واحرق نخلهم ووهب اراضيهم للمهاجرين[1]، وجعل اموالهم حبسا لنوائبه[2]. وتقاسم مع يهود خيبر اراضيهم لتظل عامرة، ومن المرجح انه اقتسم الغلال معهم[3]. اما بنو قريظة فقد قتل رجالهم وسبى نساءهم وذراريهم وقسم اراضيهم على الاسهم بين المسلمين[4].

ب – صلح بلا قتال : وهي اراضي من قاتل المسلمين او من طلب الصلح منهم وقد عومل اصحابها ، في كلتي الحالتين، ما خلا بعض الاستثناءات، معاملة واحدة بحيث قسمت مناصفة بين المسلمين واصحابها، مثل يهود فدك[5]، ويهود وادي القرى والتيماء[6]، واراضي المسيحيين واليهود والمجوس في البحرين[7].

ج – اقرار ملكية الاراضي لاصحابها : وفي هذه الحال تظل الاراضي بيد اصحابها على ان يدفعوا عنها الخراج او العشر.

2 – سياسة الراشدين: سار بعضهم على خطى الرسول والبعض الآخر اجتهد مستعينا برأيه او بالصحابة، ويمكن توزيع سياستهم في نمطين :

أ – في جزيرة العرب : استند بعض الراشدين الى اقوال للرسول او ما نسب اليه ”  ( راجع سياستهم في ” الامة في الاسلام ” ).  فابو بكر استند الى قول للرسول ” انما هي طعمة اطعمنيها الله حياتي فاذا مت فهي بين المسلمين “[8] ، وتاليا قسم حصة الرسول، التي اعتبرت فيئا خالصا له، بين المسلمين.

   اما عمر فقد طبق مفاهيمه الدينية التي عهدناها في ” الامة في الاسلام ” على الذميين مستندا بدوره الى ما نسب للرسول :” لايجتمع دينان في جزيرة العرب ” فاجلاهم عن جزيرة العرب ” وقسم اراضيهم حصصا بين المسلمين بما فيها اراضي مسيحيي نجران وهم اصحاب عهد من الرسول نفسه. ولم يعدم وسيلة لتبرير سياسته، فهي حينا بسبب تفشي وباء بينهم، و من جهة ثانية اتهمهم بالنكث بالعهد، وثالثة بناء على توصية من الرسول ” اخرجوا المشركين من جزيرة العرب “[9] ، ورابعة لعدم الحاجة اليهم لتوفر الايدي العاملة الاسلامية على ما يزعم بعضهم، وبالتالي لم يعد من موجب لبقائهم بين ظهراني المسلمين[10].

    اما سياسة الراشدين خارج الجزيرة فقد خضعت ايضا لاجتهادات الصحابة ، وتركت الاراضي بيد اصحابها أكانت أخذت صلحا او عنوة على ان يؤدوا عنها الجزية، او الخراج ان تحوتوا الى الاسلام ، ما عدا بعض الاراضي التي استأثر بها الفاتحون بسبب مغادرة اصحابها البلاد.

     وهكذا فان الاراضي في المفهوم العام الاسلامي هي ملك بيت مال المسلمين، وللخليفة فقط او من ينتدبه الحق في توزيعها على المسلمين على ان يدفع عنها الخراج، ولا يحق له استرجاعها من شاغليها الا بناء على جرم او قلة العناية بها، كما يجوز لمن استصلح ارضا موات واستغلها ثلث سنوات من دون ان يعترض عليه احد امتلاكها او استغلالها تبعا لرأي الخليفة.

   وتبعا لذلك فان الاقطاع في الاسلام نوعان: تمليك واستغلال. وللتمليك شروط اذ يمكن اقطاع ارض موات لم يثبت صاحبها، واذا كانت الارض جاهلية جاز اقطاعها وتمليكها. اما اذا كانت اسلامية وبارت فلا تملك أعرف صاحبها ام لم يعرف[11]. اما الاراضي العامرة فلا يمكن تمليكها سواء كانت لذمي او مسلم في حال عرف مالكها، وان لم يعرف تصبح ملكا لبيت المال ووقفا مؤبدا، ويحق للخليفة او من يمثله اقطاعها لاي كان.

     اما اقطاع الاستغلال فهو جزية او اجر. وارض الجزية لا يجوز اقطاعها اكثر من سنة لأن صاحبها قد يسلم فتسقط عنه الجزية. وان كانت اجرا جاز اقطاعها لسنين عديدة[12]. ولاقطاع الاستغلال ثلاثة احوال: ان يقطع لسنين محدودة ومعلومة ويعين فيها رزق المقطع والخراج. ان توفي المقطع يعود الاقطاع حكما الى بيت المال. لا يجوز اقطاع الارض مدى حياة المقطع اذ يحق للخليفة استرجاعها بعد مرور سنة كاملة على تاريخ اقطاعها.

                        الاقطاع الاموي

 ارست سياسة الراشدين حق الخليفة وحده باقطاع الاراضي. وما ان استقر الحكم لمعاوية بن ابي سفيان حتى توسع في منح الاراضي لسببين: من اجل استصلاحها، وتوطيد دعائم حكمه. فقد اقطع بعض القبائل في الشام اراضي غير مملوكة في اماكن بعيدة عن المدن والقرى، وصارت بعد ان استصلحوها ملكا لهم. واختار من الاراضي التي كانت لملوك فارس  قسما لنفسه ووهب القسم الآخر لاقاربه. وحذا بعض خلفائه نهجه :فاصطفى عبد الملك بن مروان اراضي في السواد ( جنوب العراق ) اثر قضائه على ثورة مصعب بن الزبير ثم اقطعها لمناصريه. وفي عهد الوليد بن عبد الملك غمرت المياه مساحات واسعة في السواد قدرت قيمة استصلاحها بثلاثة ملايين درهم فاستكثر الخليفة الكلفة، لذلك منحها لاخيه مسلمة الذي عرض ان يدفع تكاليفها. وامتلك خالد القسري مساحات شاسعة في السواد بعد ان استصلحها، وقد قدرت اراداتها السنوية بملايين الدراهم ، حتى بات بمقدوره التأثير على اسعار السوق لكثرة محاصيلها. واكثر ايضا هشام بن عبد الملك من امتلاك الاراضي.

   وعلى الرغم من الدور الاجتماعي الايجابي لهذه الاقطاعات اذ ادت الى استقرار بعض القبائل الرحل ممن عملوا فيها، والى تحويل زعمائها الى ارستقراطية مدنية مالكة او مستغلة، فانها حددت معالم الاقطاع الاموي الذي يمكن اعتباره عشوائيا، غير خاضع اجمالا لقواعد الفقه، او أي تقليد سابق. كما كان لها من جهة ثانية دور سلبي اذ اوجدت ملكيات شاسعة اثرت بالضرورة على الملكيات الصغيرة. اذ بعد ان توقفت الفتوحات ، وصرف الناس مدخراتهم واموالهم التي نالوها من الغنائم من جهة ، ونتيجة للثورات والصراعات من جهة ثانية، انتشر اللصوص وقطاع الطرق وصاروا يغيرون على الملكيات الصغيرة ويعيثون فيها فسادا ونهبا. في حين ان اصحاب الملكيات الكبيرة انشأوا حرسا خاصا بهم ( ميليشيات ) لردع الناهبين ما حدا بالملاكين الصغار الى إلجاء ملكياتهم للملاكين الكبار ( طلب الحماية ) أكان اميرا ( ينتمي الى البيت الحاكم ) او قائدا عسكريا، او له سند قوي من الحكومة المركزية، لقاء مبالغ مالية. وبتعبير اوضح تحولت الملكيات الصغيرة ملكا للمالكين الكبار ويستردها المالكون الصغار عن طريق الاقطاع لقاء مقاسمة يحددها الطرفان لقاء حماية النافذ لاقطاعات المالكين الصغار من المغيرين، ويحد من جهة ثانية من تسلط الجباة عليهم. ولنا مثال صارخ على ذلك يتمثل بإلجاء جيران مسلمة بن عبد الملك اراضيهم له بعد ان وهبه اخوه الوليد مساحات شاسعة في السواد.

مساوئ الاقطاع الاموي : ادى التوسع في منح الاراضي وعملية الإلجاء الى مساوئ اجتماعية واقتصادية اذ شبه اختفت الملكيات الصغيرة، وخضع الفلاحون لتسلط اقطاعي قوي ونافذ، وقد يكون بيت المال اكثر الخاسرين خصوصا عندما صار بمقدور اصحاب الملكيات الكبيرة التهرب من دفع الضريبة او على الاقل التلاعب بقيمتها. واذا كانت هذه الخسائر المالية لم تظهر مباشرة بسبب وفرة الغنائم في البداية فانها برزت بحدة بعد توقف الفتوحات، ما ادى الى وقف عملية وهب الاراضي والاقطاع من دون مبرر كما فعل عمر بن عبد العزيز، والى رفع قيمة الخراج والجزية لسد العجز في موازنة الدولة. وذهب الذمّيون ضحية رفع قيمة الضرائب لان العشر غير قابل للتبديل، اما الخراج فكانت تتراوح نسبته بين 4/1 و2/1 المحصول. وقد تباينت نسبة جباية الجزية والخراج بين اقليم وآخر : ففي السواد تراوحت قيمة الجزية تبعا للمدخول بين 48 و 24 و12 درهما في السنة، ويمكن ان نطلق عليها في اصطلاح عصرنا الحاضر ” ضريبة تصاعدية ” واعتمد الجريب اساسا للخراج، وهو مكيال مساحي، فكان يدفع عن كل جريب حنطة ” قفيز ” ودرهم ، وفي جهات اخرى 4 دراهم عوضا عن الدرهم الواحد. وعن الشعير قفيز ودرهم او درهمين تبعا لجودة الاراضي، و10 دراهم على جريب الكروم ، و8 دراهم على النخيل، و6 على قصب السكر، وعلى الزيتون 12 درهما ، وعلى الخضار 3 دراهم.

   اما في الجزيرة الفراتية فكان مقدار الجزية ديناراً على الرأس ومدّي قمح، وقسطي زيت وخل، وتساوت الجزية فيها على كل الناس. وفي الشام حددت الجزية بدينار على الشخص في المدن، والخراج مقدار ضريبة الجريب على وحدة من الارض مقياسها ما يستطيع الرجل زرعه على حد تعبير عبد العزيز الدوري فضلا عن خل وزيت لقوات المسلمين، وبلغت قيمة الجزية  في مصر دينارين على كل شخص[13].

      الاقطاع لإاداري : بدأ دخول الاتراك في الجيش منذ بدايات العصر العباسي الاول، ويبدو ان المأمون زاد من اعدادهم وسجلهم في ديوان الجيش. واكثر المعتصم من الاتراك في الجيش حتى بلغت اعدادهم آلاف وسجلهم في الديوان وابعد العرب منه. وتعاظم شأن الاتراك حتى باتوا الحكام الفعليين في الدولة، وعمد المتوكل الى اتخاذ تدابير جديدة لتقوية السلطة المركزية وتوحيد البلاد.فعزل الوزير ابن الزيات وزملاءه التجار الاثرياء من مناصبهم الادارية لجمعهم بين وظائفهم واعمالهم التجارية بحيث استغلوا مناصبهم لزيادة ارباحهم على حساب بيت المال مسخّرين القوانين في هذا الاتجاه، واستعاض عنهم بخبراء في الادارة. وعمد الى رأب الصدع الداخلي في الدولة نتيجة تبنيها منذ عهد المأمون مذهب المعتزلة وممارسة الشدّة على الناس ليعتنقوه. فجعل المذاهب السنية الاربعة دين الدولة الرسمي، ومارس تدابير انتقامية تجاه الشيعة الرافضين لهذه السياسة الدينية الجديدة. وتبريرا لتصرفاته تلك انتقم من الذميين باحيائه الشروط العمرية، ففرض عليهم ضريبة على منازلهم ما كانت معهودة قبله، ما اثار ردات فعل، لا سيما انه طبق  تدابيره قسرا. وحاول تبديل بنية الجيش ليصبح موحدا لا يرتبط بقادته من دونه، بل لينصاع لأوامره وحده من دون وساطت القواد الكبار كالأفشين وغيره.كما قرر إلغاء سلطة آل طاهر في العراق وبلاد فارس او على الاقل تحجيمها، لأنهم شكلوا حكومة داخل الحكومة المركزية في بغداد بسيطرتهم على جباية الضرائب وتوليهم شرطة بغداد. ثم عمد الى حل الجيش التركي في سامراء وجزأه ثلاثة اقسام اناط كل قسم بأحد اولاده بعد ان قسم الدولة بينهم ثلاثة اقاليم اساسية.  وبما انهم كانوا قاصرين عين لكل واحد منهم مساعداً قادراً يرتبط بالخليفة مباشرة واناط به مهمات ادارية وضرائبية، وبالتالي نشأ اول اقطاع اداري في الاسلام. ومن اجل تنفيذ خطته عمد المتوكل الى انشاء جديد ” الشاكرية ” يكون ولاءه له وحده مستبعدا منه الاتراك. كما قرر دمج جيش سامراء ( الجيش التركي ) بالشاكرية منعاً للانقسام داخل الدولة، واضعافا لنفوذ الاتراك. ثم شرع يسترجع الاقطاعات الكبيرة من القادة الاتراك، وخاض معهم صراعا مكشوفاً ما ادى الى اغتياله.             

  ادت سياسة المتوكل الى ابعاد اجتماعية واقطاعية مهمة : 1 – قامت ثورات مسيحية في سوريا ولا سيما في حمص، وفي مصر ، وتمكن المسلمون من توسيع املاكهم في الارياف على حساب المسيحيين. وتفسخت البنية الاجتماعية في بغداد نتيجة سيطرة القادة الاتراك، بعد مقتل المتوكل، والصراع بين جيشي سامراء والشاكرية ما شجع نشوء الحركات الانفصالية.


[1] – الاموال ، ص 7 –8 ، ابو يوسف ، الخراج ، ص 68 – 69 ، البلاذري فتوح ، ص 31 – 32

[2] – البلاذري ، فتوح ، ص 33

[3] – سيرة ابن هشام ، ج2 ، ص 49 ، البلاذري ، فتوح ، ص 36 ، 41 ، الاموال ، ص 56 ، والوثائق السياسية ، ص 92 ، 95

[4] – الامكنة عينها

[5] – فتوح ، ص 42-43

[6] – المصدر عينه ، ص 47 -48

[7] – المصدر السابق ، ص 89-90

[8] – فتوح ، ص 45

[9] – الخراج ، ص 73-74 ، فتوح ، ص 36 ، 77 ، والاموال ، ص 99 ،198

[10] – نصرالله ، محمد علي ، نظام تطور ملكية الاراضي ، ص 60

[11] – القلقشندي ، صبح الاعشى في صناعة الانشاء ، ج13 ، ص113-114

[12] – المكان عينه

[13] – لمزيد من المعلومات حول الضرائب ، انظر : المقريزي ، خطط ، ج1 ، ص 77 ، والدوري ، مقدمة في التاريخ الاقتصادي ، ص30

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *