1 – علاقة التاريخ بعلم الحديث: اذا كان لم يؤثر تماما عن عرب الجاهلية تأريخا مدونا يتمتع بكل مقومات التأريخ، فاننا نعرف ان اسلوب الايام- ايام العرب- اسس لأسلوب التأريخ الاولي خلال القرن الاول الهجري وحتى اواسط الثاني. ومنذ الربع الاول من القرن الثاني الهجري بدأت عملية جمع الاحاديث وتدوينها بسعي حكومي رسمي، وآخر فردي نابع من قناعات العلماء. والحديث كما بات معروفا يقسم منهجيا الى قسمين: رجال الاسانيد، ومتون الحديث. ونعني برجال الاحاديث الرجال الذين رووا الحديث عن الرسول او الصحابة. وقد اعطوا الاهمية لمنزلة الراوي الاجتماعية والدينية والاخلاقية ما جعل متن الرواية او الحديث قليل الاهمية اذا ما قورن بمستوى رجال الاسانيد، وصارت بالتالي الحقيقة الدينية النابعة من الاحاديث رهن بمن اسندت اليهم المتون.
وفي بدايات التدوين التاريخي لم تسند الاخبار الى رواتها الاُول باعتبار ان الروايات كانت معروفة في الاوساط الفكرية، لكن عندما تعددت الروايات والاتجاهات الفكرية والسياسية بات الاعتماد على طريقة سليمة لتنقية الاخبار من الدس والاختلاق لتتوافق مع الواقع التاريخي. فلم يجد الاخباريون وسيلة افضل من منهج المحدثين، فصارت الروايات تؤخذ من رجال ثقة من حيث منزلتهم الاجتماعية والدينية، وتهمل روايات آخرين كانت منزلتهم متواضعة من دون التبصّر بمضامين الروايات جريا على منهج اهل الحديث، بل تمّ استبعاد روايات اخباريين من المنطلق عينه.
وهكذا، انطلق التأريخ من علم الحديث وارتبط به لأن التاريخ مهمة دينية اجتماعية توجه سلوك المسلمين والحكام، ويسقط بعده السياسي اذا لم يرتبط بالديني. وتحوّل التوجه الديني عبر التاريخ باتجاهين: سني وشيعي حتى باتت بعض الوقائع تنطلق من المنحى المذكور، فلعبت الميول بمضمون الحقيقة التاريخية. وصار مفترض بالمؤرخ اليوم مقارنة الحوادث الماضوية ليس الفردية فقط، انما العامة ايضا. وليس ايضا ضمن الحادثة الاحادية انما ضمن الكل التاريخي خلال حقبة محددة. لأن الحادثة الفردية وان عبرت عن ذاتها بذاتها النابعة من روحية المؤرخ وميوله فانها تبقى مجتزأة ولا تطال الابعاد الحقيقية للحادثة التاريخية، كما للحدث التاريخي الذي هو خلاّق اصلاً، الا اذا وضعت في الاطار العام للحقبة المدروسة لتقارن بمداليلها في معظم المصادر اسبابا ونتائج وصيرورة عامة.
2 – مؤرخ العصور الوسطى والمفاصل التاريخية: ان المؤرخ في العصور الوسطى عموما لم يعط المفاصل التاريخية اهميتها وابعادها، بل لم يحددها في معظم الحالات، وان اشار الى بعض منها من دون قصد، بل لان ابعادها تلاءمت مع رؤيته، وليس لأهميتها. فنجد احيانا حادثة ثانوية اجمالا تحتل مركزا مرموقا على حساب تحول اساسي على مختلف الصعد.
من هنا يفترض بالباحث في تاريخ العصور الوسطى التوقف عند هذه النقاط، ويعمد هو نفسه الى تحديد المفاصل بالسعي الى اكتشاف العوامل المؤدية اليها، والنتائج التي ترتبت عليها. وقد تكون الاسباب والنتائج بعيدة وغير مباشرة، كما يصح العكس ايضا. وقد يكتشف التأثير البعيد المدى لبعض التحولات التي لم يتوصل اليها المؤرخ المعاصر لها بسبب تركيزه على احداث اخرى فاستهلكتها وقضت عليها، وقد تكون حوّلتها الى عوامل صراعية ادت الى حدث مهم. وعند ذلك نكتشف ان ما ركّز عليه المؤرخ لم يكن يشكل مفصلا تاريخيا بارزا انما عاملا في مسار مفصل ابرز.
3 – العوامل المؤثرة في الحركة التاريخية: من غير المستحب في التأريخ دراسة عامل واحد بذاته لنجعل منه مسببا لمفصل بارز، لأن عوامل عديدة ومشتركة تتضافر لتشكل مفصلا تاريخيا، وتحدد مساره واتجاهاته. فالانطلاق من الجزئيات الى الكليات هدف اساسي لكل مؤرخ ليتمكن من اعادة صوغ الماضي كما حدث لا كما يبتغيه لعوامل في نفسه ترضي ميوله واهواءه.
ان العوامل المؤثرة في الحركة التاريخية بكل تحولاتها سلبا او ايجابا لا يمكن ان تحصر في شخص مهما علت منزلته: خليفة، سلطان… وان كان رائدا مهما، لأن تطور السلطة او انحطاطها لم يكن ابدا مسؤولية فردية بحتة بقدر ما كان مسؤولية جماعية؛ خليفة او سلطان، ادارة: وزراء، عمال ولاة، ودواوين، وجيش الذي هو العمود الفقري لكل سلطة. وان طغى شخص مهما كانت منزلته وأثّر في تحولات السلطة يبقى عمق فهمه مرهون بمدى ادراك المؤرخ للمؤثرات الاخرى، التي ترد اشارات مؤرخي العصور الوسطى اليها تلميحا الى الكلي في احسن الحالات، او الحديث عن كل منها منفردا. ما يفرض على المؤرخ الحديث التعاطي معها باحاطة شاملة تكاملا لرؤية الحدث. ولا يمكن عزل المجتمع عن الحدث لأنه في لبّه، ولم ينل من مؤرخي العصور الوسطى الاهمية المرجوة، بل تعاطوا معه عموما كنتيجة للأحداث وليس كفاعل فيها.
ان قلة من مؤرخي العصور الوسطى اعطوا الشأن الاقتصادي اهميته الحقيقية، بل بعضا منها، او ربطوا بين المجتمع والعامل الاقتصادي، بل احيانا اطلّوا على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي من المنظور السياسي وتداعية بعض احداثه. اذ كان ينظر الى السياسي على انه المحرك في كل الاتجاهات، وعلى كل العناصر ان تكون جاهزة في خدمته. سوى بعض المؤرخين اعطوا العاملين الاقتصادي والاجتماعي قيمة حقيقية من دون النفاذ الى الابعاد والتحولات الا جزئيا واحيانا نادرة.
4 – الدور الديني في الاحداث: اذا كان مؤرخو العصور الوسطى اعطوا الحوادث التاريخية ابعادا وتوجهات دينية في معظم الاحيان ان لم يكن في جميعها، فان دون ذلك محاذير ومخاطر اساسية. فقد يكون لها غطاءات ودلالات دينية انما اذا فتشنا عن الدوافع الاساسية لوجدنا ابعادها سياسية واقتصادية واجتماعية احيانا. وحري بالباحث الحديث اكتشافها. بمعنى عليه الا يأخذ بظاهر النص انما الغوص الى اعماقه وتفكيكه الى جزئيات تستر ما تخفيه القراءة السطحية لأكتشاف الابعاد الحقيقية، والعوامل المؤدية اليه، ومحاولة ترتيبها تبعا لأولياتها، واخضاعها لمنهج اكاديمي صارم، عندها فقط يمكنه الوصول الى اكبر قدر من الحقيقة التاريخية التي هي ابدا مطلقة، وكلما كان منهجه خلاقا، ومصادره واصوله وافية ، كلما اقترب من الحقيقة الماضوية.