ندوة مناقشة كتاب د. وجيه كوثراني ولاية الفقيه

في اطار نشاطاتها في مهرجان اللبناني للكتاب تعقد الحركة الثقافية – انطلياس مجموعة ندوات ثقافية ومن بينها ندوتنا هذه التي يناقش فيها الزملاء الدكاترة الكرام وليد خوري ورضوان السيد ومنذر جابر كتاب الزميل الصديق الدكتور وجيه كوثراني المعنون:” بين فقه الاصلاح الشيعي وولاية الفقيه- الدولة والمواطن”. وقد تكون ندوتنا الاكثر حرارة ومتعة في النقاش بما يطرحه موضوعها من محاور تتقاطع مع تجاذبات سياسية لبنانية داخلية راهنة، وصراع فقهي وآخر سياسي اقليمي.

ايها الاصدقاء تتنازع راهنا شعوب العالم الاسلامي ازدواجية ولاء؛ بعضهم يتوق الى دولة مدنية تراعي المقتضيات الدينية، والبعض الآخر الى دولة شرعية دينية توجهها اجتهادات فقهية. ولعل معادلات الدولة الدينية وفق ولاية الفقيه وما يعادلها تشددا او اعتدالا في المذاهب الفقهية السنية انتعشت وازدهرت في اواخر القرن الماضي لاسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن. واذا اردنا العودة الى التاريخ نستلهم منه العبر والسلوك السياسي لتبين لنا ان العصور الوسطى التي اطلق عليها بعض المؤرخين عصور الايمان وبعضهم الآخر عصور الظلام لخضوع الدول شرقا وغربا لسيطرة الفكر الديني على الافكار وعلى مناحي الدولة السياسية والعسكرية والاجنماعية والدينية وحتى الاقتصادية. وقد عاشت دول اوروبا ازمة مزاوجة السياسي بالديني مدة طويلة، ومن ثم انتهت لصالح الدولة المدنية بعد ان تم حسم ادوار الصراع بين البابوية والامبراطورية وتلاه الصراع الديني في اوروبا الذي دعا خلاله مارتن لوثر الى فصل الزمني عن الروحي. واكتملت سيادة الدول المدنية بعد الثورة الفرنسية 1789.

واُعتمد في الاسلام، منذ حكومة الرسول في المدينية وحتى سقوط دولة المماليك سنة 1517 التشريع الاسلامي نهجا بل دستورا سياسيا واسلوب حياة. وشهد هذا المدى الطويل احداثا مفصلية كثيرة وجّهت تاريخ المسلمين وتركت بصمات ما تزال فاعلة في احداثهم حتى اليوم. ولعل من ابرزها الصراع على منصب الخلافة التي استبعد عنه الامام علي ثلاث مرات. وادى مقتله ومن ثم استشهاد الحسين في كربلاء 61 هجرية الى نشوء نظرية الامام المعصوم التي لم تكن واحدة عند جميع الفرق الشيعية. لتقابل منصب الخلافة عند السنة مع فارق التقديس او القداسة للائمة الاثني عشر عند الامامية، والائمة السبعة عند الاسماعيلية اضافة الى الامام الاكثر اهمية وقداسة عندهم عنيت به محمد بن اسماعيل او المكتوم. وجهد الشيعة للوصول الى الحكم فنجحوا على الاقل في مرحلتين واضحتي المعالم: الخلافة الفاطمية في المغرب سنة 909 ثم انتقالها الى مصر سنة 969 التي اسسها سعيد ابن الحسين الملقب بالمهدي وتلاه خلافاء ائمة تبعا للنظرية الاسماعيلية في الالوهية(ليس الآن موضوع بحثها). والثانية كانت الدولة البويهية في العراق وبلاد فارس. فاذا كان الشيعة الاسماعيلية عملوا على تطبيق نظريتهم في الخلافة الفاطمية ومارسوا ما يشبه ولاية الفقيه لأن الخليفة عندهم كان اماما فقيها، ومن اكثر نماذجه وضوحا الخليفة المعز لدين الله الذي نظّر للعقيدة الاسماعيلية. فانهم صادفوا مشاكل وعقبات كادت تودي بدولتهم من الدويلات الشيعية نفسها كالقرامطة والحمدانيين والبويهيين الذين شكلوا رأس حربة في هذا الموضوع علما ان ولاية الفقيه ستتمأسس في عهدهم. ولم تعمّر النظرية الاسماعيلية حتى في العهد الفاطمي عينه بحيث فقدت الامامة مضمونها.

وفي القرن الرابع الهجري واجه البويهيون اشكالا اساسيا: تمثّل بازدواجية الولاء السياسي والديني، كانوا شيعة متغلّبين على دولة الخلافة العباسية، وكحل لذلك الاشكال اوجدو ولاية الفقيه، اذ دعا ركن الدولة البويهي الشيخ محمد بن بابويه المعروف باسم “الصدوق” ليكون مرشدا له في السياسة والمجتمع والدين، وبالتالي تمأسست ولاية الفقيه وتحوّل التشيّع وللمرة الاول، بعد غيبة الائمة المعصومين، الى مجال ايديولوجي-سياسي استمد منه البويهيون شرعيتهم في مواجهة الخلفاء العباسيين وافقدوهم كل قدرة سياسية وعسكرية، حتى باتوا يملكون ولا يحكمون.

وتمأسست ولاية الفقيه مرة ثانية بوضوح اكثر جلاء بقيام الدولة الصفوية في بلاد فارس سنة 1501 وهي تختلف عن وضع الدولة البويهية لأنها لم تعرف ازدواجية الولاء ولم تكن دولة متغلّبة. وادعى الشاه اسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية ان المهدي ألبسه في طريقه الى مكة التاج الاحمر وعلّق به السف وقال له:” اذهب قد أذنت لك“، ما يعني ان المهدي اعطى الشاه ولاية خاصة، وصار يؤكّد لمريديه انه لا يتصرّف الا بناء على اوامر الائمة الاثني عشر، لذلك صار معصوما مثلهم. وهكذا بات الحاكم السياسي يخضع لسلطة الامام او لنائبه. وع ذلك فان التمأسس الحقيقي لولاية الفقيه عند الصفويين تم في عهد طهمسب ابن الشاه وخليفته الذي استدعى الشيخ علي بن عبد العالي الكركي ليقيم مؤسسة تبث التشيّع عملا بنيابة الفقيه الامام المهدي وولايته العامة في عصر الغيبة، وبالتالي صار للشيخ الكركي حرية التصرف بشؤون الدولة الشيعية الجديدة كونه نائبا عاما عن المهدي نفسه وبوصف الملك او الشاه نائبا عنه. وهكذا صار الديني يسيّر الزمني ويسيطر عليه.

اما في العالم السياسي السني فقد مورست ولاية الفقيه بطرق غير مباشرة منذ الخلفاء الراشدين، فهم كانوا يعتبرون فقهاء لأن المذاهب الفقهية لم تظهر قبل اواسط القرن الثاني/الثامن، واستعانوا بآخرين لهم معرفة بشؤون الشرع لادارة شؤون دولة الخلافة. واستعان الامويون بالائمة والفقهاء تبريرا ديدنيا لشرعية دولتهم. وفي مرحلة لاحقة استعار الخلفاء العباسيون سلطات دينية بلغت حد التقديس ردا على مواقف الشيعة وآرائهم وثوراتهم بان جعلوا انفسهم ممثلين لله على الارض. اضف الى ذلك ان الشرع الاسلامي كان مطبقا في مناحي الحياة كافة، وكان الديني مسيطرا على المدني. وقد خضع الخلفاء والسلاطين والحكام السنة عامة في العصور الوسطى الى سلطة الفقهاء في امور كثيرة، حتى ان بعض الفقهاء فرضوا آراءهم على السلاطين شأن الماوردي الذي حدد سلوك الحكام في كتابه “الاحكام السلطانية”، وابن تيمية الذي افتى للمماليك قتال الشيعة والدروز والموارنة في لبنان، والاسماعيلية في بلاد الشام لأنه واجب شرعي … (لن نخوض كثيرا في هذا الموضوع) وعندما انتصر العثمانيون على المماليك في معركتي مرج دابق 1516 والريدانية في مصر عام 1517 انتزعوا الخلافة من العباسيين وصار السلاطين خلفاء يجمعون السلطتين الدينية والزمنية باشخاصهم، فمارسوا بذلك ولاية الفقيه التي اكتملت بالسلطات التي انيطت بشيخ الاسلام او مفتي اسطنبول الذي كان باستطاعته، على الاقل نظريا، عزل السلطان العثماني.

وقابل نظرية ولاية الفقيه الشيعية النظرية الجهادية عند بعض السنة المعروفة ب” الحاكمية لله” وهي تتصوّر الامام او الخليفة نائبا لله او خليفة له على الارض، وهو مسؤول امامه وحده فقط. ولا يؤذن للبشر بالتشريع لأنه امر مختص بالله وحده، حتى ان القاضي لا يتولى منصبه كونه نائبا عن الخليفة بل لانه نائب عن الله وعليه تنفيذ القانون الالهي. واصحابها يكفّرون كل المجتمعات الاسلامية التي لا تطبق الحاكمية لله، ويعتبرون المجتمعات الاسلامية الحاضرة وتلك غير الاسلامي مجتمعات جاهلية كافرة.

وما تجدرملاحظته ان فقيها واحدا فقط في العالم الاسلامي كله يتمتع بسلطة نائب الامام المعصوم الغائب وبسلطات مركزية وسلطان كامل على كل المسلمين الشيعة ، ما يعني ان نائب الامام هذا يتمتع بهالة دينية وعند بعضهم بهالة قدسية ويدعوا من ضمن التطلعات الكبرى او الاهداف البعيدة الى دولة اسلامية شيعية موحدة تسيّرها سياسته. وبالتالي تتجاوز دعوته وسلطاته القوميات والكيانات السياسية الحديثة المعترف بها من قبل الامم المتحدة، ويمثله فيها نواب له يأتمرون به وحده.

ايها الاصدقاء فشلت ولاية الفقيه عند البويهيين والصفويين، و ما تزال تجربتها في ايران بين اخذ ورد، بين معتدلين مصلحين وآخرين متشددين. وقد حارب عدد وافر من علماء الدين السنة نظرية الحاكمية لله. وانا وان كنت على معرفية في موضوع الاصلاح السياسي الاسلامي لن ادخل في تفصيلاته لأنه موضوع المحاضرين الكرام. هذا الاصلاح الذي اطلع به متنورون من الفقهاء الشيعة في ايران ولبنان، ورواد الجامعة الاسلامية في القرن التاسع عشر، وغيرهم من المصلحين السنة في ارجاء العالم الاسلامي ممن قاربوا بين الدولة المدنية والدولة الدينية، وعالجوا مصطلحات وافكارا غربية وقاربوها بمثيلات لها اسلامية، او شرحوا مدلولاتها وافتوا بها، شأن الديمقراطية، والجنسية، والمواطنة، والتعددية. او وجدوا لها صدى في المفردات والممارسات الاسلامية. في حين كان بعض الفقهاء وعلماء الدين المتزمتون يعتبرونها دخيلة بل غريبة ومرذولة. ونحن وان كنا نأمل بقيام الدولة المدنية في لبنان حرصا منا على المجتمع التعددي، فاننا نتوخى حصول اصلاح سياسي يوفر للمواطنين حدا ادنى من الطمأنين والعيش الكريم، ويبعد شبابنا عن الهجرة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *