نماذج من مؤرخي القرن الثالث

مقدمة – بعض ميزات القرن الثالث/التاسع: من المسلم به ان المعرفة تراكم معلومات وجزء من الحضارة، وشرع المجتمع الاسلامي، خلال القرنين الاولين الهجريين، يؤسس لحضارة عربية اسلامية نضجت خلال القرن الثالث في ميادين شتى: ففي الشعر، وان كان هذا المجال الثقافي رفيع الشأن عند العرب منذ القدم، تطورت المعاني والصور الشعرية متأثرة بالمستجدات وروح العصر، وبرز مبدعون كثر نذكر منهم:ابن الرومي، المتنبي، والبحتري… وتطور الادب بدوره وأخذ ابعاداً جديدة، وبخاصة مع الجاحظ وغيره. وسما علم الكلام ولاسيما بما افرزه فكر المعتزلة المتأثر بالمنطق اليوناني، ونتيجة صراعه الفكري والعقائدي مع المذاهب الاخرى. ما يعني ان العلوم شكلت قفزة في النوعية لتصوغ حضارة عربية اسلامية ذات ركائز أصيلة وخاصة. ولم يكن علم التاريخ ببعيد عن هذا المناخ الفكري المتطور بل جاراه، فظهر عدد من المؤرخين الكبار، الذين سيسير على مناهجهم المؤرخون في القرون اللاحقة وأخص منهم بالذكر: اليعقوبي، والبلاذري، والطبري.                                                                           

   ونشأ في القرن الثالث عهد الفوضى العسكرية او ما اصطلح على تسميته العصر العباسي الثاني، او مرحلة النفوذ التركي (232-334/847-945) التي تعود بداياته الى أواخر عهد المعتصم، هذا الخليفة العباسي الذي اعتمد على الاتراك في الجيش[1]. وإن الخطأ الجسيم فيما اعتمده تمثّل بدخول القواد الاتراك كل واحد مع جنوده في خدمة الخلافة العباسية، فانحصر ولاء الجند لقادتهم، وناصب القادة العداء بعضهم للبعض الآخر، كما للخلفاء. وحيكت المؤامرات، وانتشرت الفتن شبه المستديمة، وتشرذم الجيش وتسلط على الادارة والسياسة وكل مصادر الدخل[2]، واستشرت الفوضى والجريمة، وانهارت سلطة معظم الخلفاء لصالح القادة؛ فاغتصب بعضهم مناطق حكموها لحسابهم الخاص، ونشأت الدويلات في قلب الخلافة العباسية وعلى اطرافها. فتفككت الوحدة السياسية والعسكرية والاقتصادية من دون ان تتمكن من إلغاء الوحدة الفكرية ومفهموم الاجماع الديني ولا وحدة الحضارة، على رغم انتشار المذاهب، والدويلات التي ساهمت كل منها في هذه الحضارة. فكان البلاذري واليعقوبي ومعاصروهما من امثال خليفة بن خياط العصفوري( ت240/854) وابو حنيفة الدينوري (ت282/895) وغيرهما شهوداً على ذلك التطوّر الفكري، واسهموا في بلورة الفكر التاريخي منهجا ومضمونا.

            البلاذري ت 279/892

I – حياته ومؤلفاته:

1حياته: هو احمد بن يحي بن جابر مجهول تاريخ الولادة، ويرجح انه  ولد وترعرع في بغداد وأمضى معظم حياته فيها. كان يكنى حينا بأبي الحسن، وحينا آخر بأبي بكر. اما شهرته « البلاذري » فتعود الى احد اجداده، الذي كان كاتباً عند أحد ولاة مصر على عهد هارون الرشيد، ويزعم بعضهم ان جده هذا شرب عصير مادة البلاذر، الذي يقوي الذاكرة تبعاً للاعتقاد السائد انذاك، او انه كان يتجر به فاشتهر بالبلاذري[3]. أخذ العلم عن علماء بغداد وحضر حلقاتهم في الحديث والأدب، وتثقف في التاريخ والانساب على المدائني وابن سعد، ومصعب الزبيري[4]. وجال في أرجاء الخلافة العباسية طلباً للعلم، فزار دمشق، وحمص، والرَقّة، وانطاكيا، والحجاز، وبعض مدن بلاد فارس، فجمع مادة تاريخية كبيرة ساعده في تحصيلها اتقانه الفارسية وإلمامه بالرومية. وقد يكون اتقانه الفارسية دفع بعض المؤرخين الى جعل اصله فارسياً. وتتلمذ عليه عدد من مشاهير المؤرخين، او على الاقل أخذوا عنه العلم نذكر منهم: ابن النديم صاحب « الفهرست »، وقدامة بن جعفر صاحب «كتاب الخراج»[5]

      عاش ردحاً من حياته في بلاط الخلفاء العباسيين فكان من ندماء المتوكل، ومن المحظيين عند المعتز بالله، الذي اوكل اليه تربية ولده الطفل عبد الله، ومن المقربين الى المستعين، ممّا جعله قريبا من القرار السياسي، ومطلعاً على معلومات ما كان متيسراً لأي كان الحصول عليها، إذ يذكر في مصادره: أخبرني المتوكل. ومن ثم أفل نجمه في حياة القصور، وأصابه الفقر. فهجا الوزراء والحكام بلسانه السيط، ما جلب له اعدءاً كثراً خصوصا في أواخر حياته. وتوفي فقيراً في بغداد عام 279/892 وقد جاوز عمره الثمانين.

2– مؤلفاته: ترك البلاذري عدة كتب من ابرزها: فتوح البلدان، وانساب الاشراف، وكتاب البلدان الكبير الذي لم يكمله على ما يعتقد شاكر مصطفى، وكتاب عهد اردشير[6]. وينسب اليه ابن النديم كتباً أخرى: البلدان الصغير، وكتاب الاخبار والانساب، وكتاب التاريخ[7]. وسنقتصر في هذه الدراسة على مؤلفيه الرئيسين: فتوح البلدان وانساب الاشراف.

II – منهجه

1- نظرته التاريخية في فتوح البلدان: ان فتوح البلدان سجل شامل للفتوحات الاسلامية بما في ذلك هجرة الرسول، وغزوات المسلمين على يهود المدينة، والفتوحات في الجزيرة العربية، والردة، والفتوح في الشام، وأرمينيا، والعراق، وبلاد فارس، والسند، وبلاد ماوراء النهر، إضافة الى معلومات حضارية تتعلق بالجزية والخراج، وامر الخاتم، والدواوين، والخط، والنقود. ويورد البلاذري بعض التفاصيل عن تاريخ البلد او المدينة المفتتحة بعد فتحه، كما يشرح الفتح وطريقته وما تلاه من احداث بارزة بما في ذلك توزيع الغنائم المنقولة والاراضي على القبائل المساهمة باخضاعه.

   وعلى هذا، فهم البلاذري الفتوحات الاسلامية انطلاقا من مسألة الجهاد في الاسلام، فهي ضرورة دينية لنشر الدين، الذي هو هداية من عند الله للناس، كل الناس. وإذا كان الاسلام يقر اهل الكتاب على ديانتهم فإنه يدعوهم ايضا للدخول في دينه « الاسلام ». واذا رفضوا هذه الدعوة عليهم دفع الجزية والتمتع بذمة الله ورسوله. ممّا دفع البلاذري لذكر كل عهود الصلح التي ابرمت مع الذميين. اما من ليس لهم كتاب فهم ملزمون بالإنخراط في هذا الدين والتفاعل معه وإلا فحدهم السيف. وهذان الامران دفعاه لدراسة فتح كل مدينة من المدن على حدة ضمن الاقليم الواحد، لأنه اعتبره اساسا او منطلقا للحركة التاريخية التي تتكامل فيها مسألة الفتوح. لأن الاقليم يشكل البناء الاساسي، وما الحديث عن فتح كل مدينة من المدن الا استكمالا لانتشار الاسلام فيه. وربما كان هذا الامر لم يجعله يميّز بين الفتح اليسير والمعارك الكبرى، فجاءت جميعها متساوية من حيث النظرة الى الحدث. بمعنى ان المفاصل الاساسية  التي سهّلت عملية الفتوح كاليرموك، لم تنل حيّزاً مهماً يميّزها من غيرها، بل اعتبرها معركة كغيرها من المعارك. وبالتالي فالرؤية التاريخية للمفاصل الاساسية كاليرموك والقادسية ونهوند لم تأخذ ابعادها الحقيقية. وازعم انه كان مهتما بقضية فتوح المدن كل واحدة على حدة لأن اكتمالها يشكّل البناء الاساسي للاقليم، وبالتالي جعل السيطرة على الاقليم  الهدف الاساسي من عملية الجهاد، فخضوعه كله للسيطرة الاسلامية يعني انتقاله الى ارض الهداية التي يظللها الاسلام، ويمنع بالتالي عودة الاعداء اليه.

   وبما ان الاسلام هداية من عند الله فيجب التقيد باحكامه، والفتوح وحدها لا تحقق الغاية المنشودة، اذ من الضروري تلاؤمها مع التنظيم الاداري العادل. ما جعل البلاذري يتعرض لاحكام الارض والخراج والجزية وعدم اجتماعهما على الشخص الواحد مبديا نظرة غاية في الفهم الديني بعيدة عن النفع الاقتصادي، نظرة نقدية علّها تدفع الحكام لتصويب احكامهم. ويستتبع التنظيم الاداري أمور أخرى: كالنقد، والدواوين، والنواحي العسكرية المتعلقة بالجند ومرابطتهم في الثغور، وباحوال البلاد المفتتحة، وغير ذلك. وقد يكون التنظيم الاداري، واوضاع السكان العرقية والدينية شكلت العوامل الاساسية التي جعلت البلاذري يتحدث عن فتح كل اقليم على حدة. فجاءت نظرته تاريخية دينية حضارية شاملة تنّم عن فهم واسع لمسألة الجهاد في الاسلام ببعديها الديني والحضاري. و” كأن الحدث لم يكن معزولاً عن ظروفه ومحيطه وتاريخه في عصره ” على حد تعبير ابراهيم بيضون[8].

2- في انساب الاشراف: ان انساب الاشراف سجل عام للتاريخ الاسلامي، بدأه البلاذري بالحديث عن الرسول « السيرة النبوية » وقريش، فالعلويين، ثم العباسيين. اما الامويون فلم يفرد لهم بابا خاصا، وجاء كلامه عنهم غير متوازٍ من حيث التوسع في المضمون. كما تحدث عن العدنانيين، وخصصّ الجزء الاخير من كتابه للقيسيين مركزاً على قبيلة ثقيف معتنياً بأخبار الحجاج بن يوسف. والاشراف عنده ليسوا الا القياديين بين السياسيين المؤثرين في تطور الاحداث، ولعل الانطلاقة الرئيسة للتسمية استمدها من الرسول اشرف اشراف قومه.

   والى ذلك، نظر البلاذري الى التاريخ العام الاسلامي نظرة شمولية ارتكزت على دراسة الشخصيات التي شكّلت، برأيه، مفاصل الحركة التاريخية. فالحدث تتصدره الشخصية وكل الاخبار الفرعية المرتبطة به ليست الا استكمالاً له لتساعد على رؤية أفضل وأشمل لها، لأنها تشكل اساساً لوحدة الموضوع وعبرها يصنع التاريخ. لذلك، وجب ان يكون دورها محوريا تتقاطع معها كل الحوادث الجانبية صغيرها وكبيرها. فالرؤية الى الاحداث يجب ان تأتي موحدة غير مشرذمة، لان احداثها الفرعية تتقاطع كثيرا، في اماكن مختلفة من الكتاب، مع احداث شخصيات اخرى اتخذها البلاذري ايضا محاور رئيسة.

  لذلك، أرخ من خلال الشخصيات جاعلا ً منها اساساً لوحدة الموضوع، ومنطلقاً من موقعها النَسَبي، وتطوّرها في محيطها واطارها السياسي العام. فأرّخ للرسول، والخلفاء، اضافة الى الشخصيات البارزة على مستوى الدولة والقبائل. فقد تناول الرسول مثلاً من ثلاثة ابعاد: من حيث هو قريشي، ومن موقعه الديني كونه رسول من عند الله، ومن خلال دوره السياسي كونه مؤتمن على الامة وادارة شؤونها.

3- مصادره في فتوح البلدان: استقى مادته التاريخية من عدة مصادر من ابرزها كتب الفتوحات مثل: كتب الواقدي والمدائني والحسين بن الاسود الكوفي وغيرهم. ومن كتب الاخباريين الاخرى المتنوعة كمؤلفات هشام بن محمد الكلبي والهيثم بن عدي[9]، ومن رحلاته، التي التقى خلالها ابرز اعلام المدن والاقاليم واشياخها، فاخذ عنهم وان لم يدوّنوا التاريخ، كاشياخ انطاكيا مثلاً[10]، ومن اشخاص محضهم ثقته مثل العباس بن هشام الكلبي[11]، وآخرين مجهولين اسماهم اهل العلم[12].

4- في انساب الاشراف: أستمد البلاذري مصادره ممن أخذ عنهم العلم في الانساب والاخبار التاريخية  كالمدائني، وابي مِخْنَف، ومصعب الزبيري، وابي عبيد بن سلام، ومحمد بن سعد، والزبير بن بكار، والهيثم بن عدي، وعوانة بن الحكم، وغيرهم كثر. كما من اشخاص محضهم ثقته واسماهم “اهل العلم” ومن مصادر شفوية[13].

    تلاءمت هذه المصادر مع مناطق الاحداث عموماً؛ فاستمد اخبار المدينة اجمالاً من الزُهري والواقدي، و اخذ اخبار الامويين وخصوصا المروانيين من عِوانة بن الحكم، وفتوح العراق من ابي مخنف والمدائني. فجاءت مصادره غنية متنوعة تعكس سعة علمه وابحاثه الشخصية.

5- طريقة المعالجة: تميّز البلاذري بانتقاء الروايات من منابعها وبنقدها قبل تدوينها، فنقّاها من الشوائب، واختزلها، ومزج بينها، واعطى الرواية التي، بنظره، اقرب الى الواقع والحقيقة، مركّزا على وحدة الرواية. وقال في هذا الصدد:« اخبرني جماعة من اهل العلم بالحديث والسيرة وفتوح البلدان، ُسقت حديثهم واختصرته ورددت من بعضه على بعض ».[14] واستدرك احيانا عندما لاحظ وجود أكثر من رأي حول الحادثة الواحدة وانه عاجز عن القطع بصدق احدى الروايات وحدها، فذكر الرواية الاصلية واضاف اليها الرأي المعارض [15]. واذا شكّ باحدى الروايات، التي ذكرها بدافع الامانة التاريخية، ابدى رأيه صراحة بقوله« الرواية الاولى اثبت »[16]، محاولاً قدر المستطاع تجنّب العيب، الذي ارتكبه عدد كبير من المؤرخين، المتمثّل بذكر عدة روايات تامة للخبر الواحد من دون ان يكون له موقف منها. ومع ذلك، نلاحظ احيانا انه اورد أكثر من نص للخبر الواحد خصوصا في نصوص المعاهدات من دون ان يكون التعارض بينها كبيرا[17]، وباعتقادي ان ذلك متأت، من التدوين التاريخي السابق لعهد البلاذري والمستند بشكل رئيسي على المصادر الشفوية التي خزّنتها ذاكرة الرواة. وقد يعقّب مؤرّخنا على الخبر الرئيسي بروايات متصلة به ولكنها غير تامة ليكتمل المشهد التاريخي ويزداد وضوحاً مع موقف للبلاذري من هذا التعقيب [18]. وتتكرر احيانا كثيرة روايات بسياق موجز بسياق للخبر الواحد في اماكن متباعدة، لأن الخبر عينه يتقاطع مع احداث عدد من الشخصيات الاساسية في الكتاب. فمثلا تتكرر الحوادث حول مقتل الحسين بن علي بن ابي طالب، التي ذكرها في اخبار كربلاء، ضمن اخبار اخرى تحمل عنوان « مقاتل آل ابي طالب واهل بيت النبي»[19]. ودفعته أمانته التاريخية بعد ان كان يدرج روايات شكّ بصدقها الى ان يبدي رأيه فيها قائلاً « وهذا غلط »[20]، او« زعم فلان »[21] او قيل او يقال…[22]

    ولم يحتل الاسناد النقطة المحورية في نقده او بالتحقق من صحة الاخبار، لأنه، إضافة الى المنزلة العلمية لمصادره، كان يُعمل تفكيره قبل الاخذ بالرواية، مؤسساّ اتجاها خاصاً به. وهذا لا يعني ان البلاذري اسقط الاسناد كلياً اذ نجد عنده حينا سلاسل اسناد طويلة كما في اخبار المدينة والعهد الراشدي[23]، وفي اماكن اخرى ايضا[24]، وحينا آخر اسناداً متقطعاً اي غير شامل لكامل رجال الاسانيد، كقوله « عن رواية ابي مخنف » او« جاء في اسناد الواقدي او المدائني…»[25]، او « قالوا »[26] دلالة على اتفاق المؤرخين على الاسناد ومتن الرواية. كما استعمل كلمة « حدثني »[27] دلالة على الروايات الشفوية، و « روى »[28] تأكيداً على الاخبار المكتوبة، و« يقال »[29]، كما في قوله « قال بعضهم»[30] تدليلاً على الشك او على الاقل عدم الجزم. واعتمد على اشياخ مناطق متعددة؛ كما في قوله:« عن مشايخ من اهل انطاكيا » او « مشايخ من اهل دبيل » وايضا « جماعة من اهل افريقيا»[31].

    وانتقى الروايات من منابعها: فهي شامية في حديثه عن الشام، ومدينية في اخبار الحجاز، وعراقية في تدوين احداث العراق. واتمها جميعها بروايات من مناطق متعددة ارتبطت باخبار الاقليم موضوع تأريخه؛ فعندما تحدث عن الشورى ركّز على روايات اخباريي المدينة لا سيما الزهري والواقدي وبدرجة أقل على اخباريي العراق كأبي مخنف والمدائني، وفي اخبار المروانيين استند بالدرجة الاولى على عوانة بن الحكم مستعينا بروايات عراقية لابي مخنف والمدائني. وفي حديثه عن موقعة الحرّة اعتمد بشكل متوازن على اخباريي المدينة والشام معاً. اما الاخبار العباسية فقد تلاءمت بدورها مع مناطق الاحداث.

    اتخذ البلاذري الموضوع اساساً لتأريخه: ففي فتوح البلدان احتل الاقليم النقطة المحورية، وخصّ المدينة المفتتحة بعنوانها الخاص، متحدثاً عن الفتوحات في الاقاليم والمناطق تبعاً لتسلسلها الزمني من دون ان يأتي تأريخه حوليا، ذاكراً فتح كل مدينة من المدن على حدة. لأنه عندما كان يؤرّخ لاقليم آخر ارخ اتبع النمط عينه وتبعا للتسلسل الزمني. وهذا المنهج يشدد على وحدة الموضوع وتكامل الحدث. واعتمد المنهج عينه في انساب الاشراف محلاً الشخصية مكان الاقليم وجعلها تصدرت الاحداث، وفرّع منها عناوين ثانوية وكأنها وحدة قائمة بذاتها تماما كما في فتوح البلدان، اذ جاء كل خبر من الاخبار المتفرعة من الشخصية او المتممة لها مشابهة لفتح كل مدينة على حدة، حتى اذا اكتمل الحديث عن الفتوح اكتمل معها وفي الوقت عينه المشهد التاريخي للاقليم، تماما كاكتمال الرؤية الكلية للشخصية موضوع التأريخ. وهذا المنهج المعتمد على مفاصل اساسية لم يمكّنه من تدوين تأريخ مطرد باستمرار بحيث كان يعود او يتقدم في الزمن تبعاً لتاريخ الحادثة المروية، خصوصاً انه، كما اسلفت، عالج الاحداث الواقعة في حقبة زمنية واحدة كأنها وحدات مستقلة ممّا جعل تأريخه غير حولي، اذ كلما انهى دراسة احدى شخصياته على توالي السنين عاد الى شخصية أخرى ودرسها وفق المنهج عينه ممّا جعل منهجه شبه حولي.

   وتتلاقى في الكتاب عدة طرق للتأريخ: الطبقات والتراجم ونمط الاخبار التاريخية تبعاً للتسلسل الزمني من دون ان تشكل تأريخاً حوليًا كما اسلفت. وقد يكون هذا المنهج جعل تأريخ البلاذري لا يركز على ذكر التواريخ باستمرار، بل كان يورد زمن الحوادث التي اعتبرها مهمة، كمقتل احد الاشخاص البارزين في كربلاء مثلاً [32] او موت يزيد بن معاوية[33] او غير ذلك من الاحداث البارزة. وقد يذكر احيانا اليوم والشهر من دون السنة كما في حصار المدينة على عهد عبد الله بن الزبير « كان اول قتالهم يوم الاحد لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر.»[34]

    وعلى الرغم من ان التطور كان بدأ طريقه الى التأريخ ليجعل منه علماً قائماً بذاته مختزلاً اسلوب الايام، فالبلاذري وان خطى في هذا الاسلوب، فاننا نجد عنده بعض الحوار والكثير من الاشعار المتصلة بالمناسبات، محدداً احياناً ان بعضها منسوب خطأ الى اصحابها، لانها تشير الى مناسبات أخرى، من دون ان يبخس بأسلوبه هذا التأريخ حقه، لأن العرب ميالون لاستساغة الشعر.

   يعتبر البلاذري من ابرز مؤرخي القرن الثالث، وقد اختط لنفسه منهجاً [35]خاصاً، محاولاً الفصل، ربما من غير قصد، بين علمي التاريخ والحديث، باسقاطه الاسناد احيانا او باختصاره، وبمزجه بين الروايات وصياغة رواية متكاملة هي بنظره الاقرب الى الواقع.  


[1]  – لمزيد من الاطلاع انظر: ضومط(انطوان) وآخرين، الشرق العربي في القرون الوسطى، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، بيروت 1996، ص112-115،135-137

[2]  – الصولي( محمد بن يحي)، اخبار الراضي لله والمتقي بالله، مطبعة الصاوي، مصر، دون تاريخ، ص 142-149

[3]– Becker-Rosenthal, Ei2, T1, Al- Baladhuri,p.1001 

[4] – ibid

[5] – البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978، ص9

[6] – مصطفى، التاريخ، ج1، ص243

[7] – الفهرست، ص 164

[8] – بيضون، مسائل المنهج، ص17

[9] ، البلاذري، فتوح، ص78، 238، 263…

[10] – البلاذري، فتوح، ص163 ، حدثني شيخ من اهل واسط، 288…

[11]  – المصدر السابق، ص 63

[12]  -فتوح،ص290… هذه ليست الا نماذج عن مصادره اذ الكتاب مليئ بالمصادر

[13] –  انظر ادناه

[14]  – المصدر نفسه، ص17

[15] – النماذج كثيرة وسنكتفي ببعضها: انساب،ج 3 تحقيق محمد باقر المحمودي، دار التعارف، بيروت، 1977، ص 163، 193، وج4  القسم الثاني، مكتبة المثنى، بغداد لا تاريخ، ص 25…

[16]  – النماذج عديدة في فتوح البلدان، انظر مثلاً  فتوح ،ص 253و، 157 وانساب 2/295، 4/12، 41…

[17] – المصدر نفسه، انظر على سبيل المثال صلح او عهد نجران ص 75-76 وايضا 178-179

[18] – سنكتفي ببعض النماذج: انظر ما كتبه حول محمد بن الحنفية وعلاقاته بابن الزبير والحجاج بن يوسف: انساب، 3/276-293

[19] – انساب، 3/ 200-205

[20] –  فتوح، انظر رأيه بفتح دمشق، ص129 ، كما بذكره موت ابن الحنفية في ابلة قائلا: ” هذا غلط، والثبت ان ابن الحنفية مات بالمدينة” انساب، 3/295

[21] – كقوله زعم الهيثم بن عدي، فتوح، ص129، انساب، 3/64، 272 و 4ق2 / 164

[22]  – انظر لاحقا.

[23] – البلاذري، انساب الاشراف، تحقيق محمد باقر المحمودي، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1977،ص67…

[24] – انساب، 3 / 193، 269،274 …،  و4ق2/22،28،157…

[25] – فتوح، ص232، 281، انساب، 3/251، 270، 271…و4ق2/ 3،6،35،56،…

[26]– البلاذري، انساب الاشراف،3/ 80،88 ، 142، 150،158،165، 174،237،266وغيرها كثير، فتوح،ص247، 251 ،262….

[27] – فتوح، ص 114، 130، 131  ، 153….وانساب، 3/206، 251، 254،260…

[28] – فتوح، ص  144،162وانساب، 4ق2/14…

[29] – فتوح ، 222،  294انساب3/ 128، 201،…

[30] – فتوح، ص201

[31] – المصدر السابق، ص168، 204،  231…

[32]  – انساب، 3/227

[33] – المصدر السابق، 4ق2/51

[34] – انساب، 4ق2/ 48

[35]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *