ملامح من الاقطاع العسكري في العصور الوسطى

نشر في مجلة المسرة في العددين 719-720 تشرين الثاني- كانون الاول 1985

1-الاقطاع في الاسلام

 الاقطاع ظاهرة حضارية تنظم العلائق الاقتصادية الزراعية بين فئات المجتمع باشراف الدولة ورعايتها. لم يغفل الاسلام هذه الظاهرة بل عززها ونظمها وفق اصوله التشريعية. ويعتبر الرسول اول المشترعين في هذا المجال حدته على ذلك عدة امور: التآلف على الدين والعون الاجتماعي والاستثمار المادي المتمثل باستصلاح الاراضي الموات. ويمكن ادراج جميع هذه العوامل في اطار الجهاد الذي لم ينحصر معناه في القتال في سبيل الدين فقط بل ايضا من اجل خير المسلمين جميعهم على مختلف الصعد، الدينية والاجتماعية والاقتصادية الخ… وان كان نصيب المجاهدين (المقاتلين) اوفر من غيرهم.

وقد حدد الرسول سياسته الاقطاعية بالنسبة الى الاراضي المزروعة[1]والاراضي المستصلحة[2]، والمراعي[3]التي اعتبرها من المنافع العامة، ومعادن الارض. وبذلك يكون قد حدد الاطر العامة للسياسة الاقتصادية الاسلامية، التي اكملها من بعده الخلفاء الراشدون، انما بنسب متفاوتة في التوسع في الاقطاع، وفي شروط استصلاح الاراضي، وتحديد قيمة الخراج والجزية. وما تجدر مىحظته عدم اجازة الشرع الاسلامي اقطاع الضرائب. ويمكن ايجاز مفهوم الاقطاع في الاسلام بما اورده الماوردي: “الاقطاع ضربان اقطاع استغلال واقطاع تمليك، والثاني ينقسم الى موات وعامر. والثاني هو ضربان احدهما ما يتعين مالكه ولا نظر للسلطان فيه الا بتلك الاراضي في حق بيت المال اذا كانت في دار الاسلام. فان كانت في دار الحرب حيث لم يثبت للمسلمين عليها يد فاراد الامام ان يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها فانه يجوز.”[4]وكذلك بما حدده القلقشندي في شروط الاقطاع:” يمكن اقطاع ارض موات لم يثبت صاحبها، وان كانت الارض جاهلية جاز اقطاعها وتمليكها، وان كانت اسلامية وبارت لا تملك عرف صاحبها ام لم يعرف. اما الارض العامرة فلا يمكن تمليكها سواء كانت لذمي او مسلم في حال عرف مالكها. وان لم يعرف تصبح ملكا لبيت مال المسلمين ووقفا مؤبدا ويحق للخليفة او السلطان اقطاعها لاي كان. اما اقطاع الاستغلال فهو جزية او اجر فالجزية لا يجوز اقطاع الارض لاكثر من سنة فصاحبها قد يسلم فتسقط الجزية عنه. وان كان اجرا جاز اقطاع الارض لسنين عديدة”.[5]

من المفيد التوضيح ان ملكية الاراضي واقطاعها في الدولة الاسلامية خضع بالوجه العموم للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المتأثرة اصلا بالتحولات السياسية، لأن الانتاج الزراعي شكل الدعامة الاقتصادية الرئيسة للافراد وخصوصا لبيت مال المسلمين بعد ان استقرت الدولة وتوقفت الفتوحات ونضب معين المغانم.

على الرغم من التقلبات في السياسة الاقتصادية التي شهدتها الدولة العربية الاسلامية حتى منتصف القرن 3/9 فقد ظلت اصول الاقطاع فيها، على الرغم من بعض التجاوزات، مراعية اسس الاقطاع وفق الشريعة[6].

2-الخلفية الساسية والاقتصادية لنشوء الاقطاع العسكري.

أ – الخلفية السياسية: كان للصراع على السلطة (الخلافة) بين العرب كبير الاثر في تفكك الوحدة الساسية والدينية للدولة العربية الاسلامية، ناهيك عن الصراع الاثني الثنائي حينا، والثلاثي حينا آخر بين العرب والفرس والاتراك والبربر وغيرهم. فتعددت الفرق والمذاهب الاسلامية، وتفسخت الدولة ونشأ على اطرافها وفي قلبها دويلات عرقية[7]، واخرى مذهبية كدولة القرامطة والحمدانية والبويهية واخرى في بلاد فارس. قوضت هذه الدويلات سلطة الخليفة واضعفت السلطة المركزية لا سيما في فترة النفوذ التركي او عصره 232-334/847-945 وخير دليل على ذلك قول ابن طباطبا:”واستولى الاتراك منذ مقتل المتوكل عل الخلافة، فكان الخليفة في ايديهم كالاسير ان شاءوا ابقوه، وان شاءوا خلعوه، وان شاءوا قتلوه.”[8]  

ب-الخلفية الاقتصادية: انعكست الصراعات السياسية سلبا على الحياة الاقتصادية، فقل دخل بيت المال نتيجة صراعات الدويلات في ما بينها من جهة ومع السلطة المركزية من ناحية ثانية، وتقهقرت التجارة والصناعة بفعل المصادرات وجراء خراب العديد من الاراضي الزراعية بفعل سيطرت الاغنياء من الحكام على الولايات[9]. ومن الاسباب المباشرة لنشوء الاقطاع العسكري تضمين موارد الدولة الذي بدأ في عهد الخليفة المعتضد 279-2289/892-901[10]، وغدا الامر سابقة خطيرة سار على نهجها المتنفذون العسكريون[11]. واوجد الخليفة المقتدر 295-317/908-932 سابقة ثانية تجسدت باسترجاع الاقطاعات، على مختلف انواعها، من الناس، وخصص ديوانا للمرتجع[12]. ومع ذلك افلس بيت المال، فعمد الوزراء لتغطية النفقات من اموال الخاصة عن طريق المصادرات[13]، فانغمست الدولة في اضطراب مزدوج سياسي-عسكري واقتصادي.

3-البويهيون ونشوء الاقطاع العسكري 334-447/945-1055.

أ-عوامل قيام الاقطاع العسكري: في خضم الفوضى السياسية والاقتصادية في اواخر عصر النفوذ التركي، احتل العراق جماعة من الديالمة كانوا يعيشون في بلادهم حياة بداوة، ويخضعون لعدد من الامراء وشيوخ القبائل، وفي وضع حضاري متخلف يعتمد على اقطاع شيوخ القبائل.[14]

اصطدم دخول البويهيين الى العراق بمصاعب عدة[15]ادت في ما بعد الى قيام الاقطاع العسكري، وهي اولا وجود قوى عسكرية متنوعة في بغداد ونواحي العراق كان لا بد من القضاء عليها، ثانيا افتقار البويهيين الى الفرسان في جيشهم، ما دفعهم الى تجنيد بعض الاتراك ممن اخضعوهم في النواحي، وثالثا مشكلة دفع الرواتب نظرا لشح المال في خزينة الدولة.

من هنا طبق البويهيون نظامهم الاقطاعي المتخلف على العراق وقد اشتمل بالاضافة الى الاراضي الزراعية مردود الضرائب على التجارة في الولايات[16]. فاقطعوا في بداية الامر امراء الولايات الارض والضرائب، ويعتبر اقطاع الضرائب مخالفا لمقتضيات الشرع الاسلامي، واحتفظوا لانفسهم برواتب من خزينة الدولة على غرار الخليفة[17]. ولكن المشكلة المالية لم تحل نتيجة فراغ الخزينة من المال. وقد حدد مسكويه هذه المعضلة وروحية الاقطاع البويهي بقوله:”شغب الديلم على معز الدولة سنة 334/946 شغبا قبيحا…فاضطر الى خبط الناس واستخراج الاموال من غير وجوهها، واقطع قواده وخواصه واتراكه ضياع السلطان وضياع المستترين، وضياع ابن شيرزاد، وحق بيت المال في ضياع الرعية، وصار اكثر السواد مغلقا.”[18]

ويعتبر الدوري خلو الخزينة من المال لم يكن وحده وراء هذه لتدابير، انما ايضا جهل البويهيين الناجم عن ارثهم القبلي بما ألفوه في بلادهم من اقطاع[19].

على هذا النحو اعطيت الاقطاعات اما استغلالا لوارد الارض بما يتحصل عليها من ضرائب، او ضمانا لقاء مبالغ من المال. في كلا الحالين ابرمت الصفقات بموجب عقود. ولم يكن لا الضامن ولا المستغل راضيا تمام الرضى عن وضعه وانتاجه، فجهد كل فريق لاستبدال نمط اقطاعه، لا سيما ان الاقطاع البويهي لم يكن مستقرا على مبدأ يلزم الجميع، نتيجة عجز السلطة عن اعتماد نمط اقطاعي موحد.

ب- الادارة الاقطاعية: ساهم عجز السلطة السياسية (الملك البويهي) والسلطة الدينية (الخليفة) في شلل الادارة بوجه عام، والاقطاعية منها بشكل خاص. فكان المنشور الاقطاعي من حيث المبدأ يلزم المقطع دفع قسم من الخراج لبيت المال، انما لم تعد الحسابات تمر بالدواوين، فساب الخراج. وان دفع المقطع شيئا يكون على الجزء الذي صح من اقطاعه، وليس على كامل مساحة الاقطاع[20]. وكان المقطع مسؤولا ايضا عن صيانة اعمال الري وتحسينها، غير ان نظار الدواوين لم يجرؤوا على سؤال المقطعين عن صيانة منشآت الري وتحسينها التي اهملت فتهدمت، ولا عن الرسوم الاضافية التي يجبونها من الفلاحين خلافا لمندرجات العقد الاقطاعي[21]ما شكل ربحا اضافيا لهم، لا بل تعويضا لهم عن ارباحهم المفترضة نتيجة اهمالهم اقطاعاتهم، وانهاكا لطاقة الفلاحين الاقتصادية والاجتماعية والصحية. فجاء الضرر مزدوجا: خراب القرى وبيت المال، فساء وضع الجند ففسدوا.

ج- آثار الاقطاع البويهي: ازاء سوء التصرف بالاقطاعات كادت الاراضي تبور، وقل انتاجها ومردودها المالي. فعمد المقطعون الى ارجاعها الى بيت الدواوين واستبدالها باخرى كانت ما تزال عامرة، وغدا الامر سابقة انتهجها الجند فصاروا يخربون اقطاعاتهم ويعمدون الى استبدالها حينا بالرضا وحينا آخر قسرا. ومن الامثلة على ذلك ما جرى عام 334/945 اذ ثار بعض الجنود الديالمة على رئيسهم وسلبوه اقطاعه[22].

اشترط على الجنود ممن اقطعوا اراض في السواد التوجه اليها لقبض رواتبهم، غير انهم تقاعسوا غالبا وطلبوا رواتبهم في العاصمة، فعمد المسؤولين الى تدبير جديد زاد في الوضع سوءا بحيث رتبوا لهم مخصصات يومية وضيافة مجانية في الطريق[23]، فانعكس الامر سلبا على الفلاحين والزارعين معا.

انف كبار المقطعين السكن في اقطاعاتهم وادارتها بطريقة مباشرة، واسندوا هذه المهمة الى وكلائهم وغلمانهم[24]، فظلموا جيرانهم وصادروا غلالهم، فاضطر الاهلون الى طلب حماية المتنفذين، ما ادى الى ازدياد قوة مركز المقطعين الذين استشروا في ظلمهم ولم يحموا. فتخلى معظم اصحاب الملكيات الصغيرة عن املاكهم، واستمر فلاحون آخرون بالعمل فدفعوا الضرائب ولبوا رغبات المقطع وغدوا مستأجرين الارض منه وليس من الدولة[25].

ظل نظام جباية الضرائب ساريا الى ان استشرى نفوذ المقطعين الكبار، فاستحال بوجودهم جمع الضرائب، وتخلى النظار عن هذه المهمة[26].

لم يكن الحال على هذا النحو طيلة العهد البويهي، وان شكلت سمته البارزة. ففي عهد عضد الدولة البويهي (338-373/949-983) اعيد بناء المرافق الزراعية لتنشيط الانتاج، وحذفت الزيادات الرمزية على الاقطاع[27]، وغدت الرسوم صحيحة. لكن الفساد كان قد نخر جسم الدولة والادارة معا، فاعيد العمل، وفي عهد عضد الدولة نفسه، بالتجاوزات “فزاد في المساحة واحد بالعشرة بالقلم واضافه الى الاصول، وجعله رسما جاريا، واستمر الى هذه الغاية في جميع السواد-جنوب العراق-، واحدث جنايات لم تكن ورسوم ومعاملات لم تعهد، وادخل يده في جميع الارجاء، وجبى ارتفاعها وجعل لاهلها شيئا منه وكثرت الظلامة من ذلك.”[28]

د- تقويم الاقطاع البويهي: على ضوء ما ورد يمكن الخلوص الى الملحوظات التالية:

-مهد العصر العباسي الثاني للعهد البويهي ببعض التجاوزات في جباية الضرائب وسبل انفاقها، فكان ضمان الموانئ اول هذه المظاهر، وباتت في العهد البويهي قاعدة، فضمنت الضرائب كرواتب لارباب الدولة والجند.

-حصل تجاوز حد السلطة والشرع عن طريق اقطاع حقوق بيت مال المسلمين وتضمينها، وبالتالي اعتماد نمطين لدفع الرواتب: الضمان واستغلال وارد الارض (الخراج وغيره من واردات بيت المال)، علما ان الاقطاع في الاسلام، كما اسلفنا، ضربان اجر او استغلال.

-تأصل التخلف الفكري والاقتصادي في المجتمعات البويهية الاصيلة (بلاد الديلم). فلم يستطعوا الانعتاق من تخلفه، ولم يأخذ بمدنية العراق وحضارته، ولم يتفاعلوا معهما، انما فرضوا نمط تخلفهم عليهما فتقهقر الاقتصاد، وشلت الادارة، وازداد ضعف السلطة المركزية في بغداد.

-كان الهدف من العطاء في الاسلام الجهاد في سبيل الدين وخير المسلمين. اما في العهد البويهي فصار من نصيب الجنود البويهيين (ديالمة واتراكا) الذين تقاعسوا عن الجهاد لا سيما ان الاخطار كانت جمة: البيزنطيون  القرامطة، ومصر الفاطمية…

وعليه يمكن القول ان مرحلة حكم الاجانب للدولة العربية الاسلامية قد تركز وامتد قرونا طويلة، حصل خلالها زوال للاسس الرئيسة للاقطاع واصول الشريعة في تطبيقه، واستعيض عنه بما اصطلح على تسميته الاقطاع العسكري.

4-الاقطاع السلجوقي:

أ-مفهمومه: من الواضح ان النهج الاداري السيئ الذي وصم به العهد البويهي اربك الوضع الاقتصادي، لا سيما الزراعي منه، ما دفع الحكام الاجانب الجدد اي السلاجقة الى اعادة تنظيم الادارة بوجه عام، على الاخص التنظيم الاقطاعي، وقد حظوا بشخصية فذة هي الوزير نظام الملك الطوسي برعت في هذا الشأن.

اعتمد السلاجقة في جيشهم، بعد فشل القوات التركمانية، على الرقيق الابيض الذين جلبوا صغار في السن من بلاد القبجاق على وجه العموم، وعمل على تربيتهم للخدمة العسكرية والاخلاص لسادتهم[29]. وقد حدد الاصفهاني رتب اولئك المماليك وطرق تربيتهم[30].

يعتبر نظام الملك وزير السلطان ملك شاه (ملكشاه) (465-485/1072-1092) اول من اكثر من شراء المماليك البيض وتربيتهم، فقوي بهم نفوذه كثيرا[31]، ويعتقد انه اول من اقطع مماليكه الاقطاعات[32].

يعتبر عبد العزيز الدوري ان الاقطاع السلجوقي انطلق من الرؤية القبلية السلجوقية للملكية المشتركة للارض وقدطوره السلاجقة على ضوء المفاهيم الايرانية المحلية لتلائم متطلبات سلطان مطلق يستند الى قوات عسكرية غازية[33].

من حيث المبدأ يعتبر الاقطاع العسكري او الحربي بمعناه العام اقطاع لوارد الارض لسنين معدودة ومحددة في المنشور الاقطاعي. ومن المسلم به ان نظام الملك هو اول من نظم الاقطاع في العهد السلجوقي، فقد لاحظ ان الخراج لا يجبى بالمقدار المحدد نتيجة الخراب الذي اصاب البلاد[34]، فاستعاض عن دفع رواتب الجند نقدا باقطاعهم الاراضي[35]معتبرا انه الحل الامثل لعمارة البلاد، وبالتالي لزيادة دخل بيت المال.ومنعا للوقوع بالاخطاء التي شابت الاقطاع البويهي عمد نظام الملك الى تدابير احترازية ووقائية، فوزع اقطاع الجندي الواحد في اماكن بعيدة ومتباعدة[36].

ب-الاقطاع الاداري: يتمثل الاقطاع الاداري بولاية والٍ او امير على منطقة تقطع له ويكون حر التصرف بها، ويوزع بدوره الاقطاعات على اجناده[37]. وقد اقطع السلاطين السلاجقة الولايات والقلاع والحصون والمدن امراء جيشهم واهل بيتهم، وخواصهم، بعد الاطلاق عليهم لقب “اتابك”[38]. والوزير نظام الملك هو اول من تلقب به بعد ان فوض اليه السلطان ملكشاه تدبير شؤون دولته[39].

هكذا قسمت اراضي السلطنة السلجوقية الى عدد من الاتابكيات الاقطاعية[40]، ليس فقط من اجل تربية ابن السلطان ورفاهيته، انما لغايات حربية ايضا، فكان من واجبات الاتابك اقطاع جنوده اقطاعات والمجيئ بهم الى حضرة السلطان كلما دعت الحاجات الحربية الى ذلك[41]. ما جعل الاقطاع يقاس من حيث الاهمية بعدد الجند الذي يقدمه صاحبه ابان الحرب.

لم يُرد من اقطاعات الاتابك ان تورث سلاليا على الرغم مما تمتع به صاحبها من استقلال اداري شبه تام. انما مع انحطاط السلطنة السلجوقية تطور هذا النموذج الى اقطاع عسكري حربي وما عاد مقتصرا على الافادة من وارد الاقطاع فقط، انما بات وراثيا سلاليا مارس فيه المقطع صلاحيات ادارية وعسكرية واسعة مقابل الخدمة العسكرية للسلطان. وعندما قلة او ضعفت رقابة السلطة المركزية تجاوز الجند مفهوم نظام الملك للاقطاع الذي تمثل بحقوق على الناس مالية فقط، وفرضوا على الزارعين رسوما اضافية، واعمال سخرة، ما اضطر بعضهم الى طلب الحماية من الاقطاعي الاقوى، وتدريجا بدأت الملكيات الصغيرة بالزوال لصالح الحماة الجدد[42].

هكذا توزعت السلطنة السلجوقية على عدد من الاتابكيات المستقلة اداريا وسياسيا واقتصاديا ورثت النظام الاقطاعي السلجوقي وعممته في المشرق العربي، ومن ثم نهج على منواله الايوبيون. وسيجد الاقطاع العسكري كل مقوماته في عهد المماليك.

ج- تقويم الاقطاع السلجوقي: على ضوء ما تقدم يمكن تسجيل الميزات التالية:

كان الاقطاع السلجوقي ضربين اداري وعسكري تمثل الاول بحكم الاتابك لمنطقة محددة مارس فيها صلاحيات ادارية واقطاعية واسعة. ويتميز الثاني بحصول الاجناد على رواتبهم من اقطاعاتهم، وبالتالي سقطت نظرية نظام الملك التي وجدت اصلا لمنع نشوء المقاطعات المستقلة ضمن السلطنة.

بدا هذا النمط الاقطاعي تراتبيا هرميا: الجندي تابع لقائده، والقائد للسيد الاقطاعي اي الاتابك، والاخير للسلطان، وتحول لا مركزيا وحربيا. ولم يقتصر على الجنود الاغراب وحدهم انما شارك فيه بعض العرب مثل محمد بن مسلم بن سالم العقيلي[43].

بني الاقطاع السلجوقي على الجهاد العسكري واقتصر بوجه العموم على وارد الارض ضمن المفهومين الرئيسيين الاستغلال والضمان، ومن دون ان يشتمل على اقطاع الضرائب الخاصة ببيت مال المسلمين.

حصل تطور من اقطاع اداري مؤقت الى سلالي وراثي، وعم هذا النوع جميع الاتابكيات السلجوقية، وورثه عنهم الايوبيون. ما يعني استمرار الاقطاع العسكري بعد سقوط السلطنة، ومن ثم توارثته الدول اللاحقة وطوعته بما يتلاءم مع مفهومها.

5- الاقطاع المملوكي 649-9232/1250-1517

أ-مفهومه: ورث المماليك دولة اساتذتهم الايوبيين وانتهجوا خطتهم الاقطاعية وعدلوها بما يتلاءم مع توجهاتهم السياسية والعسكرية والاقتصادية. وتلازم النظامان الاقطاعي والعسكري المملوكيان تلازما عضويا بل كمل واحدهم الآخر. وبالتالي انعكس العسكري على الاقطاعي مقدارا اقطاعيا، ومنزلة اجتماعية وسياسية ومنعة داخلية وخارجية.

يمكن ترجمة مفهوم النظام الاقطاعي المملوكي بكل ما يحصل من الارض من غلة ومال، اضافة الى انتاجية بعض الاقطاعات التي تجري عليها المكوس. ويحدد المقريزي كيفية توزيع الاقطاعات  المملوكية[44] على النحو التالي: قسم يعود الى الديوان السلطاني، وقسم اقطع للاجناد والامراء، وقسم وقف على الجوامع والمدارس والخوانق وجهات اكثر، وقسم عرف بالاحباس، وقسم خامس اصبح يشرى ويباع ويورث ويوهب لأنه اشتري من بيت المال، وقسم لا يزرع للعجز عن زراعته فاصبح مراعي للمواشي، وقسم قفر. ويؤكد القلقشندي هذا التقسيم ويزيد عليه قسما ضئيلا اقطع لبعض العرب والتركمان لقاء خدمات معينة[45]. واعتمد على القيراط كوحدة اقطاعية، فقسمت الاراضي على 24 قيراطا، ووزعت على السلطان والامراء والاجناد[46] وخضعت لاكثر من عملية تغيير[47].

لم تقتصر الاقطاعات على الاراضي الزراعية وحدها انما تعدتها الى المعادن والضرائب والمكوس. وكانت الضرائب نوعين: اموال خراجية واخرى هلالية. فالهلالية دفعت شهريا وكانت على عدة انواع احدثها ولاة السوء شيئا فشيئا على حد تعبير المقريزي[48].

ب-المستفيدون من الاقطاع ومقادير اقطاعاتهم: تألف المجتمع المملوكي من ثلاثة عناصر: رجال السيف، رجال القلم والمتعممين، وعامة الناس. اما الذين شملهم الاقطاع فكانوا جميع رجال السيف وبعض رجال القلم والمتعممين.[49]

في بداية الدولة بلغت حصة السلطان اربع قراريط، وباتت نتيجة الروك الحسامي عام 1298 اربع قراريط واضيف اليها تسعة قراريط الى مماليكه[50]. واجري تعديل آخر على هذه الحصص في الروك الناصري 1313-1315 فبلغت حصة السلطان وحده عشرة قراريط[51]. وزيادة عليها كان السلطان يشتري من ماله الخاص اقطاعات اضافية[52]، واستحدث بعضهم دواوين جديدة لادارة شؤون اقطاعاتهم وغلالهم واموالهم كالديوان الخاص الذي استحدثه الناصر محمد بن قلاوون سنة 1323، فاضاف اليه الاقطاعات التي توفرت من روكه المشهور[53]. والديوان المفرد الذي انشأه السلطان برقوق (1382-1388)) وقد بلغ مردوده 400ألف دينار و300ألف اردب من قمح وشعير وفول[54]، هذا عدا عن الضرائب العقارية، والجمارك، والمصانع في البلاد، والضرائب غير العادية على التجارة، وشراء السلع ومن ثم بيعها من التجار باسعار مرتفعة المعروفة ب(الطرح) ناهيك بزياراته لكبار الامراء في اقطاعاتهم ما كان يوجب عليهم تقديم الهدايا والاموال ليظل راضيا عنهم[55].

كان يلي السلطان في الرتبة العسكرية امراء المائة وقد تراوح عددهم بين 11و26 اميرا وشغلوا المناصب الادارية والعسكرية الرئيسة في الدولة. ولا شك تفاوتت هذه المناصب من حيث الاهمية[56]. وكان الاقطاع يعطى لشاغل الوظيفة من دون ان تكون له صفة شخصية، ويسقط عنه بقتله او اعتزاله او نقله او طرده. من هنا تفاوتت انصبة الامراء الاقطاعية تبعا للوظيفة التي شغلوها، ناهيك بمدى حظوتهم عند السلطان او بسطوة الامير وتمادي نفوذه.

في مطلع العهد المملوكي كانت حصة الامراء عشرة قراريط[57]، عدلها الروك الحسامي وصارت مع حصة اجنادهم واجناد الحلقة 11 قيراطا.[58]وعدلت في الروك الحسامي مرة جديدة وباتت مع جميع الاجناد غير السلطانية 14 قيراطا[59]. لكن قيمة مداخيل الامراء لم تخضع لأي عرف او قانون انما تأثرت بالعوامل السابقة اعلاه، ناهيك بنصيب الامير نتيجة الصراعات الداخلية الدموية غير المنتهية طيلة العهد المملوكي. ويقول ابن تغري بردي :”فاق انتاج الامير عز الدين الافرم ثمن الديار المصرية”[60]

اتى امراء الطبلخاناه او الاربعون في المنزلة الثالثة بعد السلطان وامراء المائة، ولم تكن لاقطاعاتهم قيمة مالية ثابتة فتراوحتت حصصهم بين 23و40 ألف دينار جيشي[61]. ومنح امير العشرة اقطاعا يتناسب ورتبته واعداد مماليكه تراوحت بين 7و9 آلاف دينار جيشي[62]. وبلغ انتاج  امير الخمسة ثلاثة آلاف دينار جيشي وما دون[63]، واعتبر على وجه العموم زعماء بعض القبائل العربية ممن انخرطوا باجناد الحلقة من هذه الفئة[64].

كان نصيب اجناد الحلقة في مطلع العهد المملوكي وافرا جدا ما اشر على اهميتهم في الشأن الحربي، اذ بلغ عشرة قراريط من اصل اربعا وعشرين، وتراوح نصيب الجندي الواحد بين قرية ونصف قرية[65]. وتراجع نصيبهم في الروك الحسامي ليصبح 11 قيراطا مع الامراء، وفي الروك الناصري 14 قيراطا مع الاجناد جميعهم، فحصل المماليك السلطانية على افضل الاقطاعات، وما فضل اعطي لاجناد الحلقة.

هكذا اقتسم السلطان والامراء والاجناد مقدرات البلاد الاقطاعية بما في ذلك انتاج الارض، ومردود الضرائب والمكوس متجاوزين الشرع الاسلامي. وفرض على المقطعين واجبات لقاء ما حظوا به من حقوق.

ج-واجبات المقطعين: تعددت واجبات الامراء واستهلت باداء يمين الولاء للسلطان[66]، وكثرا ما حنثوا بها لا سيما منذ اواسط القرن 7/14، وترتب عليها المحافظة على الامن في الداخل، والذود عن الحدود في الخارج او شن الحرب على الاعداء. واوجبت عليهم ايضا تأمين سبل النقل ووسائله والتقادم للسلطان، ودفع الخراج على المحصول. والتزم المقطعون ايضا عمارة الجسور واستصلاح الاراضي نتيجة الفيضان وغيره من العوامل الطبيعية، ومساعدة الفلاحين لا سيما حينما تجدب المواسم[67].

توجب على الامراء اعالة مماليكهم اما باعطائهم ثلثي الاقطاع او المحصول[68]انما كعادتهم لم يحترموا كل هذه الالتزامات[69]ما سيكون له الاثر السيئ على الوضع الاقتصادي في البلاد كلها.

د- الادارة الاقطاعية: تدخل السلاطين شخصيا في توزيع الاقطاعات ووزعوا المناشير الاقطاعية بايديهم على الامراء، واستحدثوا ادارات مالية جديدة لتخدم مآربهم كما اسلفنا. لم تكن للسلاطين مهابة واحدة فاثر انواع لقوى السلاطين، فتسلط الامراء على الضعفاء منهم وحاولوا ايضا الاطاحة بالقوي منهم، ما جعل الادارة الاقطاعية متحركة تخدم الاقوياء من السلاطين والامراء على حد سواء.

كان ديوان الجيش اهم او ابرز الادارت الاقطاعية، من مهامه تسلم الاوراق (المناشير) الاقطاعية، والتدقيق في مقادير الاقطاعات في كامل ارجاء الدولة، واستيفاء الخراج المتوجب عليها، وتسجيل النقص الحاصل في مدخولها[70]، ليصار الى معاقبة المقصرين من حيث المبدأ الذي لم يتماش كثيرا مع الواقع العملي. ويليه ديوان الانشاء الذي تصدر عنه المناشير الاقطاعية  والمربعات بالارزاق بناء على احالة ديوان الجيش[71].

اختص ديوان المرتجع باستعادة الاقطاعات التي يتخلى عنها اصحابها اما نتيجة وفاتهم، او ترقيتهم او لحصولهم على اقطاعات جديدة[72]. وتولى مهمة ادارة الاقطاعات المرتجعة ريثما يقطعها السلطان مجددا ديوان الذخيرة[73]. واعتنى بادارة املاك الاوقاف ديوان الاحباس التي بلغت قيمتها، في اواسط القرن 7/14 مائة وثلاثين ألف فدان، وكثيرا ما كان يصادرها السلطان لصالح الامراء استرضاء لهم[74].

في مطلع العهد المملوكي قيدت هذه الادارات جميع المقطعين بمن فيهم السلاطين، انما عندما تعرض النظام العسكري للخلل تفشى الفساد فيها، وخضعت لاصحاب النفوذ، فخفت فعاليتها.

ه- فساد النظام الاقطاعي: بني النظام الاقطاعي المملوكي ليكون مكسبا للمقطعين وبيت المال والزارعين والفلاحين. وكانت الادارات التي نظمته وادارته فعالة وصارمة من حيث المبدأ، انما اصاب الخلل تدريجا اجهزة الدولة وموظفيها بمن فيهم القيمون على المؤسسات الاقطاعية بحيث تفشى الفساد فيها واستشرى تدريجا ايضا، فتعاضدت مع المقطعين لاستنزاف الفلاحين الذين باتوا بمنزلة الاقنان يقومون بالمتوجب عليهم لقاء ما يكاد يكفي اودهم. ولم ينحصر الظلم بالاعمال الزراعية فقط بل تجاوزها الى التزامات عديدة لم يشر اليها المنشور الاقطاعي ارهقت كواهلهم، ناهيك بعوامل اخرى تجمعت وترسبت واسهمت جميعها في انهاك النظام الاقطاعي وفساده، ولعل من ابرزها:

-قلة روك الاراضي: الروك هو عملية استرجاع الاقطاعات من اصحابها ومسح الاراضي واعادة توزيعها بطريقة ترضي السلطان القائم، ما يدفع بالمقطع الجديد العناية بالارض واستصلاحها ليحصل على مردود جيد. على ان الروك الجزئي كان يتم في مطلع عهد كل سلطان جديد مكافأة للانصار واقتصاصا من الخصوم.وكثرة الانقلابات العسكرية في الدولة قصّرت عهود معظم السلاطين، وبالتالي ازدياد المناقلات الاقطاعية الجزئية او الروك الجزئي، ما ارهق الفلاح وجعله يخضع في السنة الواحدة احيانا الى اكثر من سيد اقطاعي، ويؤدي المتوجب عليه للسابق والجديد.

كان الروك على وجه العموم يريح الفلاحين من شدة المغارم، نتيجة توزيع الاقطاعات بالتساوي ولو نسبيا، ما كان يخفف الفروقات الاقتصادية. ولكن مع الاسف لم ترك الاراضي سوى مرتين الاولى في عهد لاجين 1298 والثانية في عهد الناصر محمد بن قلاوون 1313-1315.

-المقايضات الاقطاعية: اسهمت قلة روك الاراضي وكذلك الكوارث الطبيعية كانتشار الاوبئة وشح المياه او ازدياد نسبة فيضان نهر النيل في ضعف النظام الاقطاعي. ففي سنة 1348 على عهد السلطان شعبان اطاح وباء بعدد كبير من الفلاحين، ما اضطر الاجناد للخروج بغلمانهم لجمع المحاصيل. وبما ان الموسم انذاك لم يكن جيدا عدل يعض الامراء عن استغلال اقطاعاتهم وحذا الجند حذوهم، فبارت اراضي كثيرة، وقل المحصول[75].

ادت هذه الامور مجتمعة الى ظهور المقايضات الاقطاعية والتنازل عن الاقطاعات، فكان الجندي يتخلى عن اقطاعه لقاء مبلغ من المال، فاشترى السوقة والارذال الاقطاعات حبا بالظهور والتباهي، وعجزوا عن استغلالها بشكل جيد، فخربت البلاد على حد تعبير المقريزي[76]. في عهد السلطان الكامل شعبان شجع شاد الدواوين الامير شجاع الدين اغرلو التنازل عن الاقطاعات والمقايضات الاقطاعية ايضا لقاء رسم، فانتشرت الرشوة وجمعت اموال بطرق مريبة[77]. والادهى من ذلك كله تنظيم الادارة الاقطاعية نفسها عملية التنازل والتبادل، كاستحداث الامير اغرلو ديوان البدل[78].

في سنة 1352 ظهرت طائفة دعيت بالمهيسين تقاضت 10% من ثمن الاقطاع المتنازل عنه، وبلغ عددهم حوالى ثلاثمائة مهيس طافوا على الاجناد وزينوا لهم التنازل عن الاقطاعات[79]. واضحى هذا الفساد قانونا عندما اقر البدل في ديوان البدل سنة 1353 بقيمة عشرة دراهم[80]. استغل العربان هذا الفساد وعدم قدرة المقطع من غير العسكر على التصدي لهم فاغاروا على القرى، فسرقوا وهدموا الجسور وخربوا المحاصيل[81].

في العهد الجركسي ازدادت عملية انتقال الاقطاعات، حتى قل عدد الرجال في الجيش، وازداد مدخول قوم وقل انتاج آخرين، فخربت البلاد من كثرة المغارم وعجز مقطعيها عن تأدية واجباتهم[82].

-تفتيت الاقطاعات والاعتماد على الحماية: اعتبارا من عام 1315 شرع السلاطين يبعثرون اراضي المقطع ربما مخافة استقلال الامراء الكبار بها او تقوية نفوذهم، فصاروا يعطون المقطَع من كل ضيعة قسما حتى اذا جمعت الاقسام ساوت مقدار الاقطاع[83]. وما كان باستطاعة المقطع الصغير الاشراف الشخصي على كل اقسام اقطاعه، ولم يملك ايضا الاجناد الكافية لحمايتها، ما اضطره الى طلب حماية المقطعين الكبار لقاء ضريبة استجدت او استجدها اصحاب النفوذ عرفت بضريبة الحماية [84].

-انحطاط اجناد الحلقة: انعكست عمليات التنازل والبدل وتفتيت الاقطاعات ونظام الحماية، كما تطور انصبة حصص السلطان والامراء الاقطاعية سلبا على اوضاع اجناد الحلقة. وشكل هؤلاء في مطلع الدولة المملوكية عماد جيشها، انما بسبب عدم العناية بهم لصالح المماليك السلطانية، كما لاشتداد نفوذ الامراء، وهم بدورهم ولاسباب كثيرة تخاذلوا وابدوا قلة مهارة عسكرية لا سيما في العهد الجركسي[85]. لدرجة ما عاد ينتخب منهم الى الحرب الا عدد قليل، فبات دورهم شبه ثانوي وتناسب مع مقدار اقطاعاتهم.

-سؤ وضع الفلاحين: شكلت كثرة المغارم والتزامات الفلاحين تجاه اولي الامر عوامل رئيسة بانحطاط النظام الاقطاعي، ناهيك بالكوارث الطبيعية مثل قلة الفيضان او ازدياده عن المعدل المطلوب، كما تفشي الاوبئة والامراض. اضف اليها فرض نظام المسؤولية المشتركة على القرية بكاملها بما يتوجب عليها من ضرائب ومغارم[86]. وان هرب احد الفلاحين الزم اولاده وزوجته بتسديد ما توجب عليه[87]. وغالبا ما استغل اولي الامر الظروف غير الطبيعية كأن يضرب البلاد غلاء، او يعم فيها وباء، للايقاع بالفلاحين وتغريمهم ايجارا مضاعفا تقربا من اساتذتهم (امرائهم) وحبا بالترقية[88].

لم يعمل المقطعون، بوجه عام، على تحسين وسائل الانتاج ولا صيانة اعمال الري، ولا استصلاح الاراضي التي بار بعضها تدريجا، انما انحصر همهم بجمع الاموال عن طريق زيادة الضرائب والمغارم، فهجر عدد كبير من الفلاحين زراعة الارض وفضلوا عليها رعاية الماشية[89].

هذه الامور جميعها اسهمت بانحطاط النظام الاقطاعي المملوكي، وبما ان موارد اخرى كانت متوفرة في الدولة كالتجارة والصناعة، تحول اليها ارباب الاقطاع من دون التنبه الى اهمية الاقطاع ودوره المحوري بالامرين معا.

تقويم عام: انعكست التحولات السياسية في بنية الدولة العربية والاسلامية على المقومات الاقتصادية واتجاهاتها خصوصا على الصعيد الاقطاعي الذي يحول تدريجا الى عسكري منذ وصول البويهيين الى السلطة في بغداد، بحيث شمل وارد الارض من الضرائب وحقوق بيت المال بما فيها العائدات الضرائبية، تحت ستار مفهوم الجهاد العسكري في الاسلام وحقوقه على الرغم من تقوقع البويهيين وعزوفهم قدر المستطاع عن الحروب الخارجية. وخفت حدة هذا النوع من الاقطاع بكل اساليبه الملتوية في العهد السلجوقي حين وزعت الاراضي اقطاعات على افراد الجيش تطبيقا لنظرية نظام الملك في الاقطاع. ثم تحول الى اداري عسكري بتوزع الدولة الى اتابكيات، ونحا اكثر نحو الصفة الحربية في اواخر ذلك العهد بتحول الاتابكيات الى دويلات وراثية شبه مستقلة.

لم تكتمل ملامح الاقطاع العسكري الا بتولي المماليك السلطة بحيث شمل اضافة الى الاراضي المكوس والضرائب التي انحصرت جميعها برجال السيف ما خلا الجزء اليسير الذي اقطع للمتعممين والمؤسسات الدينية والتعليمية. ما جعله يتفلت تدريجا من المفهوم الاسلامي الصحيح للاقطاع، ويرتبط كليا بالاقطاع العسكري الذي افرزته الذهنية المملوكية وطوعته وفق تطلعاتها ومكاسبها.

قد يجد الباحث عذرا لهم كونهم رجال سيف يدافعون عن المسلمين لو لم يستنزفوا المقومات الاقتصادية كلها، ويشلوا الادارت الاقطاعية تدريجا من دون العناية الاجتماعية والاقتصادية بالمسلمين، اذ عمت الرشوة والمحسوبيات واستشرى الفساد، وسحق المواطنون من كثرة الظلم والمغارم.

الجدير بالملاحظة التشابه في الانظمة الاقطاعية التي بحثناها، فكان للبويهيين شبه اقطاع اداري، استكمل في العهد السلجوقي وبات وراثيا سلاليا، وهو تشابه جزئيا من حيث الادارة في نظام النيابات المملوكية من دون ان يتخذ الصفة الوراثية، بحيث حق للنائب توزيع الاقطاعات على الاجناد من دون الامراء الذي اقتضى موافقة السلطان[90]، وانشاء بيوت خدمة على غرار السلاطين[91].

تشابهت الانظمة المذكورة من حيث بوار الاراضي نتيجة اهمال المقطعين العناية بها واستصلاحها، وترميم منشآت الري، وتقاطعت ايضا بنشوء نظام الحماية الذي ظلم الفلاحين وصغار رجال السيف من الاجناد، ولم يسلم منه الزارعون الذين اجتهدوا كثيرا للحفاظ على ملكياتهم الخاصة. والغريب بهذا الشأن تحول الحماية الى ضريبة رسمية خىلافا لاحكام الشرع الاسلامي. انما انفرد المماليك بانشاء ديواني التنازل والبدل ما اضر كثيرا بالاجناد والفلاحين وادى الى اضعاف الجيش.

الدكتور انطوان ضومط استاذ التاريخ العربي والاسلامي في العصور الوسطى في الجامعة اللبنانية


[1] – لم تكن نسبة الخراج على الاراضي المزروعة واحدة، لمزيد من الاطلاع انظر: ابو يوسف (يعقوب بن ابراهيم) كتاب الخراج، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، 1978، ص 41، 68-69، البلاذري، (يحي بن جابر)، فتوح البلدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1978، ص 31-33، 36، 42-44، 47-48، 89-90، وابن سلام، (ابو عبيدة القاسم )، الاموال، بيروت، مؤسسسة ناصر الثقافية، 1981، ص 7-8، 56، وابن هشام، السيرة النبوية، بيروت، دار الكنوز الادبية، لا. ت.ج2، ص49

[2] – اجتهد بعض الفقهاء في شروط استصلاح الاراضي ومدة بقائها في ايدي اصحابها، انظر: الخراج، وابن تغري بردي،(جمال الدين ابو المحاسن، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، القاهرة، طبعة دار الكتب 1930-1956، ج2، ص 233-244

[3] – منع الرسول اقطاع الاراضي بوجه عام، وما سمح به كان مشروطا:” لا يأكلون علافها ويرعون فيها” وقال ايضا:”المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلاء والنار”، انظر الماوردي(علي بن محمد بن حبيب، الاحكام السلطانية، القاهرة، ط2، ص 176-178

[4]الاحكام السلطانية، ص 188

[5] – القلقشندي(احمد بن علي)، صبح الاعشى في صناعة الانشاء، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1913، ج13، ص 110و113، 114، 116-117

[6] – في العهد الاموي والعصر العباسي الاول كانت تجبى اموال الخراج وتوزع على الامراء والولاة والاجناد على قدر رتبهم، وعرف هذا الامر بالعطاء. انظر: الدوري، عبد العزيز، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1978، ص153-154.

[7] – نذكر من الدويلات العرقية: الطاهرية والصفارية والسامانية والطولونية والاخشيدية

[8] – ابن طباطبا، محمد بن علي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الاسلامية، مصر، 1938، ص220

[9] – انظر حول المصادرات ابن الاثير، عزالدين، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979، د8، ص 110 وغيرها، وايضا مسكويه، احمد بن محمد، تجارب الامم، مطبعة التمدن، القاهرة، 1914، ج1، ص 43، 217، ولمزيد من الاطلاع حول المصادرات وسوء تصرف الادارة راجع: سعد، فهمي، العامة في بغداد، الاهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1983، ص 332-34، 37

[10] -الصابئ، هلال بن محسن، الوزراء، دار احياء الكتب العربية، القاهرة، 1958، ص13-14

[11]العامة، ص 34-35

[12] – مسكويه، ج1، ص 8، 200-201

[13] -سعد، ص 36-37

[14] – الديالمة نسبة الى اقليم الديلم من بلاد فارس الواقع في سلسلة جبال البورز، انظر: ابن حوقل، صورة الارض، ليدن، 1938، ص376-377، وعن اصلهم وكيفية دخولهم الى العراق راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص144، نجوم، ج3، ص245-246

[15] – لمزيد من الاطلاع انظر: شعبان، محمد عبد الحي، الدولة العباسية –الفاطميون، الاهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1981، ص196-197

[16] – الصابئ، ابو اسحق ابراهيم بن هلال، المختار من رسائل الصابئ، دار النهضة الحديثة، بيروت، لا. ت. ص 343 وما بعد

[17] – مسكويه، ج2، ص87

[18] -المصدر السابق، ج2، ص97-98، اما حقوق بيت المال فكانت الخمس والزكاة والفيئ، واشتمل الفيئ على الخراج والجزية والضريبة على التجار المشركين، والخمس والزكاة على المعادن والغنائم، والزكاة على المواشي والزرع والثمار والذهب والفضة والضرائب على  بضائع التجار المسلمين. انظر سعد، العامة، 39-40

[19] – الدوري، مقدمة، ص 86

[20] – مسكويه، ج2، ص 97-98

[21] – المصدر السابق، ج2، ص99، 172، 175

[22] -مسكويه، ص 96-97

[23] – خصص يوميا للغلام 10 دراهم، وللنقيب 20 ، تجارب، ج2، ص 173-175

[24] -الطرخان، ابراهيم علي، النظم الاقطاعية في الشرق الاوسط في العصور الوسطى، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1968، ص23

[25] – الدوري، مقدمة، ص89-90

[26] – ابن حوقل، ص239-240

[27] – انظر ما يلي

[28] -مسكويه، ج2، ص99

[29] -القلقشندي، صبح، ج4، ص 458

Heyd,histoire du commerce du Levant au moyen age,Leipzig,1936,t.II, p559

[30] -الاصفهاني، الفتح بن علي البنداري، دولة آل سلجوق، مصر، 1318ه، ص 113

[31] – ابو شامة،  شهاب الدين عبد الرحمن الدمشقي، كتاب الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، القاهرة، 1378 ه ، ج1، ص 26

[32] – الاصفهاني، ص 55

[33] – الدوري، مقدمة، ص 95

[34] – الاصفهاني، ص 55

[35] – المكان عينه

[36] – الاصفهاني، ص 55-56

[37] – الدوري، ص ص 95

[38] – الاتابك لفظ تركي معناه الامير الاب او العم، فكان السلطان السلجوقي يعهد الى احد الامراء الكبار تربية احد اولاد السلطان وقد يزوجه امه ويمنحه اقطاعا كبيرا. واطلق هذا اللقب تشريفا في ما بعد على الامراء والقواد. انظر: ابن الاثير الكامل، ج10 ص 29-30 و القلقشندي، ج4، ص 18

[39]الكامل، ج 10، ص 29-30

[40] – ابو شامة، الروضتين، ج1، ص 25، 35، 125، نجوم، ج 5، ص6-7، 125…

[41] – الاصفهاني، ص 55-57 ، حسن، حسن ابراهيم، تاريخ الاسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1967، ج4، ص 60-67، والعبادي، احمد مختار، في التاريخ العباسي والفاطمي، دار النهضة العربية، بيروت، 1971، ص 166-167

[42] – الدوري، ص 96

[43] – الطرخان، ص 27

[44] – المقريزي، تقي الدين احمد، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، بولاق، 1270 هج.، ج1، ص97

[45] – القلقشندي، ج3، ص 455-458

[46]نجوم، ج8، ص 92

[47] – انظر المقادير لاحقا

[48]خطط، ج1، ص 103-106، وانظر انواع المكوس في المصدر عينه ج1، ص 103-107، ومنها على سبيل المثال: السجون، ساحل الغلة، الحوائص، الفراريج، نصف السمسرة، رسوم الولاية، الافراح والمغاني، والمشاعلية…

[49] – تألف رجال السيف من السلطان والامراء جميعهم والاجناد على اختلاف فئاتهم، اما المتعممون فتألفوا من قضاة القضاة، والقضاة، واصحاب المناصب الدينية وبعض الديوانية. وتألف رجال القلم من الذين تولوا وظائف ديوانية على اختلاف انواعها ورتبها.

[50]خطط، ج1، ص 87، بدائع، ج1، ص 137

[51]خطط، ج1، ص 90، بدائع، ج1، ص 137

[52]النظم الاقطاعية، ص 146

[53] – الظاهري، خليل بن شاهين، زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، باريس، 1891، ص 107-108

[54] – الظاهري، ص 106-107، القلقشندي، ج3، ص 457

-[55] Cahen, Claude, “Ikta’” EI2,t.3.p116

[56] – انظرهذه المناصب فيof the American oriental society, 69/3 New haven, 1949, p 468   Ayalon.”Mamlouk army: the Circassians in the Mamlouk Kingdom” Journal

[57]خطط، ج1، ص 87، ابن تغري بردي، ج8، ص 52، صبح، ج4، ص 50

[58] – المكانين السابقين عينهما

[59]خطط، ج1، ص90، صبح، ج4، ص 50

[60]نجوم، ج8، ص 80-81، ولمزيد من الاطلاع على ثراء الامراء انظر المصدر السابق، ج9، ص 153، ج10، ص 6-8، 44، وابن اياس، ج1، ص155-156 اضافة الى العديد من المصادر المملوكية

[61] – فقد الدينار الجيشي قيمته النقدية اعتبارا من سنة 1375، وظل مقياسا حسابيا نظريا لمدخول الاقطاعات عن طريق التخمين، بولياك، الاقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان، منشورات وزارة التربية والفنون الجميلة، نقله عن الانكليزية عاطف كرم، مطابع نصار، بيروت، 1949، ص 67

[62]صبح، ج4، ص 50

[63] – المكان عينه

[64]صبح، ج4، ص 68

[65] – بولياك، الاقطاعية، ص 68

[66] – القلقشندي، ج12، ص 319

[67] – المصدر السابق، ج3، ص 481

[68] -بولياك، ص 27، mamlouk army, p459

[69]سلوك، ج3، ق1، ص130-132، الاقطاعية، ص 28، mamlouk army, 460

[70] – القلقشندي، ج4، ص185-192، وج6، ص 30-31، ج13، ص153، الاقطاعية، ص 28،  الظاهري، ص 103 mamlouk army, p460

[71]زبدة، ص 100

[72] – بولياك، ص 70

[73] – ابن اياس، ج2، ص 277، 305

[74] – المصدر السابق، ج1، ص 206

[75] -القلقشندي، ج4، ص16

[76] – خطط، ج2، ص 219

[77] – المكان عينه

[78]خطط، ج2، ص219، زبدة، ص 109

[79]خطط ، ج2، 219، نجوم، ج10، ص 194، 262، 272.

[80]نجوم، ج10، ص 324

[81]نجوم، ج10، ص 232-233

[82]سلوك، ج3، ق1، ص 33-34

[83] -Ashtor,E.,histoire des des et des salaires dans l’orient medieval,Paris. 1969. P 267

[84] – بولياك، ص77

[85] – لمزيد من الاطلاع انظر: ضومط، انطوان، الدولة المملوكية التاريخ الاقتصادي والسياسي والعسكري، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1980، ص 56-58

[86] – عاشور، سعيد عبد الفتاح، بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى، بيروت، دار الاحدب البحيري، 1977، ص149

[87] – المكان عينه

[88] – المقريزي، اغاثة الامة بكشف الغمة، القاهرة، 1940، ص 45-47

[89] – Ashtor, op. cit. p 167, 268

[90] -القلقشندي، ج4، ص 184

[91] – المصدر عينه، ج4، ص 60-63

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *