ادارة د. انطوان ضومط
ان نكرّم مثقفا هي صلاة نرفعها على مذبح الحضارة، فنتماها معه سيرة ذاتية تتوجها هامة ثقافية فذة، هو فعل ايمان بالثقافة ودورها الريادي في محاكاة شعور الناس، هو خشوع للمعرفة واهلها واجلال للفكر. هو تعبير عن ذواتنا في ذاتية المثقف، وتكريم لانسانيتنا في عالم بدأ يفقد معاني الانسانية، انه حضور العقل في عالم الفكر يحفّزنا للكد والجد.
ايها الاصدقاء، ان تكريم المثقف واجب علينا نحن اهل الثقافة لنفيه بعضا من حقه على المجتمع والوطن بل على العالم، بتسليط الضوء على مساهماته الحضارية، وبالتبحر في انتاجه الفكري ليأنسَ في حنايا نفوسنا، ويرتعَ في خبايا عقولنا خميرة تحفّزنا لاكمال دربه وتطوير مرتكزاته الفكرية. من حقه علينا ان يهدى ابحاثا باقلام مثقفين ارتبطوا به بمنازل وعلائق متنوّعة. انها لعمري اروع هدية تختزن محبة وتقديرا مستديمين
واذا كان التكريم، الذي يحتفل به ارباب الدولة، تخليدا لذكرى المحتفى به فان آليته البرتوكولية الرسمية، على اهميتها، تظل في اطارها الرمزي، ولن تضاهي ابدا احتفالا ثقافيا يجهد المشاركون به في تبيان مساهمات المكرم الفكرية ودورها الحضاري شأن ندوتنا اليوم نتذكر فيها ميشال عاصي، وننحني اجلالا له، لمثقف فذ من بلادي، ونقدم له تحية نابعة من قلب صادق، واقلام بارعة.
ايها الاصدقاء، ولد ميشال عاصي عام 1927 في بيئة مدينية ريفية، في زحلة يوم كانت بعد ترتقي سلم المدينة (لتصبح مدينة) مثابرة على التمسك بمآثر القرية اللبنانية، عاش في بيئة فقيرة تصارع البؤس، وتعارك العوز، وتسرق الاود من الحرمان، ما جعل ميشال عاصي يتنقل بين عدد من مدارس حيه في الحارة التحتا او القريبة منه الى ان استقر في الكلية الشرقية ونال فيها سقف التعليم في البقاع اذاك عنيت (البكالوريا القسم الاول).
وبما ان الطموح حدوده الفراغ دأب ميشال عاصي يجهد لتحقيق ذاته، فلم يقعده الفقر والعوز عن متابعة دراسته، ولم يخجل، تحقيقا لهذه الغاية السامية، من ممارسة اي مهنة شريفة؛ فقد ارتضى ان يكون صبي حلاق وحداد واللحام… عمل ايضا ولثلاث سنوات متتالية سائق سيارات على اختلاف انواعها واحجامها متنقلا بين زحلة وبيروت ودمشق، فجمع مبلغا من المال جعله يعيش صراعا داخليا مريرا: ايركن الى المهنة المحدودة المستقبل بما تدر عليه من ارباح آنية، او ينخرط في عالم الدراسة الرحب المؤدي الى الافق الثقافي اللامحدود؟ وقد قال عن معاناته تلك:” اعتقد ان قدري هو الصراع الدائم بين الغاية والوسيلة، بين الهدف والطريق المؤدية اليه.” فاختار الطريق الاصعب وأللاذَ مذاقا، مزاوجا بين الدراسة ومهنة التعليم فنال البكالوريا القسم الثاني.ثم اجتاز بنجاح امتحان دار المعلمين العالي (كلية التربية الحالية). وادرك ان مهنة استاذ تعليم ثانوي ليست الا محطة يرتاح فيها ريثما يمكنه وضعه المالي مجددا من ارتقاء درجات اضافية على سلم التعلم والثقافة غير المحدودين. ولما اختبر التعليم وجد ان اساليبه وطرقه لا تتوازى مع اهدافه البعيدة، فعبّر عن تلك التجربة المريرة قائلا:” ولا اغالي ان قلت ان آفة التعليم في بلادنا هي كونه يفصل بين الواقع المعيوش والنظريات المطروحة.”.
وظلّ طموحُه وشغفُه بالثقافة حتى الادمان يحفّزانه للارتقاء سلم التعليم، وللغرف من عالم المعرفة ليغدو بدوره مرجعا معرفيا. وكان يعتقد ان الجامعات الفرنسية تؤمّن الكسب الثقافي والغنى الحضاري فجهد للالتحاق باحداها. وبعد لأي مضن مشفوع بالوساطات السياسية اجتاز مصاعب المعاملات الادارية وسافر مع قرينته فرقد الى فرنسا حيث نال دكتوراه في الادب العربي باشراف المستشرق العلامة شار بلاّ، وعاد بها الى بيروت يصارع للتدريس في الجامعة اللبنانية، ويعارك فيما بعد للدخول الى ملاكها التعليمي. الى ان حقق الاثنين معا وصار عميدا لكلية التربية، ومن ثم رئيسا للجامعة اللبنانية بالتكليف.
ايها الاصدقاء لن ادخل في مشاكل واشكاليات العلاقة بين الجامعة اللبنانية والسلطة السياسية ضنا مني بالوقت المحدد لي بخاصة انني متهم دائما بتجاوز دوري كرئيس للجلسات الى منتد فيها. انما سأقول فقط انها علاقة جدلية بين افقين متعارضين على المستويين الثقافي التعليمي والمادي، وان مجلس الوزراء ما يزال حتى اليوم يسطو على استقلال الجامعة الاكاديمي والاداري والمالي، وبالتالي فهل كان بمقدور ميشال عاصي بين تموز 1988 وحزيران 1991 ان يمارس مسؤولياته الجسام المثقلة بما كان يرتبه الوضع السياسي المتعارض مع قناعاته الذاتية، في تلك المرحلة الحرجة والظروف المأزومة؟ فالحكومة كانت حكومتين والوزير وزيرين، والمراسيم جوالة، والانتقال بين الشرقية والغربية عرضة لمختلف انواع المخاطر والرعب. وهو يقول في هذا الصدد:” اقسم بكل غال وعزيز علي ان ما عانيته في رئاسة الجامعة…كان فوق التصوّر والاحتمال.”
ايها الاصدقاء لن اتطرق الى مؤلفات ميشال عاصي الكثيرة فاسحا في المجال امام الاصدقاء الزملاء المنتدين الكلام عليها، وهم مميزون بحسن النباهة والتقويم الاكاديمي ولصوق المعرفة الشخصية بميشال عاصي الذي نستذكر اليوم نرسل اليه ألف تحية وتحية.