احمد ابو سعد مبدع من قريتي.

    في جنبات قرية وديعة تحتضنها ايكات الزيتون ولد احمد ابو سعد في المغيرية سنة 1921 ،في بيت قوامه غرفة واحدة سطحه ترابي شأن معظم بيوت ضيعتنا آنذاك، ابوه لم يكن يملك ارضا بل كان يعتمد على ساعديه في اعالة عائلته ولاسيما ان كثيرين فقدوا، ابان الحرب العالمية الاولى وبسبب الازمتين الاقتصادية لاجتماعية،ليس اراضيهم فقط انما ايضا ما كانوا يملكون من اوان ومال.وسليمة والدته لها اياد بيض على معظم ابناء القرية ،لانها ساعدت بتوليدهم اذ كانت قابلة “داية بالتعبير العامي” وسيكون لهذه الولدة الفاضلة الدور الابرز في توجيه ابنها احمد وفي تربية اولادها ومساعدة زوجها بطريقة فعالة في اعالتهم. وقريتنا يوم ذاك كانت تفتقر الى ابسط مقومات المدنية لا الحضارية لان الحضارة تراث لا ينطبق عليه معيار المدنية،كانت تفتقر على وجه الخصوص الى مدرسة،وما كان اناس القرية يهتمون بالعلم ،لان مقياس الوجاهة كانيتمثل عند الاغلبية بينهم ، بمن يملك عرنة القمح وخابية الزيت،وهذا المعيار شكل ايضا احد اهم مقومات الحياة انذاك.الى ان تكرمت لجنة عمر الداعوق الدينية مشكورة،وافتتحت مدرسة في المغيرية تألفت من غرفة يتيمة  تجاور نظيرة لها خصصت جامعا للصلاة .هناك وفي تلك الظروف،وبتوجيه مركز من والدته بدأ احمد دروسه في المدارس الدينية المسيحية في” مجدلونا” القرية المجارة لقريتنا، ثم في مدرسة القرية .

        ان السؤال البديهي الذي يطرح نفسه: هل ان كل تلك الظروف كانت ستسمح لاحد اطفال المغيرية ان يتبوأ مركزا ادبيا وعلميا مرموقا على مستوى العالم العربي كله لو لم يكن هو نفسه يملك ارادة حديدية ،واناة طويلة،ورغبة جامحة للعلم وطموحا ابعد من الافق؟

    عرفته وانا بعد يافع بفعل صداقة متينة العرى ربطته ببيتنا،وكنت اتساءل وما زلت هل عرف الحقد والكراهية طريقا الى قلب هذا الرجل الذي لم تبرح البسمة تفتر على ثغره مدى حياته؟ احمد ابو سعد الذي  كان ينضح طيبة ومحبة لكل الناس،لم يعامل احدا بقساوة،ولم يصادق كل من في القرية بل احسن اختيار اصدقائه،كانوا كلهم اما من المثقين او من يمكن اثارة الثقافة في نفوسهم لتحويلهم فاعلين من اجل الصالح العام،لم يكن للجهلة – الذين يضمرون الشر للآخرين- مكان في زوايا قلبه .عرفته ايها الاصدقاء بركان ثورة على الجهلة على من يدعون احتكار

المعرفة بحدودها الضيقة المتزمتة ،على من اعتبروا المال مقياس الانسانية والمعرفة،على الاقطاعيين المحليين والسياسيين،الذين رأوا في المثقفين عقبة تعترض سبيلهم.  وثورته تلك كانت الثقافة ابدا محركها ، الثقافة بمعناها الارحب :احياء التراث والتقاليد والمحافظة على مضمونهما الانساني.وقد يكون مرد ذلك الى الحب الذي كنه للقرية بكل ما فيها :العابها،طبيعتها بساطة ناسها،كان همه المحافظة على تراثها الذي اختزنه في روحه وقلبه، ان تعم ايضا المعرفة العلمية وان تسود الثقافة في اوساط ابناء ضيعته،ولم تبق هذه الرغبات مجرد امنيات،بل جسدها افعالا كلما وجد الى تحقيق ذلك سبيلا: فعندما تم افتتاح ناد في مسقط رأسه جاءت مساهمة احمد ابو سعد فيه تقدمة حوالى ثلاث مئة كتاب لمكتبته.لم تمثل الثقافة شعارا فارغا عنده ،او مساهمات مادية فقط، بل جاءت ممارسة حقيقية فعالة ،اذ حارب بفكره غطرسة رؤساء العائلات  ممن اعتبروا انفسهم مقدسين وبالتالي كانوا يعتقدون  ان على الجميع الخضوع   لرغباتهم لانها لم تكن آراء بل اوامر يجب الانصياع اليها ،اولئك ممن كان يزعم بعضهم ان كل العلم الذي يحصله المتعلم لا يضاهي بذار طربوش من القمح.

    ايها الحفل الكريم ان قريتنا مثال في تركيبها للمجتمع اللبناني فهي مختلطة يتعايش فيها المسيحيون والمسلمون ،وكما في كل بيئة هناك من يرفض استمرار هذا العيش بصيغته النبيلة وقد نفذوا من خلال الاحداث المشؤمة الى ضرب التعايش ،وكانت لاحمد انذاك الكلمة الطولى في عائلته ان لم نقل القيادة بعد ان كان في ما مضى باسفل سلمها الاجتماعي ،فقد رفض سياسة الامر الواقع وجهد لاحباط مؤامرات صغيري النفوس بكل ما مكنته الظروف من وسائل،وقد لعب اخوه علي دورا مهما على هذا الصعيد،وبالتأكيد لشهامة في نفسه،وبتوجيه ايضا من احمد .

     قد يتبادر الى اذهان بعض من يسمع حديثي عن صديقي احمد انه كان متعاليا لا يحب الاختلاط بالناس ويجانبهم ،انما العكس كان صحيحا ،فهو لم يترك مناسبة اجتماعيا الا وشارك فيها،قاسم الناس احزانهم وشاطرهم افراحهم ليس بشد الايدي فقط بل كان يؤاسيهم في احزانهم ،ويشاطرهم افراحهم يرقص الدبكة معهم وينادمهم .وانني اقول وبكل صدق ان الفرح والادب الاجتماعي والفوكلور شكلوا عنوان مسيرته الادبية والتاريخية والاجتماعية.

     وعلى رغم كل الطيبة ودماثة الخلق والاخلاص التي اثرت عنه كانت تنتفض في حنايا نفسه ،منذ نعومة اظفاره، بوادر ثورة ما برحت تتنامى وترافق دربه مدى حياته.ثورة على التخلف والرجعية ،ليس في محيط قريته ووطنه فحسب، بل ثورة على جمود في عقول من اعتبرهم سببا في تفكك  المجتمع العربي الرحب. وان من انتفض عليهم ليسوا فئة متجانسة من حيث الانتماء الطائفي او الفكري او الحضاري انما هم يتآلفون بالتمسك بالتقليد وان كان رثا منهجا ايا يكن هذا التحجر والى اي مضمار ينتسب .وقد تأثر كثيرا بآراء صديقه المغفور له الشيخ عبد الله العلايلي التي تدعو الى نبذ الجمود الفكري في المجالات كافة مع الحفاظ على الرصانة واخذ الابداع والعصرنة بعين الاعتبار. وقد اشتعل لهيب ثورته وهو بعد يافعا برفضه المنهج التقليدي في تعليم الدين الاسلامي مقترحا الحداثة والعصرنة لانها ،برأيه ،اكثر ملاءمة وافادة للمتعلم ، فحوكم على جرأته وكاد الامر يعتبر زندقة.لكن صدى ثورته ،على رغم كل ذلك،لم يكن صرخة في واد اذ تبعته اصوات كثيرة تدعو الى ما ذهب اليه احمد ابو سعد، وقد يكون بعضهم قد سبقه الى ذلك متأثرا بالشيخ علي عبد الرازق ورفاقه من دون ان يجرأوا الى الجهر بافكارهم . ومن ثم تنامت الاصوات الرافضة للتقليد وشكلت تيارا فكريا متكاملا كان احمد في صميمه .

      ايها الحفل الكريم ان احمد ابو سعد لم يرفض القديم نتيجة لقدمه ولاسيما التراث،انما رفض المنهج القديم الذي يتنافى مع العصرنة ،وخير دليل على ذلك انه استقى ثقافته من كنوز الترث العربي ،وراح يفتش في امهات الكتب العربية التراثية عن مواضيع غمرتها صناديق النسيان ليعيد بريقها الى اذهان الناس بمنهج خلاق مبدع يدعم توجه ثورته ،لاننا مهما حاولنا تلمس معارف الماضي وفق المنهج التقليدي المتقوقع لن نحقق مأربنا،لان في التراث كنوزا وخيرا كثيرا وبقدرما نطرح عليها اسئلة ذكية بالمقدار عينه تجيب .وازعم انه لا يمكن تحقيق الابداع في التجديد من دون شعور مرهف،وحس انساني عميق تدغدغ حناياه العودة الى الماضي،وليس بحقد ورفض لهذا الماضي لأن الحقد والرفض يؤديان بالضرورة الى نظيرهما،وبالتالي الى القتل والاتلاف،وبتعبير اوضح الى اعدام الماضي .ولم يكن احمد بقاتل ،بل عدو القتلة والجهلة،فهل يعقل ان يرفض الماضي كما حاول بعضهم ،عن غباوة، اعتباره ضد القديم اي عدو التراث؟! ولاسيما قبل ان يصدر مؤلفاته التراثية.لم يستطع هؤلاء

التمييز بين المنهج والمضمون،بين احمد ابو سعد الثائر على المنهج المتخلف والرجل نفسه الذي احب مضمون الماضي بكل ما فيه جيده ورثه.وهذا الحب بزعمي ما جعله يقدم على اصدار  كتابه بل رسالته  المعنونة “اغاني ترقيص الاطفال عند العرب ” التي نال على اساسها شهادة الماجستير في الادب العربي ،وهي لعمري مفخرة ادبية تراثية تضاهي ابداعات الكتب العالمية في المجال عينه.وادرك احمد بحبه العميق للاطفال والتراث ان هذا الفن الادبي الفوركلوري لم يتأت للعرب بتأثير الحضارات الاخرى انما نبع من تطور اجتماعي متدرج ومتراكم تواءم مع التطور الفكري ضمن البيئة الاقتصادية العربية منذ العهد الجاهلي.وقد اثبت ان تلك الاغاني “اغاني ترقيص الاطفال عند العرب” انما هي فوركلور شعبي ،وبالتالي فهي قابلة للديمومة ما دام الشعب الذي صدرت عنه حيا في عميق وجدانه،وما كان ليتمكن من ذلك لولا اعتماده منهجا ابداعيا.

     استمرت ثورة احمد وهذه المرة على المدنية ليست لانها تزيد من رفاهية الانسان بل لانها تقضي على التراث،وتبتلع جمال الماضي ببراءته وروعته وبكل ما فيه من معاني الانسانية  البسيطة بتواضعها، المرهفة بوقعتها، الرائعة بعفويتها.وهذه الثورة لم تحدث صدفة انما تأتت من تعلق احمد بالتراث،ومن حبه العميق للارض ارض ضيعته ،مهد طفولته حيث مرغ رجليه الحافيتين بتراب ازقتها الناعم مع اتراب له يلعبون ببراءة ألعاب القرية لافتقار السوق آنذاك الى اللعب التي تتربع اليوم على رفوف الحوانيت وتتصدر واجهات المحال الانيقة،ولافتقار الناس ايضا للمال الضروري لشراء الالعاب .وكان سعيدا جدا بممارسة تلك الالعاب البريئة المليئة بالحيوية،وهي بدأت منذ زمن غير قصير تفقد بريقها تدريجا مع تقدم المدنية وغزوها ليس شوارع المدن ومنازلها ورياض الاطفال فحسب،بل اندفع جوعها المادي ينهش العاب القرية وبالتالي طفولة احمد وصباه،فاعتراه حنين الى ساحات القرية وبيادرها حيث كان يمارس ألعاب” البيل” و”السبركة” و”تقطيع الاراضي”…

    ان كل ذلك دفعه الى وضع “معجم الالعاب الشعبة اللبنانية” ولم يكتف بما كان يعرف من العاب،بل جمع الالعاب المبعثرة في مختلف القرى اللبنانية ومن كل مناطق لبنان،ولم تفته الالعاب التي كانت تزدحم بها شوارع المدن.لقد حماها كلها من التلف والضياع في صناديق الذاكرة  واذا كان قد عجز عن اعادة الحياة اليها الا انها ستظل ،وبفضله،جزءا من التراث،ومحفوظة بمعجمه”الالعاب الشعبية اللبنانية”

      لقد كان احمد ابو سعد تراثيا من الطراز الاول،اذ عمد الى تطوير ما كان بدأه مارون عبود الذي فصح بعض الكلمات العامية في خطوة استمرت خجولة بفعل المتشددين اللغويين الذين اعتبروا اللغة المحكية ،من منظورهم المتحجر،عارا على الادب.فثار عليهم  ثورة نبعت من حنين صادق يتآلف مع معتقدات الناس،كل الناس في القرى والمدن، دخل الى اعماقهم ،وجسد حنينهم الى البساطة بحفظه تراثهم الشعبي في قاموسه”معجم المصطلحات والتعابير الشعبية” بحيث اوضح معاني التعابير الشعبية ومصطلحاتها التي درج الناس على استعمالها من دون ان يفقهوا بعض معانيها احيانا سوى ما التصق بذاكرتهم ،ان بسبب التحريف الذي اصابها وافقدها اصل اشتقاقها،او لانها اعجمية.وهي تعابير شديدة اللصوق بمعتقداتهم وبثقافتهم العامة،وهي الى ذلك فوركلور ادبي قل نظيره.فخدم بذلك ليس التراث الشعبي من التلف ولا الادباء ممن يجهلون تلك المصطلحات ،بل ايضا المؤرخين الذين هم باعتقادي احوج الناس اليها، ولاسيما ان مخطوطات عصور الانحطات سطرت مختلطة بين العامية والفصحى،وعجز بعض مؤرخي القرن الحالي عن تحديد معنى بعض المصطلحات الشعبية،او انهم فسروها بغير معناها الحقيقي .

         ان احمد ابو سعد لم يتجاوز الادب الى التاريخ بمعجم “المصطلحات والتعابير الشعبية”،او في “اغاني ترقيص الاطفال” فقط بل ايضا بمعجم “اسماء الاسر والاشخاص ولمحات من تاريخ العائلات”،وهو لعمري عمل موسوعي جبار.حاول فيه المؤلف التعريف بالاسر من حيث جذورها اي الاماكن التي ارتحلت عنها،وسبب انتقالها،واين استقرت، وأصل عائلاتها بعد ان اصابها التحريف او الاشتقاق بفعل جهل الاشخاص او الادارة.كما عرف بالشخصيات البارزة فيها من حيث علومهم،وشهاداتهم،ومؤلفاتهم،والاعمال التي يمارسونها ودورهم في الحياة الثقافية العامة.

       ان هذا المعجم وككل عمل موسوعي يفتح مجالا لهامش الخطأ، وهو خطأ غير مقصود ومبرر في آن، استغله مدعو المعرفة الكاملة والتامة لينالوا من مؤلفه،علما انه في اكثر من مناسبة ثقافية ،وهي وفيرة،توجه احمد لكل من يملك معلومة صحيحة حول الاخطاء التي  وردت في معجمه ان يزودوه بها لانه في طور اعداد طبعة جديدة منقحة.

       وانني من على هذه المنصة الثقافية الرائدة اتوجه الى اولئك الذين تعمدوا النقد في سبيل النقد فقط، واسوق اليهم بعض الحقائق حول مؤلفات مشابهة: فاذا عدنا الى” انساب الاشراف” للبلاذري،وقبله الى هشام بن محمد الكلبي وغيرهم من رواد علم الانساب عند العرب في العصور الاسلامية،والى البطريرك اسطفان الدويهي في “تاريخ الازمنة” والى طنوس الشدياق في “اخبار الاعيان في جبل لبنان” وغيرهما لوجدنا ان  دراسة بعض العائلات من حيث اصولها ،وانتقالها ،واستقرارها، وسيرة بعض الشخصيات البارزة فيها ، يعتريها بعض الخطأ.وهذا ليس تبريرا لعمل احمد ابو سعد،او ان الخطأ واجب في دراسة الانساب،بل لالفت الانتباه الى ان هكذا عملا موسوعيا ضخما عرضة للخطأ ،وانه من واجب المثقفين مد يد العون لتصويب الاخطاء وشكر من بذل جهدا جبار لاتمامه .

        ان هذه الكلمة الموجزة لن تفي ،من دون ادنى شك،حق احمد ابو سعد علينا نحن المثقفين،بل هي فقط تحية اكبار لمبدع من ضيعتي ،خدم الانسان العربي المثقف على كامل مساحة العلم العربي.

                                   انطوان ضومط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *