ادارة ندوة المدارس ونظام التعليم في العهد المملوكي.

تميّز العهد المملوكي عن غيره من عهود العصور الوسطى بخاصات فريدة، ويعجز الباحث اذا لم يقف على بنية النظام العسكري، عن فهم تلك الخاصات التي ادت الى تقلبات في الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعمرانية خلال حكم المماليك. لأن نظامهم العسكري شكل المحور الاساسي لحكمهم؛ فقد كان على رأسه السلطان، يليه الامراء الكبار او مقدمو الألوف، الذين منهم ينتقى السلاطين، ثم امراء الاربعون، فصغار الامراء. ويقبع في اسفل سلمه الاجنادُ الذين انتظموا بدورهم من حيث الاهمية وفق الهرمية التالية: المماليك السلطانية على اختلاف مراتبهم، ثم فرسان الحلقة، فمماليك الامراء.

لقد حمل هذا التقسيم في طياته بذور الفساد والانحطاط، لأنه تلاءم مع مصالح جماعة عسكرية غريبة عن مصر وبلاد الشام، وحوّل مجتمعها الى مجتمع عسكري مغلق عن ابناء البلاد وجامد على وجه العموم، حتى بات الانتقال بين فئاته نادرا، وانحصر اجمالا بارتقاء عدد محدود جدا من الامراء والمماليك السلطانية ليشغلوا المراكز الشاغرة التي كانت تعلو رتبهم،  في غالب الاحيان تمتع الانتهازيون بهذه الامتيازات. ومن ناحية ثانية ترك النظام العسكري العرش مشاعا ليتبوؤه كل قادر، بل، على وجه العموم، أكثر الامراء الكبار حنكة ودهاء، وغدرا، وخيانة.

 والى ذلك، ومن اجل حصول الامراء على المراكز الاكثر مردودا اقتصاديا ومنزلة عسكرية، تحوّل العهد المملوكي الى سلسلة غير منتهية من الصراعات العسكرية الدامية والمدمرة للحياة الاجتماعية والاقتصادية،  بحيث كان ينقسم فيها معظم الامراء على اختلاف مراتبهم، وغالبية الاجناد، الى فريقين متحاربين، متخذين اسواق وساحات المدن الرئيسة كالقاهرة ودمشق وحلب وغيرها مسرحا قتاليا، الامر الذي كان يدمرها ويستنزف طاقاتها الاقتصادية والحياتية، ويعرّض السكان الى ابشع انواع المظالم. ومن المؤسف حقا ان حالات انضباط المماليك نلحظها بعهود عديد ضئيل جدا من السلاطين الاقوياء.

وارتبط النظام العسكري عضويا بالنظام الاقطاعي الذي غدا عسكريا بامتياز، واستغل المماليك بموجبه كل مقدرات البلاد الاقتصادية بما فيها الزراعية والصناعية، وصولا الى مردود الجمارك البرية والبحرية، وتقاسموا كل تلك الخيرات الوفيرة جدا وفق ترتيبهم العسكري، فعاشوا فئة مميزة غريبة عن ابناء البلاد، بعاداتها، وتقاليدها، ولغتها، وقوانينها.

وتكفيرا عن ذنوبهم الاقتصادية، وبما تسببوا به من خراب ودمار نتيجة صراعاتهم الداخلية شبه الدائمة، تقرّب السلاطين وكبار امراء من الشعب، بالاكثار من الابنية الدينية المتنوعة، وتشييد المدارس، التي لم يبنوا معظمها بدافع ديني بل رغبة بالحفاظ على ثروات السلاطين والامراء الكبار المنقطعة النظير، متوسلين نمط الوقف الذري ملاذا لاستمرارها بذريتهم، التي جعلوا منها شريكا للمؤسسات الخيرية، ولا سيما المدارس، بادارة املاكهم واستغلال مردودها. لان الوراثة كانت غير جائزة في نظام المماليك، ما ادى الى اطراد في دور التعليم، وليس ادل على ذلك من اسماء المدارس التي تنتسب الى مؤسسيها في مصر وبلاد الشام.

شكل الوقف المرتكز الاقتصادي الاساسي للتعليم، لأن الواقف كان يحدد رواتب المعلمين، وعدد طلاب المدرسة، ورواتبهم، وما يحتاجون اليه من اقلام ودفاتر… ومكان اقامتهم. ولم يكن التعليم وقفا على المدارس وان شكلت عموده الفقري، لأن المساجد، والجوامع، ودور الحديث، والخوانق، والربط، والزوايا، والترب، والبيمارستانات ساهمت بدورها بالحركة التعليمية.

اما هيئة التدريس فقد تألفت من الشيخ وهو على العموم من مشاهير العلماء، ومن المقرئ اي من يقرأ القرآن، والمحدث. وكان يحظى بعض المدرسين بلقب تشريف ( الاستاذ)، ويساعده معيد، وهو احد الطلاب النجباء الذي كان يعيد الدرس بعد انصراف المدرس ليركز باذهان من لم يستوعبه.

اما طرائق التدريس فكانت متنوعة: الالقاء او المحاضرة، وما كان مسموحا للطلاب مقاطعة المحاضر، بل كانت تطرح اسئلتهم في نهاية المحاضرة. والسماع او السماعات، وهو الاستماع الى المحدث او الفقيه يقرأ في مؤلف محدد على الطلاب، ويستمر يسمعهم حتى يتأكد له انهم حفظوا الدرس. والتلقين، والاملاء، والمناظرة او المحاورة.

ويحصل الطالب في نهاية تعليمه على اجازة من شيخه تثبت كفايته في حقله، وكانت الاجازات متنوعة: العامة، او بالفتيا، والتدريس، والتحريرية، وبعراضة الكتب، وبالمرويات…ولم يكن التعليم الديني المتنوع الاختصاصات يختلف كثيرا بين مدينة واخرى من حيث المضمون، انما انحصر التمايز بالمستوى الثقافي للمدرسين.

ايها الحضور الكريم، لن اتوسع في هذا الموضوع فاسحا في المجال للمحاضريْن الكريمين العميد احمد حطيط، والدكتور عمر تدمري التعمّق بالكلام عليه. وانما اريد اضافة ملاحظة اخيرة وهي اننا اذا تفحصنا بامعان نظام التدريس من حيث اسماء المدرسين والشهادات، لوجدنا فيها تقاطعا مهما مع ما يماثلها في حاضرنا: فالاستاذ لقب عالمي متعارف عليه، يماثله “بروفسور” في اللغات الاجنبية، ويتقاطع مع لقب محاضر او الاستاذ الدكتور، وكان يساعده شيوخ اقل منزلة منه تضاهي رتبهم في ايامنا رتبة الاستاذ المساعد، اما المعيد فهو المبتدئ في سلم التعليم العالي، وباتت جميع هذه الالقاب موحدة عالميا. والاجازة مصطلح ما يزال معمول به حتى اليوم في كل جامعات العالم.

ايها الحضور الكريم كان التعليم في العصور الوسطى رسالة اجمالا، فهل ما يزال كذلك في ايامنا؟ وربما يشكل هذا السؤال عنوانا لمؤتمر جديد.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *