التأريخ في القرنين الرابع والخامس الهجريين.

I- المميزات العامة

   1- الاوضاع العسكرية: ان توجّه التأريخ العربي والاسلامي في العصور الوسطى ارتبط عموما بالتحولات التاريخية الكبرى خصوصا اعتباراً من اواسط القرن الثالث/التاسع، منذ ان بدأت الخلافة العباسية تتجزأ الى دويلات، وانحلت سلطة الخلفاء او شبه انعدمت على المستوى السياسي، وغدا الامراء الاتراك المتنازعون في ما بينهم اصحاب السلطة الفعلية في العراق. وفي عام 324/936 تمركزت السلطة بيد امير الامراء التركي، الذي كادت ان تنحصر سلطته في بغداد فحسب لولا صراعه احيانا مع مغتصبي حكم الاقاليم ممن كان يؤثر مباشرة على سلطته ونفوذه. ونشأت في بلاد الشام دويلات عرقية ومذهبية: فكانت الاخشيدية، التي اعقبت الطولونية في مصر وبعض بلاد الشام 323-358/934-969، والحمدانيون في شماليها 317-394/929-1003، والقرامطة في جنوبيها، علما انهم بسطوا نفوذهم على معظم بلاد الشام باعتبارها مركزا حيوياً لنشاطاتهم وخصوصاً على دمشق.

     ومنذ مطلع القرن الرابع/ العاشر وتحديدا عام 301/914 بدأت طلائع حملات الفاطميين على مصر، بعد ان كان دعاة الاسماعيلية مهدوا الطريق لقيام خلافة شيعية فاطمية خاصة بهم في المغرب، وتمكّن الامام سعيد بن الحسين الذي سيعرف بالمهدي من اعلانها عام297/ 909 وكانت تتمتع بكامل مقومات الاستقلال كلها. ومن ثم احتل الفاطميون مصر عام 359/969 ونقلوا مركز خلافتهم اليها. وكان البويهيون الشيعة قد احتلوا بغداد عام 334/945 واستوعبوا بقية اتراك العراق كفرسان في جيشهم. وهكذا صار كل المشرق العربي –الاسلامي تحت السيطرة الشيعية على اختلاف المذاهب: الفاطميون في مصر ومعظم بلاد الشام، والحمدانيون في حلب شمالي بلاد الشام، والقرامطة في جنوبيها ” في البحرين”، وسيطر البويهيون على العراق وبسطوا نفوذهم ايضا على بلاد فارس، من دون ان يعني ذلك وحدة شيعية، لأن الولاء السياسي تغلب على الولاء المذهبي عند معظم الدويلات الشيعية؛ فكان الحمدانيون في دهليز بغداد وموالين سياسياً للخليفة العباسي، وفضّل البويهيون الابقاء على الخلفاء العباسيين لأنهم لم يجدوا بدلاء لهم في مذهبهم، ولأنهم ايضا كانوا في ظلهم سادة الحكم في العراق، والقرامطة سودوا اعلامهم وكتبوا عليها “السادة الراجعون الى الحق” وكأنهم اعلنوا توبتهم ليحاربوا الفاطميين توأهم باسم العباسيين.

      ان كل تلك الاوضاع المتداخلة مذهبياً والمتشابكة سياسياً بوجود خلافتين اسلاميتين في المشرق، وثالثة في الاندلس كانت قد نشأت عام 316/929، كل واحدة مستقلة عن الاخرى ومعادية لها، اوجد شرخاً في الاجماع الاسلامي على مستوى القيادة على الاقل، وافرز واقعاً انقسامياً سياسياً على الارض، وعزز التأريخ الاقليمي من دون ان يلغي نهائياً التأريخ العام الشامل.

 2- الوحدة الثقافية: ولم يتمكّن الانقسام والتشرذم من إلغاء الوحدة الاسلامية على مستوى الرعية او نزع الطابع الاسلامي عن مناطق الخلافات الثلاث على امتدادها الجغرافي. فكان النمط اسلامياً في كل البقاع سلوكا وطرق عبادة وارشاداً دينياً، ممّا سهّل للعديد من المؤرخين والتجار القيام برحلات في ارجاء ذاك العالم الواسع، فازدهرت كتب الرحلات، التي طبعت القرن الرابع بخصوصياتها وجعلته قرن الجغرافيين بامتياز.

 3-تنوّع مناهج التأريخ: ان تداخل الاحداث وتشابكها الناتج من هذا السندس السياسي والعسكري المتنافر في الرقعة الجغرافية المشرقية، وتصارع الاضداد، اضافة الى الانتاج التأريخي الوفير، جعل مناهج التأريخ تزدهر  وتتنوّع ضمن القرن الواحد. فمنذ القرن الرابع نشط التأريخ المحلي او ما يسمى التأريخ الاقليمي الذي شبه حلّ مكان التاريح العالمي العام الشامل، لأن افق المؤرخ تحدد عموما بالاطار الجغرافي السياسي الذي كان يعيش في ظله، وبالاسرة الحاكمة التي كانت تحتضنه، ممّا جعل النظرات الى التاريخ تتعدد: فتوسع بعضهم في التاريخ الفاطمي من دون ان يهمل تاريخ بقية المناطق وان بايجاز شأن يحي بن سعيد الانطاكي. وشدد آخرون على التأريخ للعراق في ظل البويهيين مقدّمين له بعودة سريع او موجزة للمراحل السابقة في محاولة لتأريخ عام شأن مسكويه في تجارب الامم. كما مزج بعضهم التاريخ بالجغرافيا بالحضارة متخطيا جغرافية العالم الاسلامي الى معظم العالم القديم  محاولين تدوين تاريخ شبه عالمي كما فعل المسعودي في مروج  الذهب.

    ويطرح سؤال مركزي: الى اي مدى راعى المؤرخون الاجماع الاسلامي في ظل الخلافات الثلاث؟ وهل كان لتفسخ اوصال المشرق العربي بفعل نشوء الدويلات والامارات العربية في ظل العباسيين والفاطميين معا دور في تحديد مستوى الاجماع؟ يظل الجواب عسير نسبيا وان كنا نحاول استقراءه من النظرات التاريخية المتعددة للمؤرخين وارتباط كل منهم  باقليمه السياسي، وبتوجهه المذهبي، ومن استقلال علم التاريخ عن علوم الدين من حيث مضمونه ومؤرخوه، الذين صار معظمهم من رجال الادارة المعروفين بطبقة الكتاب.

3- استقلال علم التاريخ عن علوم الدين: ان هذه العوامل تدفعنا الى الاعتقاد بان مفهوم الاجماع لم يعد مصقولاً في اذهان المؤرخين الذين افتقروا الى سعة الافق، وانحصرت مضامين مؤلفاتهم بشؤون الدنيا من دون ان تنفلت كلياً من الروح الدينية، بل صارت تركز على العبر الاخلاقية محمودها وسيئها ليتعظ منها الخلف. ولم يعد ينظر  علماء الدين الى التاريخ النظرة السابقة الناضحة بالاحترام، بل تخلوا عن العمل في ميادينه الجديدة واختصوا بالتراجم المتصلة بهم بالدرجة الاولى، وبالاخبار السياسية وفق منهجم الصارم بدرجة اقل، معتبرين ان هذا الاسلوب وحده يعبّر بصدق عن المفهوم الحقيقي للتاريخ. فظهرت تراجم العلماء والافاضل لترسم مساراً موازياً لتواريخ طبقة الكتاب والاداريين، وبالتالي تم الفصل بين التاريخ وعلوم الدين او على الاقل شرع هذا المسار يشقّ طريقه الذي سيؤدي في القرون اللاحقة الى الفصل التام بين المنهجين.

   وانتقل هذا الفن التأريخي (التراجم) الى علوم اللغة، والادب، والشعر، والطب، والموسيقى، ولعل الاغاني لابي الفرج الاصفهاني (ت 356/967) يمثّل اصدق تعبير عن الموسيقى والفنون المرتبطة بها، من دون ان يهمل الاحداث التاريخية، فجاء موسوعة متعددة المواضيع، متداخلة الاحداث. واستهوى هذا المنهج بعض الادباء فدخلوا الى ميدان التأريخ كالثعالبي في “يتيمة الدهر” و”ذيلها” و البيهقي في “تاريخ بيهق”[1].

4- الادارة والتأريخ: وبدأنا نشهد ايضا ظهور كتب تعالج نواحي ادارية متخصصة تحدد مهام متوليها، وتعبر عن خبرته في هذا المجال، لتكون دروسا لمن سيليه في الحكم يتعظ من الاخطاء ويفيد من السلوك القويم شأن المؤلفات في الوزارة: ابن الماشطة (ت 310/922)  والصولي (ت 336/947) في ” تحفة الامراء في تاريخ الوزراء” والهلال بن محسن الصابئ (ت 448/1055) وغيرهم كثيرون. وكتاب الخراج لقدامة بن جعفر (ت337/948) الذي يعتبر نموذجا فريدا” من التفكير التاريخي الاجتماعي النافذ في النظريات والاقتصاديات الاسلامية” على حد تعبير روزنتال[2]؛ فقد ربط قدامة الفتوح بنظام الضرائب وبالتاريخ، من حيث تطور النظام الضريبي وما افرزه من علاقات مع الحكام، مؤسسا لنهج ربط النظام الضريبي بالتاريخ: فقد تحدث عن حاجة الناس للتعامل بالنقد على اختلاف انواعه، جاعلا منها ضرورية لحجات الدولة العادلة. واستطراداً حدد واجبات الحكام على المستويين الاخلاقي والسياسي تجاه المقربين منهم وتجاه الرعية، ولعمري انها نظرة ثاقبة متقدمة. ونجد في الاطار عينه، وفي القرن الرابع ايضا نقدا لاذعا وجهه مسكويه لعضد الدولة البويهي، ممّا يعني ان التاريخ بدأ يتصل اكثر فأكثر بالاقتصاد والسياسية، الامر الذي سيتطور فيما بعد ليصبح تداخلاً مثلث المحاور تترابط فيه الضرائب بالمجتمع  وبالادارة على المستويين السياسي والاقتصادي، الذي نلحظه بوضوح في مؤلفات المقريزي. وسيجعل هذا التطوّر من التاريخ نبراسا اخلاقيا تبرز قيمه من بين الصراعات السياسية المرتبطة بالنظام الاداري والاقتصادي العام.

     ان كتب الوزارة والادارة بمفهومها العام كالولاة والكتاب للكندي (ت 350/961)، ورسوم دار الخلافة للهلال الصابئ (ت 448/1055) وغيرها جعلت من التاريخ علم الموعظة والاخلاق، بما اتسمت به هذه المؤلفات من هنات الاداريين وايجابياتهم. وكأن مؤلفيها، الذين افادوا من الايجابيات والسلبيات التي عايشوها، ارادوا ان يسلك من سيخلفهم طرقهم القويمة، وان يتعظ في الوقت عينه أولي الامر منها. كما ظهرت كتب اخرى تصب في الخانة عينها انما على المستوى الاجتماعي، منها ما تناول الشأن القضائي كاخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان (ت 306/ 918) المعروف بوكيع القاضي وان كان يعتبر من مؤرخي القرن الثالث. ومنها ما تناول الاجتماعي مثل ” نشوار المحاضرة ” للتنوخي، وغير ذلك من انواع العلوم في شتى الميادين الحضارية.

5- التنجيم والتأريخ: وتميز القرنان الرابع والخامس بعلم التنجيم، الذي انتقل من الاغريق الى الحضارة العربية والاسلامية، ونحن نجد صدى له في القرون السابقة، ولا سيما عند اليعقوبي اذ كان يذكر طوالع النجوم في بداية عهد كل خليفة. ولكن التنجيم سيصبح اشد اتصالا بالتاريخ في القرنين المذكورين على رغم تعارضه مع تعاليم الاسلام، ذلك ان حب التثقف بشتى العلوم ومنها التنجيم غدا سمة حضارية بارزة في القرن الرابع، ما وفّر مادة جديدة للمؤرخين، ودفع بعضهم للاهتمام بعلم الفلك.

6- الفلسفة والتأريخ: امتاز القرنان الرابع والخامس، والقرون اللاحقة بدخول الفلسفة على فكر المؤرخين وان باشارات عارضة، على رغم ارتباط علم الكلام بها بشكل قوي. وقد يكون رأي روزنتال محقا:” غير ان المؤرخين المسلمين لم يستخدموها-الفلسفة- قط بشكل فعال…لقد دارت باذهان المؤرخين مسألة اساسية وهي مدى الثقة بالاخبار التاريخية وعلاقتها بالحقيقة، غير انهم في ابحاثهم التاريخية لم يجعلوها موضوعا لمناقشة نظرية…”[3] ولكن المؤرخين الرحالة او الجغرافيين ادخلوا الى مؤلفاتهم بعض النظرات الفلسفية النابعة من اطلاعهم على تاريخ الهند بما فيه من ميتولوجيا وديانات مستندة الى رؤى فلسفية، من دون ان يتمكن المؤرخون المسلمون من تفسير التاريخ فلسفياً.

     وقد شارك المسيحيون في التأريخ في القرنين المذكورين وفق النمط الاسلامي اجمالاً[4]، اذ دوّن بعضهم تاريخ عصره في اقليمه او في المشرق العربي، والبعض الاخر تخطّى  المشرقي العربي  الى التاريخ البيزنطي. وقد اشاد بهم المسعودي في “التنبيه والاشراف” :” وقد ألف جماعة من الملكية والنسطورية واليعقوبية[5] كتبا كثيرة ممن سلف وخلف منهم، واحسن كتاب رأيته للملكية في تاريخ الملوك والانبياء والامم والبلدان…”[6]    

      لذا سأحاول دراسة مناهج مؤرخي القرنين الرابع والخامس معاً لأن التاريخ صار شبه حكر على الاسر الحاكمة يؤرخ الحوادث التي تمحورت حولهم وفي مناطقهم بوجه عام. واذا كانت الاحاطة بمناهج مؤرخي القرنين المذكورين صعبة جداً وتتطلب جهودأ جبارة، قد لا تكون بمتناول مؤرخ واحد، سأختار بعض المؤرخين يشكل كل واحد منهم نمطاً محددأ.

     وهكذا، تبدو الحضارة العربية الاسلامية انها نضجت لا بل اينعت، وغدا التماذج بين الشعوب الاسلامية احد سماتها، ولا سيما الانتقال المريح في ارجاء العالم الاسلامي للعلماء والمثقفين على اختلاف اختصاصاتهم، ممّا جعل العلوم المتنوعة بمتناول جميع المتعلمين، يتثقفون بها ما كان يزيد بآفاقهم المعرفية من دون ان يلغي اختصاص كل منهم. وكان التجار بدورهم يعتبرون هذا العالم وحدة متكاملة، على رغم التجزوء السياسي. وتطورت التجارة بنمو المدن المتزايد، وتحددت مسالكها التي يرجع بعضها الى عصور ما قبل الميلاد، وكثرت عليها الخانات والمحطات التجارية المتنوعة. وتعدى التجار هذا العالم الى البلاد البعيدة كالشرق الاقصى، ما سمح للعلماء بدورهم التنقل مع التجار الى حيث شاءوا فكتبوا مشاهداتهم على المسالك، كما وصفوا البلاد التي حلوا فيها: باقاليمها الجغرافية والمناخية، وعادات سكانها وتقاليدهم، واحيانا بعض نظمهم السياسية. فازدهر علم الجغرافيا، لا بل ايضا الجغرافيا التاريخية، ولعل ابرز مثال عليه مؤلفات المسعودي.


[1] – انظر اسماءهم في شاكر مصطفى، ج1، ص 283-284

[2] – روزنتال علم التاريخ، ص 164

[3]  – المرجع السابق، ص 159

[4] – سنوضح ذلك بدراسة يحي بن سعيد الانطاكي

[5]  – اراد من هذه الصفتات التأكيد على انهم مسيحيون

[6] – المسعودي، (الحسن بن علي) ، التنبيه والاشراف، طبعة دي غويه، ص 154

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *