المؤرخون في القرن الثالث

اولا: عوامل ظهور المؤرخين

1- دور العصر الراشدي: العوامل التي ساهمت بظهور المؤرخين: تميز العصر الراشدي بالفتوحات الكبرى التي ارست الركائز الاساسية لدولة الخلافة. وشكلت الاحداث السياسية ولا سيما الفتنة الكبرى بين المسلمين، الى جانب مغانم الفتوح، مواضيع مهمة حاول الاخباريون حفظها بمروياتهم المستمد معظمها من الروايات الشفوية المتواترة. ويعتبر العهد الاموي استمرارا للعصر الراشدي من حيث الفتوح وترسيخ مرتكزات الدولة السياسية. واذا كان الشيعة عامة وغيرهم من المنتمين الى الفرق الدينية، اضافة الى المعارضة السياسية خصوصا في العراق، قد شكلوا مادة مهمة للاخباريين المتطورين، فان العصر الاموي شهد ايضا، على رغم كل صعوباته وعقباته السياسية، بداية تركيز الاسس الحضارية العامة في دولة الخلاف؛ ففيه بدأ التمازج بين الشعوب المكونة للدولة العربية والاسلامية وان على درجات، كما تمّ توزيع القبائل الخارجة من الصحراء على الامصار بما جر تنفيذه من مشاكل وتعقيدات سياسية. وشهد ايضا بدايات نشوء العلوم العقلية الدينية الناجمة عن امتزاج الثقافات العريقة القديمة كاليونانية والفارسية والهندية بالمعطيات الفكرية الاسلامية الاولى، ممّا سيؤسس لحضارة عربية اسلامية واضحة المعالم.

2- التفاعل الحضاري: في القرن الثالث الهجري بدأت تتبلور في المجتمع العربي والاسلامي في المشرق العربي معالم الحضارة العربية بعد ان انصهرت فيها ببطء العلوم التي تسربت اليه تدريجا من طريق الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية والسريانية،كما بالاحتكاك المباشر بشعوب البلاد المفتتحة. وكان للشعوبية دور اساسي في الكبّ على العلوم في مختلف الميادين أظهاراً لمعارفهم وتفوّقهم العلمي على العرب والحط من قدرهم على مستويات متعددة، ممّا ادّى الى نهضة علمية في مختلف العلوم العقلية والدخيلة، فظهر علم الكلام، الذي تأثر به علماء الدين وكان بعضهم من المؤرخين، وبالتالي اندفع التأريخ نحو التطور الايجابي0 وبدأت تظهر المدن الجديدة، إمّا لدواع سياسية او حضارية بحتة، فشيدت بغداد ومن بعدها واسط وسرمن رأى… كما توسعت المدن بما اضيف اليها من ارباض واسواق …ممّا عزّز مواضيع التأريخ بحيث اهتم بعض المؤرخين بخطط المدن ( الطبوغرافيا)، والديمغرافيا، وتكوين السكان من حيث أعراقهم ومراتبهم، كما بالاحداث السياسية التيتسارعت في دولة الخلافة.

3- دور المثقفين:ونشأت في المدن تنظيمات اجتماعية جديدة نتيجة للصراع الاجتماعي الناجم اصلا عن التفاوت في الدخل وتدخل الاغراب العسكريين في الحياة السياسية والعسكرية في الدولة. وتطور ايضا علم الاقتصاد بفعل تحديد واردات الدولة ونفقاتها، ومن اجل فرْض ضرائب جديدة. وكان مريدو العلم يقصدون الأعلام والمشاهير مهما بعد مقامهم، فجال عدد لابأس به من العلماء في ارجاء الدولة العربية والاسلامية، وتعدّى بعضهم حدودها مدونين مشاهداتهم مؤسسين بطريقة غير مباشرة لنشوء علم الجغرافيا. وشهد الاهتمام بالنسب نقلة في النوعية لأن الاهتمام بالشخصيات البارزة كالخلفاء والوزراء والولاة والعمال ورجال الدين المهمين بات سمة من سمات التأريخ، فدوّنت تراجمهم. وكان لتطور النظم السياسية العباسية المستمدة اسسها من النظم الفارسية، والمطعّم بعضها الآخر بتراث شعوب اخرى، ان توسع الافق الفكري والحضاري أقله على صعيد النظم الادارية، ممّا وفّر مادة جديدة ودسمة للمؤرخين0

 دور الدويلات: عندما اشتد التأزم السياسي، خلال العصر العباسي الثاني، واوشكت السلطة المركزية ان تنهار على حساب الاقاليم، نشأت في مصر وبلاد الشام وعلى الاطراف الشرقية للدولة العباسية الدويلات ونشأ معها التأريخ المحلي او الاقليمي. وقد خدم هذا التفسخ تطور العلوم بطريقة غير مباشرة، بالمساهمة العلمية والفنية التي قدمتها حواضر الدويلات، مما ادى الى نمو في الحالة الفكرية عامة حين عمد مؤسسوها وخلفاؤهم الى استقدام اهل العلم اليها وأغدقوا عليهم الاموال والهبات المتنوعة، وكأني بهم يستمدون من خلال هذه المآثر العلمية نوعا من الشرعية السياسية، وتخليدا لإنجازاتهم السياسية والحضارية.

   وقد انعكس كل ذلك على علم التاريخ اذلم يعد المؤرخون كلهم غرباء عن المجتمع يؤرخون للخاصة من دون العامة، فظهرت مؤلفات اشتملت على نشاط العامة بما في ذلك اعمال السلب والنهب، ودفاع العامة من عيارين وشطار وغيرهم عن بعض الخلفاء ضد تسلط الاعاجم، وتناولت ايضا وبخفرٍ الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية 0

     وهكذا، تنوعت مواضيع المؤرخين، وتوفرت لها مصادر متعددة وغنية: دواوين الخلافة، الخلفاء انفسهم، شهود عيان على الحوادث وكان بعضهم وزراء، وقادة عسكريين، واداريين بارزين. وتتطورت في الوقت عينه مناهج المؤرخين المتأثرة اساساً بمناهج من سبقهم من الاخباريين التي ستتحدد معالمها بدقة في هذا العصر القرن الثالث/العاشر لتصبح القوالب العامة للتأريخ في مختلف العصور.

ثانيا: مناهج التأريخ:

   ارسى القرن الثالث الهجري المناهج الرئيسة في التأريخ التي كانت تطورت بتؤدة منذ القرون السابقة لتشكّل الركائز الاساسية في مناهج المؤرخين في العصور اللاحقة. ونحن سنحاول قدر المستطاع الوقوف على ابرز مميّزاتها.

1– التأريخ الحولي: هومنهج التأريخ على توالي السنين، سنة بعد سنة، وتكمن اهميته بجعل الرؤية التاريخية أكثر شمولا ووضوحا، ويمكّن المؤرخ من الاطلاع افقيا على كل الحوادث التي جرت خلال السنة الواحدة، كما في سنوات عديدة ، في كل ارجاء الدولة، ممّا يؤدّي الى استيعاب اشد عمقا لبعض الحوادث بما يمكّن بعضها الآخر المتقاطع معها جزئيا او كلياً، من ايضاح تطوّراتها جميعها. ويربط المؤرخ بين حوادث السنة الواحدة بعدة عبارات «وفيها» أي وفي هذه السنة، او «وجاء في سنة كذا»… ويتمثل عيب هذه المنهج بتفتيت الحوادث، ليس فقط التي تتعدى مدتها الزمنية السنة الواحدة، انما ايضا تلك التي تجاوز الشهر وربما اقل ايضا، لأن المؤرخ كان يجزءها الى اشهر او الى اسابيع، وربما الى ايام ، تبعا لرؤاه لاهمية الحادثة، ولتأريخ اخبار اخرى جرت في الوقت عينه من دون ان تتقاطع معها سببيا، وليدرج استطرادات وجد ان لا غنى عنها. وحاول الطبري تلافي العيب المذكور فافرد، في سنة وفاة شخصية محورية كالخليفة او الوزير او غيرهما، ترجمة كاملة لها ذكر فيها بشكل تسلسلي وباختصار نسبي كل الحوادث التي جرت في عهدها. وعلى رغم اهمية هذا التطوير للمنهج الحولي، فانه لا يغني الباحث عن العودة الى التفاصيل المهمة والضرورية للاحداث حين ذكرها المؤرخ للمرة الاولى في حولياته، مّما يحتم على الباحث العودة اليها في اماكنها الاساسية ودراستها بعناية.

   وحتى اليوم لم يتفق الباحثون على رائد المنهج الحولي في التاريخ العربي؛ فبعضهم يرجعه الى الهيثم بن عدي الثعلبي (130-206/ 747-821) في كتابه “تاريخ الدولة” أي الدولة العباسية[1]. وفريق آخر يعتبر الطبري رائده، وقد يكون مرد ذلك الى ضياع كتاب الاول. ولكنني أرجّح ان الهيثم رائده لأن الطبري طور هذا المنهج، ومن العسير ان يُقر او يُعتمد منهج جديد ويتم طويره مباشرة. في مطلق الاحوال يظل هذا الرأي مجرّد اجتهاد. وتطور هذا المنهج مرة اخرى مع ابن الاثير، بجمعه حوادث عدد من السنوات لاحدى المناطق كافريقيا او الاندلس او الفاطميين في المغرب ودوّنها بشكل تسلسلي ذاكرا تواريخ الاحداث البارزة فقط، ممّا جعل الاحداث أكثر لحمة، والمعلومات أكثر تقاطعا من حيث الاسباب والنتائج[2].

                                

2- التاريخ العام الشامل : اجتهد بعض المؤرخين على اعتبار كتب التاريخ الحولية التي أرخت لفترة ما قبل الاسلام تواريخ عالمية شاملة. قد يكون الامر صحيحا جزئيا لأن ما كتب من تواريخ الامم السالفة لم يكن تاما او شاملاً، بل اخبارا منتقاة. واعتمد في بعضها على رواة عرب، و في بعضها الاخر على كتب مترجمة، وبالتالي فان النقص فيها واضح، ناهيك بالقفزات في الزمن، ولخلو بعضها من الارتباط بالزمن. لذلك فان صفة الشمول تسقط عن المضمون بشكل عام، وتستمر بالنظرة التاريخية الى احداث العالم. فهي كانت محاولة لربط الفكر التاريخي واحداث البشرية بعضها بالبعض الاخر انطلاقا من رؤية عامة وشاملة لاحداث الكون انسجاماً مع نظرة القرآن الى الماضي والى احداث الشعوب. امّا صفتها الشمولية شبه التامة فتكمن بالتطرق الى احداث تاريخ العرب والمسلمين عامة. وعلى الرغم من اعتماد المؤرخين نمط الخبر التاريخي الذي يفتت الحوادث، ويسقط الروابط السببية بينها، ولا يخلص الى نتائج، فان وضوح الرؤية الشمولية السياسية جلي في مؤلف الطبري «تاريخ الرسل والملوك» الذي حاول ان يحيط بمضمون كل مجريات الاحداث التي شهدتها الدولة العربية الاسلامية في المشرق العربي من دون التطرق الى المغرب[3]. ونلاحظ في مؤلفات اخرى كالكامل لابن الاثير رؤية اوسع واشمل للعالم الاسلامي، ممّا سيطبع الحوليات بهذه الصفات، إلاّ تلك التي تناولت اخبارا محلية او إقليمية بعد ان تجزأت الدولة الى دويلات ونشأت أكثر من خلافة اسلامية: مثل « سيرة احمد بن طولون» للبلوي، و« فضائل مصر واخبارها » لإبن زولاق، و« اخبار مصر» للمسبّحي وغيرها. فعلى رغم التفسخ والتفتيت الذي شهدته دولة الخلافة اعتبارا من العصر العباسي الثاني فان الرؤية التاريخية استمرت شاملة لأحداث الدولة بكليتها، على الاقل في مؤلفات المؤرخين الكبار، ممّا يعني ان التفتت على الارض لم ينعكس تمزقا او استقلالاً في التأريخ او تقوقعا مناطقيا بفعل العداء السياسي. بهذا المعنى، لم تتمكن الاقليمية الجديدة ان جاز التعبير، المتميزة عن سابقتها بالنظرة التاريخية والمنهج عموما، التي كان تمّ تجاوزها في اواخر القرن الثاني ومطلع الثالث هجري، الى البروز مجددا على الساح التأريخية بوجهها السابق؛ كأقليمية تصارع السلطة الدينية المتمثلة بالخليفة وتكتب اخبارها بمعزل عن اخبار المناطق او الاقاليم الاخرى بعداء سياسي ومذهبي، على رغم صدور عدد لا بأس به من المؤلفات التاريخية تناولت اخبار اقاليم من دولة الخلافة نشأت فيها دويلات استمرت، على رغم عداء بعضها للسلطة السياسية العسكرية التي كانت مسيطرة على الخلفاء، تعترف بسلطة الخليفة العباسي.

    وعلى رغم نشوء الاقليمية السياسية استمرت الوحدة الشاملة في التصانيف التاريخية في مؤلفات عدد من مؤرخين تجاوزوا احداث مناطقهم الى ما يعرف بالتاريخ العام الشامل مثل « تاريخ الانطاكي»، او « ذيل تاريخ دمشق » لابن القلانسي، وان ظهرت فيها احيانا افضليات لاحداث اقاليمهم. وبالتالي فان الصراع السياسي بين الاقاليم لم ينعكس تفتتا فكريا، لأن الوحدة الفكرية كانت اقوى من ان تتأثر بالصراع السياسي.

     ونحن في هذا الكتاب لن نتطرق الى كتب التاريخ المحلي لأنها لا تختلف في الشكل والمنهج عن التاريخ العام الشامل إلا من حيث حصر المضمون في رقعة جغرافية محددة[4]. وهذا الاسقاط لا يبخسها حقها العلمي، لأن النظرة الاقليمية او المناطقية لم تتأت عن عداء سياسي او مذهبي، لأننا نجد مؤرخين سنة كتبوا تاريخ مصر الفاطمية.

3- التأريخ حسب الموضوع: تتخذ هذه الطريقة من الموضوع اساسا للتأريخ، الذي قد يكون شخصيات متعاقبة، اومنطقة جغرافية محددة، او اقليما قائما بذاته، او دولة. ففي حال الشخصيات تتمحور الاحداث جميعها حول كل واحدة منها على حدة بشكل تعاقبي. اما في الاقليم فيتناول المؤرخ ما جرى في كل مدينة من مدنه او منطقة من مناطقه على حدة ايضا. واذا كان الموضوع دولة يتناول المؤرخ اخبار كل اقليم من اقاليمها بشكل مستقل. ويراعي المؤرخ التسلسل الزمني في هذا المنهج، بمعنى عندما ينتهي من تدوين اخبار كل مدينة او اقليم على توالي السنين، يعود وتناول مدينة اخرى او غير ذلك وفق النمط عينه وهكذا الى ان ينتهي منها جميعها، ممّا يجعل هذا المنهج تأريخا شبه حولي. وقد اعتمده البلاذري في كتابيه ” فتوح البلدان”  وانساب الاشراف، وتميّز به الجغرافيون عموما. وعندما يكون الموضوع شخصيات متجانسة بارزة يتحول هذا المنهج الى تراجم. 

 4 – الرحلة او منهج الجغرافيين : يستند هذا المنهج الى استقاء المعلومات من طريقين اثنين: الرحلة في ارجاء دولة الخلافة، او في اصقاع الدولة الاسلامية والدول محاذية لها او البعيدة عنها. وفي الحالين يستمد الرحالة اخباره من طريق مشاهداته المباشرة، او من ثقات البلاد، او ممن ينتسبون الى اقليم جغرافي لم يزره. ويرتكز هذا المنهج على دراسة جغرافية للمناطق التي زارها الرحالة، بدءا باسم الاقليم فتحديد موقعه بالنسبة لعاصمة الخلافة، اذا كان ضمن اطارها السياسي: شرقيها، اوشماليها اوجنوبيها، ذاكرا اسم قصبته (ابرز مدنه)،  ويصف تضاريسه. ثم يتحدث عن هندسة القصبة البنائية، وابرز معالمها، وارباضها، والطرق المؤدية اليها، مشدّداً على الطريق الذي يصلها بعاصمة الخلافة. ويحدد المسافات بالفرسخ بين مدنه الرئيسة، وتلك التي تربطها بمدن الاقاليم المجاورة. ويستمر على هذا النحو الى ان ينتهي من وصف الاقليم كله بما في ذلك انواع مزروعاته مركزا على ما يشهربه من انواعها، ومياهه، وانهاره، وبحاره، وسكانه ودياناتهم، وطرق عباداتهم، ويتحدث بايجاز عن مشاهير الاقليم ومؤلفاتهم. ولا تغيب المعلومات التاريخية عن هذا النمط من التأريخ؛ كفتح الاقليم، وعلاقة شعبه بالحكام، والثورات التي حدثت فيه، ودوره الجهادي اذا كان منطقة حدودية.

   واذا كان الاقليم يقع خارج حدود الدولة الاسلامية يربط الرحالة موقعه باقرب مدينة اسلامية مشهورة متخذا منها نقطة انطلاق مركزية، ويتابع اخبار اقاليم الدول غير الاسلامية بالطريقة السابقة عينها. وقد جعل هذا المنهج علمي الجغرافيا والتأريخ متلازمين،  لدرجة ان بعض كتب التاريخ تضمنت معلومات جغرافية، شأن تاريخ اليعقوبي و« فتوح البلدان»  للبلاذري، و« مروج الذهب» للمسعودي. وقد يكون « البلدان » لليعقوبي اقدم كتاب في الجغرافيا، ومن ثم توالت كتب الرحالة والجغرافيين.

    وتكمن أهمية هذا العلم في انه فتح المجال واسعا أمام الدراسات الجغرافية فتحدث الجغرافيون والرحالة عن التضاريس، والبحار بما فيها من عقبات، وما تحويه من موارد متنوّعة، وحددوا مواقعها بالنسبة الى البلاد المطلة عليها، وابرز موانئها مبينين اهميتها ودورها التجاري. وقد يكون ابن خرْداذْبه اقدم الرحالة، وأول من رسم الطرق التجارية بين دولة الخلافة والشرق الاقصى، كما الطرق التجارية الداخلية او ما يعرف بطرق القوافل. 

     واذا كان هذا المنهج نشأ في القرن الثالث هجري، فانه سيتخذ ابعادا جديدة في القرون اللاحقة، لأنه سيصبح اشد ارتباطا بالتاريخ. ويعتبر المسعودي ابرز نماذجه في مؤلفه « مروج الذهب » حيث نجد فيه معلومات خغرافية صرفة الى جانب حوادث تاريخية[5]. وجمع ياقوت الحموي في « معجم البلدان » الجغرافيا والتاريخ، وتلاقت في الكتاب عدة مناهج: الجغرافي، والطبقات، والاخبار التاريخية، وستزدهر هذه الطريقة كثيرا في القرون اللاحقة.

4 – الطبقات : خلال العصور الوسطى، لم تكن كلمة طبقة تعني فئة محددة من الناس لتحديد منزلتها الاجتماعي في التفريع الطبقي او مستواها الاقتصادي، شأن الحال في ايامنا هذه، بل كان يعني فئة معينة من الناس متجانسين من حيث العمل الذي يؤدونه ضمن فترة زمنية محددة لا تتعدى الجيل الواحد، الذي ترواحت مدته تبعا للمؤرخين بين العشر والعشرين سنة. وهذا المنهج اسلامي صرف، لأنه انبثق من التأريخ لصحابة الرسول ومدوني الحديث، او ما يعرف اصطلاحاً باهل الحديث اوالمحدثين، لتقدير راوي الحديث بالثقة، ممّا جعل معرفة اكبر قدر من حياتهم امراً ضرورياً وبالغ الاهمية؛ بما في ذلك اماكن ولادتهم والاقاليم التي ينتمون اليها – ما شجع بطريقة غير مباشرة علم الجغرافيا- وعلى من تثقفوا، والمهن التي تعاطوها وما الى ذلك. ومن ثم عمّ هذا النمط من التأريخ ليتناول شخصيات أخرى كالفقهاء، والنحويين، والشعراء، والاطباء، وغيرهم.

    والطبقات هي مجموعة تراجم اشخاص في كتاب واحد. وأقدم كتاب لدينا وفق هذا المنهج هو « الطبقات الكبرى » لإبن سعد (م 230/845). وهذا لا يعني ان ابن سعد اول من كتب وفق هذه الطريقة إذ يذكر ابن النديم ان الواقدي ( 130-209/747-825) دوّن كتاباً اسماه « تأريخ المحدثين »[6] وهو طبقات المحدثين في الكوفة والبصرة تبعا لشاكر مصطفى[7]. وأهمية هذا المنهج انه سيستمر فترة طويلة جدا، وسيرتبط برجال الدين عموما اِذ نجد العديد من المؤلفات التي تحمل اسماء «طبقات الشافعية» او «الحنابلة» وغيرهما…كما نجد طبقات خجولة لغير رجال الدين مثل «طبقات الاطباء» لإبن ابي اصيبعة (600-668/1202-1270 ) ويتيمة الدهر للثعالبي، ومعجم الادباء لياقوت الحموي…وهذه المؤلفات وان حملت اسم طبقة واوطبقات فانها ما عادت تتوافق منهجا مع طريقة الطبقات الاولى المستندة الى تجانس وظيفي ضمن عقد او عقدين من الزمن، بل صارت جزءا من طريقة التراجم كما سيتضح ادناه.

6– التراجم                             

أ – مفهوم التراجم او تعريفها: ان مصطلح «ترجمة» هو تدوين سيرة موجزة لشخص ما، هو عموما من المشاهير، يُذكر فيها: اسمه غالبا بسلسلة نسبية، واذا كان الاسم يحتمل التأويل لفظاً يضبطه المؤرخ لفظاً، ثم مولده، طفولته، علومه، الوظائف التي تسنّمها، انجازاته، الحوادث التي شهدها او شارك فيها، وما الى ذلك حتى وفاته.

   ويعتقد روزنتال: ان التراجم هي اثبت صور التعبير التاريخي عند العرب وقد سبقت مبادئ صور التأريخ التقليدي. ويبدو جليا، على حد تعبيره، انها اسهمت في كتابة التاريخ الاسلامي منذ بداياته[8]. وانسجاما مع هذه النظرة يقول المنذري انه حين بدأ العرب بتدوين السير والتراجم اطلقوا عليها اسم التاريخ.[9]

ب – عوامل نشوئها: كان لنشوئها وتطورها عوامل متعددة من اهمها: تدوين سيرة الرسول لحاجة المسلمين اليها سلوكا وتشريعا. وهي الى ذلك، شكّلت حجر الزاوية في نشوء التدوين التاريخي وفي منهجه حتى باتت تتصدر كل مؤلفات مؤرخي التاريخ العام[10]. واذا كانت السيرة تختلف عن الترجمة من حيث الاختصاص والاطالة، فانها اوحت بها. ويعتبر علم الحديث بدوره ركنا اساسيا في نشوئها لان المحدثين اشتغلوا بالتاريخ الى جانب اهتمامهم بالسيرة، وهم من جعل منهجهم الصارم (منهج اهل الحديث) ينتقل الى اسلوب ومنهج الاخبار التاريخية[11]. ولأن المحديثن تناولوا تدوين الحديث وهو المصدر الثاني للتشريع الاسلامي، فلا بد ان يحتلوا منزلة مرموقة اجتماعيا ودينيا، وبالتالي كتبت لهم تراجم موجزة من اجل تبيان قيمة المحدث الاخلاقية، ومنزلته الدينية، ومستواه العلمي، ومقدار درايته ودربته. وقادهم ذلك الى وضع كتب في نقد المحدثين، فظهرت كتب الجرح والتعديل، التي لم تكن سوى تراجم لهم.

   ومن اسبابها الاخرى، العلاقات التي ربطت المؤرخين بل معظم اهل القلم بالخلفاء واكابر رجال الدولة كالسلاطين والوزراء، ومغتصبي الولايات في الاقاليم…لأنهم رغبوا بتخليد اعمالهم، بل عهودهم بايجابياتها. ولكن المؤرخين دوّنوا سلبياتها ليتعظ منها الخلف، لأن الغاية من التاريخ عند المسلمين الاتعاظ من عبر الماضي لتقويم سلوك الحكام حاضرا ومستقبلاً. ويصّنف في الخانة عينها النزاع الفكري بين الفرق الاسلامية المتنوعة، لأن فرقاءه الاساسيين كانوا شخصيات دينية، فتمّ تدوين صفاتهم بمثالبها وفضائلها. وكان لتبؤ علماء الكلام والفقهاء منازل مهمة في المجتمع ان صار تخليدهم واجبا دينيا، فدُوٍّنت تراجمهم. واذا كانت السياسة عند المسلمين من عمل الاشخاص ولا تفهم الا على ضوء صفاتهم وخبراتهم، فانها جعلت التاريخ مرادفا للسير والتراجم[12]. ويؤكد الصفدي هذه النظرة بقوله:« وتراجم العالم للمشاركة في المشاهدة…»[13] والتراجم عند ياقوت الحموي: علم الملوك والوزراء والجلسة والكبراء.

ج – مضمون الترجمة: ان معظم الاشخاص المترجم لهم مشكوك بصحة تاريخ ولادتهم، خصوصا في الفترة المبكرة من التاريخ العربي، اذ غالبا ما يرجّح المؤرخ تاريخا على آخر، لأن أهمية الشخص لا تبدأ الا منذ اشتهاره بعلم ما، او تسنّمه مركزا مرموقا، ويبقى تاريخ الوفاة وحده ثابتا. ولا يتبع مضمون الترجمة نمطا واحدا فهو ميتباين بين شخص وآخر تبعا للمراكز التي تسنّمها؛ فالعلماء لا تتعدى تراجمهم المدارس التي تعلموا فيها، والمقصود هنا، على من تتلمذوا، لأن المدارس لم تظهر الا متأخرة، لأن التعليم تولاه علماء اشتهروا بعلوم الدين كانوا يجيزون طلاّبهم بعد انهاء تثقيفهم. ولا تتجاوز ايضا العلوم التي اشتهروا فيها، والمراكز التي شغلوها، والمؤلفات التي تركوها. امّا حياتهم الخاصة وعلائقهم بالناس وكل ما يرتبط بغير ذلك بالحياة العامة فلا تذكر الا اذا ارتبطت بنواحي خاصة بالخلافاء او غيرهم من ارباب السلطة. امّا تراجم الخلفاء وكبار رجال الدولة فهي تتسع او تضيق تبعا للمقدرة السياسية والانجازات التي اشتهروا بها والاحداث التي جرت في عهودهم، ممّا يجعلها مرتبطة عضويا بعلم التاريخ لأنها تختصر عهودهم.

داهمية الترجمة: قد تكون التراجم امتداداً لمنهج الطبقات ولكن من دون حصر المترجم لهم بجيل او بمهنة متاجنسة. ومن المرجّح ان كتاب «سيرة معاوية وبني أميّة» لعِوانة بن الحكم (م147/765) اول كتاب دُوّن وفق هذه الطريقة. وسيستمر هذا النمط التأريخي على امتداد العصور الوسطى. وللتراجم اهمية بالغة في حفظ الحوادث من جهة، وتوضيح مجريات التاريخ العام (الحولي) من جهة ثانية، لأن بعض المعلومات الواردة فيها تشكل مفاتيح لحوادث في التاريخ العام وتضيء عليها من جهة، وتغنيها من جهة ثانية بالإضافات التي تفتقر اليها الحوليات. وسيتطور هذا المنهج تباعا وسيشكل احد اهم انماط التأريخ العربي خلال العصور الوسطى، وسيلازمها حتى نهايتها، بل سيتجاوزها ليشكل ايضا منهجا تأريخيا مهما في العصور الحديثة كما «عجائب الاثار في التراجم والاخبار»  للجبرتي (م 1754-1822).

    وعلى هذا، يصبح الخط الفاصل بين التراجم و الطبقات من جهة، والتاريخ من ناحية ثانية دقيقاً جدا، ويمّحى عندما تكون الترجمة عائدة لخليفة او احد رجال السلطة البارزين، لأنها تختصر تاريخ عصره. واذا كانت لوزير ذي شأن تختصر عهد خليفة او اكثر، لأن هذا الوزير، الذي عاصر أكثر من خليفة، يصبح محور الاحداث الرئيسة او في لبّها، وكذلك اذا كانت لأحد امراء الاتراك البارزين من العصر العباسي الثاني، او للملك البويهي او السلطان السلجوقي. واذا كانت لأشخاص اتصالهم غير وثيق بالسلطة والشؤون العامة تصبح أقل صلة بالتاريخ السياسي العام، ولكنها تنبض بالحياة الاجتماعية لأنها تصوّر الحياة الدينية والادبية والتعليم والثقافة، وما الى ذلك من العلوم، وقد يعكس بعضها نواحي ترتبط بحياة الناس عموما.

هانواع التراجم: تنوّعت التراجم من حيث المضمون والمنهج العام من دون ان تخرج غائيتها عن الهدف الاساسي الذي من اجله وضعت. فالتراجم العامة كانت الاكثر شيوعا، ونعني بعامة تلك التي جمعت عددا من تراجم اشخاص يتباينون عملاً، وعصرا، ومنزلة اجتماعية، ومكاناً، ويمتازون جميعم بالجدارة. فانت تجد في هذا النمط جنبا الى جنب وفي مؤلف واحد: القاضي، والمدرّس، والفقيه، والمحدث، والشاعر، والاديب، والمؤرخ، والقائد البارز…ويجمع المُؤَلف عينه شخصيات من مختلف ارجاء الدولة الاسلامية، او على الاقل من ارجاء الدولة التي عاش فيها كاتب التراجم، ومن مختلف العصور. ويختصر ياقوت الحموي محتوى هذا النوع من التراجم بقوله:« ولم اقصد ادباء قطر، ولا علماء عصر، ولا اقليما معين، ولا بلدا مبينا، بل جمعت البصريين والكوفيين والبغداديين…على اختلاف البلدان وتفاوت الازمان حسب ما اقتضاه الترتيب، وحكم بوضعه التبويب»[14]. ويندرج في المجال عينه ما كتبه ابن خِلّكان في مقدمة مؤلفه «وفيات الاعيان» اذ قال:« هذا مختصر في التاريخ، دعاني الى جمعه اني كنت مولعا بالاطلاع على اخبار المتقدمين من اولي النباهة وتواريخ وفياتهم ومولدهم، ومَن جَمَع منهم كل عصر…ولم اقصر هذا المختصر على طائفة مخصصة مثل العلماء والملوك او الامراء او الوزراء او الشعراء، بل كل من له شهرة بين الناس…وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة اونادرة… وجعلته تذكرة لنفسي»[15]. وقد اُعتمد في تأريخ التراجم ثلاثة مناهج يمكن تصنيفها ضمن هذه الانواع:

    على حروف المعجم، وهو الاكثر شيوعا، وابرز نماذجه معجم الادباء لياقوت الحموي، ووفيات الاعيان لأن خلكان الذي يبرر منهجه هذا قائلاً:« فاضطررت الى ترتيبه، فرأيته على حروف المعجم ايسر منه على السنين»[16].

   والثاني جغرافي، وهو مبني على ترجمات الاشخاص تبعا لانتمائهم الاقليمي ضمن فترة زمنية محددةً بعصر المُتَرجِم، ومن ابرز نماذجه يتيمة الدهر للثعاليبي الذي يقول:« فهذه النسخة الآن تجمع من بدائع اعيان الفضل، ونجوم الارض من اهل العصر ومن تقدمهم قليلاً ومن سبقهم يسيراً.»[17] ويندرج في هذا النموذج مجموعة مؤلفات كثيرة نذكر منها «الدرر الكامنة في اعين المائة الثامنة» لأبن حجر العسقلاني، ومؤلف البرزالي «مختصر المائة السابعة»، وكذلك مؤلف السخاوي «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع» ويقول فيه:« جمعت فيه من علمته الارض من اهل هذا القرن الذي اوله 801 من سائر العلماء، والقضاة، والرواة، والادباء…مصريا كان ام شاميا، حجازيا ام يمنيا، هنديا ام مشرقيا…»[18] وهو نمط لا يسهل العمل فيه، لأن الباحث قد يجهل الانتماء الاقليمي للشخص المعني لاسباب متنوعة ولا سيما بعد ان تفسخت الدولة العباسية الى دويلات. ومن المؤلفين من ترجم فقط لأبناء عصره شأن الصفدي في « اعيان العصر واعوان النصر».

   والثالث حولي، وهو مبني على توالي السنين، ومن ابرز نماذجه «المنتظم لأبن الجوزي» فهو كتاب في التاريخ، وفي الوقت عينه يختم سنوات الاحداث بتراجم لأبرز من توفي فيها. ويصنف في الاطار عينه « النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» لأبن تغري بردي، وان كانت الاحداث التاريخية الصفة الغالبة عليه. ومنها ايضا «عيون التواريخ» لأبن شاكر الكتبي، و«البداية والنهاية» لأبن كثير… يعرف ايضا هذا النوع من التراجم، الذي يتناول شخصيات متعددة عبر العصور، باسم الطبقات، وهي متميّزة عن الطبقات الواردة اعلاه لاختلاف في بنية المنهج، فالاولى جمعت تراجم اشخاص ضمن حقبة زمنية لا تتعدى العشر او العشرين سنة، ومن نماذجه الواضحة طبقات الشافعية للسبكي…

7– السير: كانت السِيَر في اساس التأريخ النسبي، وتعتبر سيرة الرسول افضل نموذج عنها، وتلاها مؤلفات اخرى مستمدة من الروحية ذاتها، مثل سيرة معاوية وبني امية لعوانة بن الحكم، وسيرة احمد بن طولون للبلوي، وغيرها.

    هذه هي ابرز مناهج التأريخ التي بدأت تظهر منذ اواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي وصارت تتطور تدريجا تبعا لمعطيات الثقافة وعامل الزمن. وبدأت مستلزماتها الاساسية تتركّز في القرن الثالث، ومن ثم عدّل بعضها نحو الافضل ربما، والبعض الآخر لم تدخل عليه تعديلات جوهرية ،بل تأثر بنسبة روحية المؤرخين العلمية، ونظرة كل منهم الى التاريخ.


[1]  ابن النديم، ص 100

[2]  انظر منهج ابن الاثير في هذا الكتاب

[3]  انظر منهج الطبري في هذا الكتاب.

[4]  ستتم دراستها في الجزء الثاني من هذه السلسلة.

[5]  المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق شارل بلاّ منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1966، ج1، ص9, 30-31، وانظر منهج المسعودي في هذا الكتاب

[6]  الفهرست، ص 244

[7]  مصطفى، المرجع السابق، ج، ص164

[8]  روزنتال، علم التاريخ، ص141- 142

[9]  المنذري، زكي الدين عبد العظيم، التكملة لوفيات النقلة، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، 1981، ج1، ص11

[10]  انظر على سبيل المثال لا الحصر مؤلفات: الطبري، ابن الاثير، ابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ، المقريزي في امتاع الاسماع…

[11]  انظر فصل الاخباريين

[12]  روزنتال، علم، ص142

[13]  الصفدي، صلاح الدين خليل بن ايبك، الوافي باوفيات، بعناية هلموت ريتر، فيسبادن، 1981، ج1، ص4

[14]  الحموي، ياقوت، معجم الادباء، طبعة مرغوليوت، ج1، ص3

[15]  ابن خلكان، شمس الدين احمد بن محمد، وفيات الاعيان وانباء ابناء الزمان، تحقيق احسان عباس، دار الثقافة، بيروت، دون تاريخ، ج1، ص19-21

[16]  المصدر السابق، ج1، ص20

[17]  الثعالبي، عبد الملك بن محمد، يتيمة الدهر في محاسن اهل العصر، تحقيق محمد عبد الحميد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1959، ج1، ص19

[18]  السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، الضوء اللامع لأهل القرن التالسع، دار الجيل، بيروت، 1992، المجلد الاول، ص5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *