انحطاط وسقوط الخلافة الفاطمية

  بعد الهزة العنيفة التي اجتاحت الخلافة الفاطمية في عهد الحاكم توالت عليها النوائب السياسية والاقتصادية والفوضى العسكرية، اضافة الى مصاعب ادارية اساسية ادت الى اختراق اسس العقيدية.

على الصعيد السياسي والاداري :تولت سيدة الملك اخت الحاكم الحكم بعد اخيها بسيطرتها على ولي العهد الظاهر لاعزاز دين الله ابن الحاكم الذي كان محبا للهو. ولما جاء المستنصر(1036-1094) الى الحكم اتسعت رقعة الدولة لتشمل مصر بلاد الشام بما فيها الجنوب، افريقيا، الحجاز واليمن، وبعض المناطق في العراق التي اعترفت بالتبعية الدينية للفاطميين. وفي هذا الوقت ظهر السلاجقة السنة على مسرح الاحداث، وقضوا على الحكم البويهي في العراق. ولكن عودة السلطان طغرل بك الى بلاد فارس للقضاء على ثورة اخيه ينال دفعت قائد الجيش البويهي ارسلان البساسيري الى القبض على القائم الخليفة وسجنه في سجن عانة سنة 1058 واقام الخطبة للمستنصر الفاطمي الذي كان وعده بدعمه بالمال والسلاح، ولكنه لم يمده الا بالقليل لاسباب متعددة ليس اقلها عدم الثقة به. وعمد السلاجقة الى قضم املاك الفاطميين في بلاد الشام فاستولوا على فلسطين، ولم يمنعهم من التقدم نحو مصر الا معركة منزكرت 1071. وشهدت مصر في هذه الفترة فوضى عسكرية وادارية رهيبة دفعت بالمستنصر للاستنجاد بحاكم عكا بدر الجمالي عام 1074 الذي اشترط على المستنصر القدوم بعسكره الارمن والتخلص من الاتراك.

 عهد الوزراء: استهل بدر الجمالي عهده بتدبير مؤامرة استضاف فيها القادة الاتراك الى مائدته ومن ثم قام جنوده بقتلهم جميعهم، فقلده المستنصر الوزارة ولقبه “السيد الاجل امير الجيوش”.وبذلك بدأ عهد فريد من نوعه اتسم بتسلط الوزراء من ارباب السيوف على كل مقدرات الحكم بما في ذلك تولية اعلى المناصب الدينية مثل داعي الدعاة وقاضي القضاة، حتى صار له الاشراف التام على الدعوة في اواخر عهد المستنصر. وقد يكون الاصلاح الاداري الشأن الابرز الذي اتسم به عهد بدر الجمالي، فقد قسم مصر الى ست ولايات هي:الشرقية والغربية والاسكندرية وقوص والفسطاط والقاهرة، ما ادى الى تزايد بارز في الحكم اللامركزي الذي سيكون له شأن كبير جدا في تدهور الوضع السياسي في ما بعد، كما اعاد الامن الى البلاد، والخطبة الفاطمية في مكة التي كانت قد انقطعت خمس سنوات، ونظم الاقتصاد فاعفى الفلاحين ثلاث سنوات من الخراج ليتمكنوا من استعادة عافيتهم، وبالتالي لاعادة الاقتصاد الى وضعه الطبيعي.

   جاءت هذه التدابير لتقضي على ما تبقى من هيبة الخلفاء  وصلاحياتهم ونفوذهم، لا بل اسوأ من ذلك اذ صار بمقدور الوزراء توريث مناصبهم؛ فخلف الافضل بن بدر الجمالي والده في كل مناصبه حتى قلده المستنصر سجلا امر بان يدعى له على المنابر الى جانب الخليفة بعد ان لقبه شاه هنشاه. وادت وفاة المستنصر الى صراع على الخلافة بين نزار والمستعلي صهر الافضل. ولما حاول المستعلي استرداد حقوقه دس له الافضل السم واقام ابنه الآمر مكانه وله من العمر خمس سنوات فقط، ولم يسمح له بالظهور العلني سوى مرتين. ولم يكتف الافضل بذلك بل جرد الخليفة من صلاحياته كلها تقريبا حين ابتنى لنفسه قصرا على النيل في الفسطاط اسماه دار الملك ونقل اليه عام 1108سجلات الدولة، وغدا الآمر الناهي وكأنه الخليفة. ولما بلغ الآمر الخامسة والعشرين تآمر على الافضل وقتله عام 1122 بواسطة محمد بن فاتك البطائحي احد قواد الافضل وكافأه باعطائه الوزارة. ومنذ ذلك التاريخ اضحى قاتل الوزير يخلفه بمركزه، ونشأ بالتالي صراع مرير شبه مستمر على الوزارة حتى سقوط الخلافة ساهم بفعالية بسقوط الخلافة الفاطمية.

الصراع بين فرق الجيش: دأبت ام المستنصر منذ 1044على تجنيد اعداد من الجنود السود لتشد ازرها بهم لانها كانت سوداء حتى بلغ تعدادهم نحواً من خمسين ألف جندي. وكانت قد قويت شوكت الاتراك كثيرا بظل قائدهم سلطان الجيوش ناصر الدولة بن حمدان ( لا علاقة له بالحمدانيين) الذي اساء كثيرا الى المستنصر ؛ فقد نهبت جيوشه قصر الخليفة واستولت على كل ثمين فيه لأن الخليفة عجز ان يدفع مبلغ 400ألف دينار شهريا، عند ذلك ألبتهم ام الخليفة على الاتراك. ونشبت المعارك بين الفريقين وادى انحياز الكتاميين الى جانب الاتراك الى نهاية السود، فعظم شأن ابن حمدان وهزم جيوش الخليفة مرتين عام 1069،  ومن ثم تمكن من دخول القاهرة عام 1071 وحاول قطع الدعوة الفاطمية لصالح العباسيين لكنه انتهى قتلا على يد قادة اتراك. وقد شاركت فرق الجيش المتعددة في الصراعات الداخلية خصوصا بقتل الخلفاء والوزراء، ذلك ان كل خليفة كان ينشئ لنفسه فرقة خاصة به كالآمرية، والحافظية… وعندما يموت تصبح بدون هدف وتتحول الى خدمة من يدفع لها او يستقطبها. منذ وزارة بدر الجمالي بدأت تنشأ فرق جيش الوزراء وصارت تنتسب اسميا لمؤسسها كالجمالية او الجيوشية نسبة الى الافضل ابن بدر الجمالي، وكانت تتحول بدورها بعد موت مؤسسها الى خدمة من يخلفه او من يدفع لها اكثر.

   وهكذا غدا الجيش طوائف او فرقا غير متجانسة يكره بعضها البعض الآخر، ولم تعرف ولاء الا للمال، ولم تتنبه الى الاخطار التي تعصف بالدولة حتى في احرج الاوقات. وقد عجزت تلك الجيوش عن حماية املاك الدولة في بلاد الشام لسببين على الاقل:سؤ معاملة الولاة الفاطميين للسكان وعلى الاخص المغاربة منهم، وكرههم للحكم الفاطمي، ولعجز الفاطميين عن حماية بلاد الشام من الحملات البيزنطية المتكررة، لعدم تصديهم للحملات الصليبية التي احتلت فلسطين وهددت مناطق اخرى. 

المصاعب الاقتصادية :ساهمت الطبيعة بضعف الخلافة الفاطمية اقتصاديا ما كان ينعكس باستمرار على الاوضاع كافة؛ فكان انخفاض مياه الفيضان يؤدي الى القحط والجفاف، وارتفاع منسوبه عن المعدل العام الى انتشار الاوبئة والامراض وقتل الفلاحين وحيوناتهم واتلاف المزروعات. وقد تكررت هذه الحالات في: 1003، 1009، 1052، 1055، 1056و 1058 وكان اعظمها الشدة المستنصرية التي استمرت سبع سنوات متتالية من 1064-1071 تعطلت خلالها الزراعة، وازداد الغلاء حتى بيع الرغيف ب15دينارا، وادت الى موت ثلث السكان. وبسبب الغلاء وقلة الاقوات اكل الناس القطط والكلاب حتى كادت تفرغ مصر من الصنفي، ويزعم بعض المؤرخين ان الناس اكل بعضهم البعض الآخر.

   وزادت الفتن العسكرية غير المنتهية الوضع الاقتصادي تأزيما، ولا سيما بعد ان هزم ناصر الدولة بن حمدان السود وحاصر القاهرة وقطع عنها المؤن، ما ادى الى تفشي الامراض بسبب سوء التغذية فمات عدد وافر من السكان. وكانت لحملات ناصر الدولة نتائج بالغة الخطورة على هيبة الخليفة وعلى مستواه الاقتصادي، فقد نهبت جيوشه قصر المستنصر واستولت على كل ما فيه حتى وجد الخليفة، عندما قدم اليه رسل ناصر الدولة لمطالبته بالمال، جالسا على حصير ولا يملك ما يقتات به، فعطف عليه ناصر الدولة وخصه براتب شهري مقداره مئة دينار.

 وساهمت قلة المداخيل التجارية بالازمة الاقتصادية خصوصا بعد ان توقفت التجارة مع اوروبا عبر الواحات الليبية لفقدان السيطرة الفاطمية على المغرب وعلى صقلية. وحصر البيزنطيون علاقاتهم التجارية مع الفاطميين عبر حلب التي حولوا اليها قوافلهم التجارية بعد ان ساءت العلاقات الفاطمية البيزنطية.

على الصعيد الاسماعيلي: بدأ دور الامامة بالاهتزاز منذ عهد المعز عندما عهد الى ابنه الثاني، ومن ثم الى ابنه الثالث، ثم في عهد الحاكم بامر الله عندما عهد بالخلافة الى ابن عمه عبد الرحيم بن الياس. ولكن الهزة العنيفة جاءت بعد وفاة المستنصر حين اسند الافضل الخلافة الى المستعلي الابن الثاني للمستنصر، ما ادى الى ثورة نزار الابن البكر المطالب بحقه بالخلافة ولقب نفسه ب المصطفى لدين الله، فتخلّص منه الافضل بان بنى عليه حائطا. ونشأ بعد موته فرقة جديدة انتسبت اليه عرفت بالنزارية او المستعلية تزعمها حسن الصباح في بلاد فارس الذي تحصّن في قلعة ألموت، وراحت تطالب بحقها بالخلافة ما ادى الى نزاع مكشوف في الدعوة ولا سيما في المناطق البعيدة كالهند وبلاد فارس، واحيانا في مصر نفسها اذ تمكن النزاريون من قتل الافضل، وحاولوا قتل الوزير مأمون البطائحي. ولم يقف الامر عند هذا الحد اذ بعد مقتل الخليفة الآمر من دون وريث، كما تزعم بعض المصادر، ترك زوجة حاملا، وبانتظار ولادتها عهد اكابر غلمان الآمر بالخلافة لاول مرة الى امام مستودع هو ابي الميمون عبد المجيد ابن عم الخليفة. ولأنها انجبت انثى عمد الوزير احمد بن الافضل الذي فرضه الجند الثائرون، وكان على ما تذكر المصادر اماميا، الى خلع الامام الخليفة ( الامام المستودع) عام 1131، لكن غلمان الآمر ثاروا مجددا وقتلوا احمد بن الافضل واعادوا الخليفة المخلوع ولقبوه بالحافظ. وتذكر بعض المصادر انه كان للآمر طفلا ذكرا اعترفت به معظم الاسماعيلية في مصر ونقلوه الى اليمن واعترف به الاسماعليون خارج مصر خصوصا في اليمن والهند، وبالتالي انقسمت الاسماعيلية في مصر مجددا على نفسها بين اتباع ابن الآمر اصحاب ” الدعوة الطيبة”، ومؤيدي الحافظ.

 ان كل ذلك ادى الى فروغ الامامة من محتواها الحقيقي، وصار الخليفة الفاطمي كغيره من الخلفاء العباسيين من دون هالة دينية، وصار بالامكان اسناد الخلافة الى من يشاءه الوزير صاحب السلطة الفعلية في البلاد.

دور الصراع مع البيزنطيين: شكل الصراع الفاطمي البيزنطي معضلة للفاطميين، فقد عجزوا في معظم الاحيان عن التصدي للحملات البيزنطية حتى في فترة الازدهار الفاطمي مثل حملة الامبراطور نقفور فوكاس Nicephoros Focas التي احتلت انطاكيا، وحملة جون تزيمسيس Jhon Tzimices على القدس واكمل طريقه الى دمشق وتفاهم مع حاكمها افتكين التركي، ثم احتل صيدا وبيروت وعجز عن طرابلس. ولم يشكل انتصار العزيز على البيزنطيين والحمدانيين معا عام 987 رادعا للبيزنطيين اذ انتصر الامبراطور باسيل الثاني على الفاطميين عام 990 واكمل زحفه مهاجما المدن اللبنانية والسورية وعجز عن اقتحام طرابلس.

  وعلى الرغم من انتصار الفاطميين مرتين على البيزنطيين عام 998 ابان ثورة علاقة، وفي افاميا من العام عينه عقدت معاهدة بين الفريقين على عهد الحكم بامر الله مدتها عشر سنوات. ولكن علاقات التفاهم  تبدلت بوصول الامبراطورة تيودورة الى الحكم لأنها اشترط ان ينجد الجيش الفاطمي البيزنطيين حين الطلب مقابل العون الاقتصادي البيزنطي للفاطميين. مما كان يعني اذلالا للفاطمين وانذار بالحرب التي انكسر فيها الفاطميون. وتغير الوضع بعد معركة منزكرت عام 1071 ابعد البيزنطيين عن الساحة العسكرية مع المشرق العربي لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع بين الصليبيين والفاطميين ادت بالنهاية الى زوال الخلافة الفاطمية على يد صلاح الدين الايوبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *