مناقشة ديوان سليم فرنجي

منصات كثيرة اعتليت من دون ان ينتابني قلق او يرعبني موقف، فالمواضيع كانت من اختياري، وفي حقل اختصاصي. اما اليوم فالوضع مختلف، فانا الآتي من معترك التأريخ بمصطلحاته المقيدة ومنهجه الصارم، الهادف ابدا للبحث عن الحقيقة في مواضيع ابكى معظمها عيون الانسانية دما واسى، واغناها في آن حضارة وتطورا. واراني اليوم اقف على منصة تضم كوكبة من الادباء والشعراء لأتحدث في الشعر الذي تتعانق فيه صور البيان والبديع لترسم اروع لوحات الخيال. والناهلة مواضيعه من القلب رقة وعذوبة، والنابضة ابدا بالعواطف المرهفة، والاحاسيس المشبعة بمعاناة النفس، فتحاكي الروح بكل ما يذكيها، وتنتشل الاحلام المختبئة في حناياها وتصقلها. وينساب اسلوبه بتحنان ورقة في دروب القلب وهذيان الروح، اين منه اسلوب المؤرخين القاطع المباشر الخالي من كل هذه التلاوين؟! انه فعلا لأمر مختلف. لذا سأتحدث عن مضمون ديوان :” من وحيها الابحار في عالم الوجود” تاركا الفنون الشعرية من موسيقى وقوافي واوزان وما الى ذلك لأهل الاختصاص.

قراءت ديوان:” من وحيها الابحار في عالم الوجود” اكثر من مرة فاذا بصديقي سليم فرنجي عاشق عفيف، متماه مع الذكريات حتى الذوبان، منغمس في الاحلام حتى الغرق، يسحره الليل بسكونه ونجومه المتلألئة المساهمة معه في قرض الشعر، وينعشه القمر الشاهد على ثمالته الروحية. جاءت قصائده مناجاة باكية ترحل الى ديار الحبيبة، تلك الحبيبة المختبئة في حنايا نفسه، المعشعشة في جوارحه، الحبيبة النقية الطاهرة العفيفة، التي يضن علينا بوصفها، فلا نعرف لها ثغرا يفتر، ولا شفاها تقبل، ولا وجنات تحمر من طيب غزل، ولا شعرا مغناجا ينسدل على الاكتاف وينسل اليه النسيم مداعبا ملاطفا متحسسا ملمسه، ولا قضا ممشوقا، ولا نعرف لها حزنا دامعا، ولا عتبا يستدر عطفا مغناجا تؤرقه تنهيدات حالمة. حبيبته لا تتحدث، لا تتفاعل مع تنهدات الحبيب. انما هي إلاه في خياله، يمتلكها وحده بما هي عليه لا يهم الشكل او الحديث. وتبلغ انانيته، في هذا الشأن، اقصى درجات التقطير، واسمى لواعج الحب.

لعمري انها مناجاة عذرية، حب افلاطوني غارق في الاحلام، يتلمس سليم عبره ماضيا له وحده، قد يكون بعيدا، لا ادري، قد يرقى الى ايام المراهقة او الصبى وظل مستعرا في خلجات خافقه حتى اليوم، كما قد يكون وليد الكهولة. انها قصائد قد يكون خربشها مراهق على صفحات القلب مذاك، وعشعشت، على توالي السنين، في خبايا الذاكرة. ثم عاد سليم وايقظها من صناديق النسيان، وألبسها حلة جديدة هي بعض من حلاوة الماضي ورصانة العمر. قد اكون مخطئا، وبعض الظن اثم، انما الظن في الحب حلم، يأخذك مع الاثير الى حيث تشتهي، بعيدا عن واقع  يجسد رتابة الحياة وقساوتها.

والبعض الاخر من قصائده ينضح رجاء وأملا واستعطافا. تفوح منه خشية على انقضاء العمر مسرعا. وتنتشي فيه لحظات من الحنين سكرى، تخشع في ثوب من قداسة، لأن لقاء الحبيبة والسمر معا، تحت افياء الحياء، ونظرات النجوم الغيورة، والكؤس المترنحة الناهلة من الدن المنهك المتأوه، يدفع سليما لأن يصدح نشوانا باسمى رعشات الحب، يكسوه دفء الاحلام. ورغم هذه اللوحة البديعة، واشتعال النار في حناياه تظل الحبيبة صامتة. وينصهر بعواطفه التي تعتصرها دامعة حمراء، لينشد:”ذكريه ان العمر لحظة حب… ومتعة الدن باكية.” وقد يكون هو الباكي الصامت الملتحف بالحبيبة!!

لا ادري من هي هذه الحبيبة الضائعة في الاحلام، سالبة روح شاعرنا، يفتش عنها ضائعا، فيتوه تارة مع الانجم، واخرى مع القمر، وثالثة مع الصباح، ورابعة مع الفجر، وخامسة مع الكأس والدن… كما مع فينان الشجر وغنجات الورود. ان سليما مستغرق في حلم يسلبه الماضي والحاضر، نشوان من سكرة الحب وظمآن الى رؤية الحبيبة، يمني النفس ان تماشيه في هذا النعيم الذي لا يقظة منه، ميتماهيا مع حبه الابدي السرمدي على حلاوة الحلم ومرارة الواقع.

وعلى الرغم من ان زيت الديوان يكاد ينضب، يستبد التعب بالقارئ حتى تتملكه الحيرة من القصائد الاحادية الجانب، ويزداد شغفا للتعرف بالحبيبة التي فجرت هذا الكم من الملكة الشعرية والعواطف المتآكلة ألما. فيتساءل أهي حقيقية ام افترضتها ربة الشعر؟ أرؤيتها ستظل حكرا عليه وحده؟ فتهيمن على القارئ مسحة ألم تنبثق من سماع انين سليم ومناجاته. وقد تعذره ربما لأنه زرع في حناياك المتوقدة ميزات من الحب العذري في زمن صار فيه بعض الحب ابتذالا. ومن خشيته عليها يلفها باحاسيه، ويمتص اريج حبها العابق بانفاسه. وتفتر على ثغره تبسامة رضا. ويبخل عليك مجددا حتى بابتسامة نقية طاهرة على مبسم منارة حياته، وهدفه ومبتغاه في الدنيا وفي الآخرة.

تتبدل حال صديقنا في القسم الاخير من الديوان، فتشوب قصائده مسحة تشاؤم، بل نقمة على الوجود فيترنح مناجيا:” نغيب شكلا ونبقى جوهرا لا يزول وتستمر مهزلة الوجود.” وهو لا يفصح عن معاناته في الحياة سوى في امتلاك حب الحبيبة. فهو ابدا حالم هائم من دون قرار. وعذرية الليل التي خربشها، في ما مضى، على صفحات قلبه تطل من جديد لتزيد في الاشواق احتداما، وتسرح مع الاثير لتصير سرابا. فيغفو صديقي سليم ولا يغفوا، يحلم ولا يحلم وكأن الواقع اقوى من حلمه، فيستفيق على الم تظلله رقة احلام الاطفال، وعذوبة آمال عفوية. وتستمر نفسه المعذبة تتغذى من خياله، من حبه، من تلاطم عواطفه، من سكرات مشاعره، من روعة الخيال السارح مع الانجم. ويستمد قوة متبقية من مشاعر جرحتها الايام، وعصرتها العواطف، وصهرها خافق يئن، وطيف حبيبة طال انتظارها. ومع ذلك يظل الشوق شوقا، والعتب يتلاشى، والسنون تنهش العمر والفؤاد تتآكله جراح عذبة.

وتفاجئني في اواخر الديوان مسحة جديدة اشد تشاؤما تصفع العمر، وتدمي الاحلام، وكأن الليل ما عاد ليلا، والنجومَ ذبلت، والقمر باخ لونه فاستتر، وانكسر الدن وانطفأت روحه، وتحطمت الكؤوس يأسا. انها نقمة على الوجود، وحالة تشاؤمية مرعبة. ينهار معها سليم معاتبا:” نغيب شكلا ونبقى جوهرا لا يزول وتستمر مهزلة الوجود.” ” وترحل عنا الى غير لقاء… ويضيف وترحلين…الى ديار ما لك فيها اهل اوصديق” ويزداد التشاؤم حتى يهتز الايمان “…ليس لي ماض ولا غد…ونضيع بين قائل بخلود وقائل بفناء.” ويبدو ان الالم الذي ينضح من جواره اتعب الأمل، فصار الشاعر خيالا هائما من دون قرار. وكأن الحب العذري المتجلي في معظم القصائد قد نال منه في نهاية المطاف، فاضاع الحبيبة، وصارت جرحا ثخينا اضناه فناجاها:” يا حبيبة خيالي وحقيقتي — افتش عنك في خواطري – وعوالمي غير المرئية.” ويفضي الى هذه الحبيبة والصديقة في آن باثقال قلبه ودموع جوارحه وعواطفه المتناقضة بابيات تبكي الحنين:” انت الزهرة الذابلة وانت الجمال – وانت الغنى والفقر والسؤال…الحكمة انت وحلم المشتهى.”

وخشيتي ان يكون سليم قد فقد الحبيبة الى الابد انتزعت من مقلتي دمعة كحلت هذه السطور بلفتة من القلب خاشعة. يا صديقي العزيز لا اثم في الحب العذري ولا ابتذال، فاحبب كما تشاء،  فالحب ان خشيناه او تماهينا معه سيبقى وحده سر الحياة وان فقدناه سيحتضر العمر وتذبل الروح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *