نقولا زيادة وعربيات

منصات كثيرة اعتليت من دون ان اخشى موقف المناسبة ولا موضوعها، فقد كنت اخوض غمارها برباطة جأش وثقة كبيرة بالنفس. اما اليوم فالامر مختلف فانت يا استاذي الكبير في حضرة الله وانا امام هذا الحفل الكريم من احبائك واصدقائك وغيرهم من اعلام الثقافة والفكر. ومن على هذه المنصة المخصصة لك بل لدراسة فكرك واعمالك ومنهجك وثقافتك العابرة للحضارات. انها منصة امتحاني للفكر الذي زرعته فيّ المنهج الذي ارسيت اسسه في ابحاثي ودرّبتني عليه. لهذا كله اخشى الاّ افيك حقّك في العبور الى اغوار بعض مؤلفاتك التي تناولت العربية لغة وحضارة وثقافة افتش بين طيات صفحاتها على الوسائل التي اعتمدتها والاهداف التي ابتغيتها لا لتترك بصماتك واضحة في مضمار الحضارة العربية فحسب بل لتبرز خاصات جديدة كان اغفلها مفكرون آخرون. ومن ذلك قولك: ” في التاريخ العربي قاعات قل داخلوها، وسبل قل طارقوها، وزوايا قل والجوها، وفي هذه القاعات والسبل والزوايا خير كثير، لو انصفها الناس “[1].

تماهيا مع هذا القول وقف استاذي عمره المديد على الولوج الى صناديق النسيان يوقظ منها وثائق كثيرة كانت قد ارتاحت فيها بسبات عميق، يتبحّر بمضامينها ويستقرؤها باسئلة ذكية ويدوّن اجوبتها كتبا ملأت رفوف المكتبات العربية والعالمية. ولعل من ابرزها والتي ساتناولها في هذه العجالة هي:عربيات ،قمم من الفكر الاسلامي ،صور من التاريخ العربي، الجغرافيا والرحلات عند العرب، وافريقيات.

 تدفعنا هذه المؤلفات، كما ساوضح لاحقا، الى الاقرار اننا امام مؤرخ واسع المعرفة، عميق الاطلاع، ينفرد بمنهج متمايز، وبنظرة تاريخية خاصة، شغوف بالرحلات والجغرافيين العرب وبمن شابههم، تسلبه لبه دراسة الحضارة، وتستهلك معظم وقته.

 ان الخير الذي ذكره في قوله المأثور لا تمثّله الصراعات العسكرية‏، ولا الفذلكات السياسية، لان معظمها قد استهلك، وما برح المؤرخون متخاصمين فكريا حولها. وهو يرى ان معرفتها ضرورية كونها تخدم التطور الحضاري الذي يستند برأيه الى عدة ركائز: اهمية البلاد من حيث الموقع والتضاريس والموانيء والعواصم والمدن والاسواق والتجارة، وكل ما له علاقة بالاقتصاد وميادين العلوم كافة. وبتعبير اوضح كل ما يتصل بالعمران، عمران ابن خلدون، والحضارة العربية في القرن الثالث الهجري، عمران المدن والمدارس والثقافة والاسواق والطرق التجارية، والمجتمعات العربية كلها، والمجتمعات الصينية والبيزنطية وغيرها. عمران العلاقات الانسانية بين مختلف المجموعات البشرية.

كتاب عربيات:

يتناول كتاب عربيات الحضارة العربية والاسلامية التي انطلقت من رحم التاريخ السياسي، الذي هو، وفق الدكتور زيادة، في اساس كل تطور. و اعني انا بمصطلح عربيات كل انتاج حضاري تركه لنا العرب خلال العصور الوسطى وحفظه لنا المؤرخون العرب والمسلمون. اما مصطلح عربيات التي قصدها الدكتور زيادة فيدل على منطقة الشرق الادنى التي انتشرت فيها اللغة العربية وسادت منذ القدم. والكتاب كناية عن مجموعة ابحاث تركز على المميزات الرئيسية للعهود السياسية الوسيطة من دون الدخول في تفصيلاتها. وتتضمّن معلومات قيمة عن شبه الجزيرة العربية في فترة ما قبل الاسلام بقسميها الجنوبي والشمالي: تضاريس وسكانا وحيوانا ودولا بما في ذلك انظمة الحكم، وبعض العلاقات السياسية ان في ما بين هذه الدول او من حيث ارتباطها بالامبراطوريتين البيزنطية والساسانية، اضافة الى لمحات اقتصادية مركزا على التجارة لينفذ منها الى دور مكة التجاري في ظل تنظيم قريش.

    وبما ان نشؤ الاسلام وانتشاره والتغيير الذي اصاب الناس بفضله اصبح من المعارف العامة لا يجد الباحث ضرورة لاعادة تكراره، مكتفيا بالتركيز على الخاصات الاقتصادية الحجازية. ويعتبر ان موارد الحجاز الاقتصادية بل ثروته كانت تقوم على ثلاث ركائز: الضرائب التي كانت تحمل اليه في عهدي الرسول والخلفاء الراشدين، والحج، والتجارة. وهو يسقط من تأريخه الامرين الاوليين لأنهما معروفان، معتنيا بالناحية التجارية معولا على مصادر الجغرافيين والرحالة العرب متبحرا فيها للخلوص بنتائج اقتصادية واجتماعية.

  ويكتفي بكلامه على انتقال الحكم الى العباسيين يتسليط الضوء بايجاز رائع على نقاط ضعف السياسة الاموية. ويصرح بانه لا ينوي التأريخ للخلافة العباسية لا كلا ولا جزءا، بل يريد رسم اطارها السياسي العام الذي تمت بداخله تبدلات وتطورات وتغييرات شملت المجتمع من حيث الادارة والتنظيم والتمزق السياسي[2]، مختصرا، بفن المؤرخ الفذ، استعادة ماض والوقوف على اهم منجزاته وهناته.[3]

تشكل الاسواق ،برأيه، ركنا بارزا في المجتمع لانها صورة للحياة العقلية والاجتماعية، وهي كلما تعددت وازدهرت تعكس بالمقدار عينه النشاط في حياة الجماعة، وما ركودها الا نتيجة اضطراب شؤون المعاش والاحوال.[4]ولهذا تحتل الاسواق الحجازية منزلة مهمة في كتاب عربيات لأنها جعلت المجتمع دائم الحيوية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي لشدة تنوعها واستمرارها طيلة ايام السنة. فكان بعضها موسميا كالحج، وهبوب الرياح الموسمية في الشرق الاقصى، والبعض الآخر اسبوعيا، ونوع ثالث شهريا، ناهيك بالثابت منها. وكان لكل سوق دور بارز في انتظام الحركتين التجارية والاقتصادية. والدكتور زيادة يعتبر ان التجارة كانت احد اهم اركان المجتمع ليس من بعدها التجاري فحسب بل لدور التجار في نقل الافكار والمعارف والتقاليد والعادات من اقليم الى آخر بل من بلد الى نظيره. من هذا المنطلق حوى عربيات عدة ابحاث اخرى تتحدث عن التجارة : اثنين عن بلاد الشام؛ يبحث الاول في تطور التجارة الداخلية، والثاني في التجارة الخارجية او العالمية، وبحث ثالث يعالج تطور التجارة في العهد الصليبي.

      يعتبر الدكتور زيادة ان ديار الشام كانت اغنى الجهات بالاسواق ومواقع الخانات ونقاط الاراحة،[5] لأنها عريقة بالقدم تعود الى العصور التاريخية. ومرد هذه العراقة الى لمرور في بلاد الشام الطرق التجارية الواصلة الى بلاد الرافدين، ولحاجة هذه البلاد الى البخور ليحرق في الاحتفالات الدينية، ولمشتقات اخرى من الطيوب. فالبخور الاصلي (اللبان) كان مصدره جضرموت، وكانت اليمن مستودع طيوب متعددة مصدرها جنوب شبه الجزيرة العربية والقرن الافريقي. ويعدد مؤرخنا الخاصات المهمة لتلك الطرق ويؤكد انها هي التي دفعت الامبراطوريتين البيزنطية والفارسية للعمل هلى احتوائها عبر محاولات متكررة باءت  في نهاية الامر بالفشل .[6]وتمكنت مكة في ظل تنظيم قريش من  تولي زعامة هذه الطرق، او على الاقل السيطرة على الطريق الرئيسي .

   وبقيام الاسلام وتوسع الفتوحات زالت معظم العقبات امام التاجر العربي، وانفتحت امامه كل الطرق التجارية من حدود الصين وحوض السند الى ايبيريا . وتتركز التجارة كما هو معروف على العرض و الطلب. والطلب متوقف الى درجة كبيرة على المستوى الحضاري الذي بلغته الجماعة التي تطلب السلع بما في ذلك ما تقتضيه التقاليد والعادات الاجتماعية والدينية. واما العرض فمتوقف بدوره على مقدرة المنتج[7]. وساهمت الصناعة بديار الشام بتطور الحركة التجارية بعد ان اصبحت دمشق عاصمة الخلافة، ونشأت ارستقراطية عربية قادرة على الاستهلاك نعمت بوفرة الغنائم والتوظيفات[8].

     وهو يرى ان نمو التجارة الخارجية الشامية ولاسيما في العهد العباسي يعود الى عدة عوامل اساسية هي:

1- النمو السريع للسكان وتجمعهم في المدن[9].

  • حمل الرقيق بجنسيه الاسود والابيض الى الدولة العباسية [10].
  •  بلوغ السكان مستوى عال من الحضارة واقبالهم على استهلاك السلع المتنوعة كالطيوب والتوابل والاقمشة الفاخرة[11].
  • ازدياد عدد الجند وجنوحهم الى السلطة ما افرز عددا من الدويلات شبه المستقلة في ظل الخلافة العباسية.[12]
  • عناية الدولة العباسية بالطرق والبريد والخانات والمحطات التجارية على تنوعها.
  • تطور علم الطب واشتداد الطلب على السلع الطبية.[13]
  • الحاجة الماسة الى الورق.[14]
  • نزويد الجيوش بحاجتها من الثياب والسلاح.[15]
  • اعتياد اهل الصين على استهلاك منتوجات آسيا الغربية عبر القرون السابقة لقيام الدولة العربية.[16]

     وتتضمن هذه الابحاث معلومات قيمة عن انواع السلع ومصادرها، ودورها في الحياتين الاجتماعية والسياسية، وتحدد مستواهما العام بما في ذلك مقدار استهلاك الحكام والسكان للذهب والفضة. وتتطرّق هذه الابحاث ايضا الى اسباب التضخم المالي وانعكاساته على الوضعين الاجتماعي والسياسي، والى دراسة الطرق التجارية وتطور المحطات عليها .

     والدكتور زيادة لا يترك فراغا في الحقبات التاريخية، فيتحفنا ببحث عن العلاقات التجارية في العهد الصليبي يكمل الصورة الاقتصادية العامة للابحاث السابقة. ويطرح فيه تساؤلا اساسيا، يختل عبرا بل امثولات عن دور الصراعات العسكرية وانعكاساتها على الاجتماع الانساني بقوله:”هل من درس تمليه علينا هذه الاحداث البعيدة؟ هل من رؤية يمكن ان تعكسها تلك الحوادث بانكساراتها وانتصاراتها بآمالها وآلامها بحيث بدل ان نتلفت الى الخلف تحملنا الى التطلع الى الامام؟[17]

   قمم من الفكر العربي الاسلامي، الاهلية للنشر والتوزيع ،بيروت،1987 .

      يدرس الدكتور زيادة في هذا الكتاب سبعا وعشرين شخصية بين مؤرخ ومحدث وفقيه ورحالة واداري وكاتب تراجم وطبيب وفيلسوف وعالم اجتماع بدءا بابن اسحق صاحب اتم وافضل سيرة نبوية شريفة، وانتهاء بالمقريزي. يمهد لكل واحد منهم بدراسة مهنته في عصره تبيانا لمنزلته من جهة، ولتمكين الباحث او القارئ العادي من تتبع التطور الذي اصاب هذه المهنة منذ منتصف القرن الثاني/الثامن وحتى اواخر القرن التاسع/ الخامس عشر م. ويضمّن سيرة حياته: مكان وتاريخ مولده، رحلاته في طلب العلم، الاماكن التي درس فيها، استيطاناته الجديدة، ومؤلفاته، ثم يعين مكانته في تاريخ الفكر العربي والاسلامي. وتدليلاً على اهميته يختار نماذج من كتاباته التي توضح تطوّر الحضارة العربية والاسلامية. ويقر استاذنا انه لا يفي اولئك الاعلام حقهم لان الغاية الاساسية من دراستهم تتمثّل بتوضيح مساهمتهم بالحضارة العربية والاسلامية، مدللاً على ذلك بقوله: “لسنا نحسب ان العالم عرف في تاريخه الطويل، ما عرفه ابان قيام الدولة العربية الاسلامية ونشؤ المحتمع العربي الاسلامي وتطور الحضارة المرتبطة بالامرين، وذلك من حيث الاختلاط والامتزاج والتفاعل والتجاذب بين شعوب مختلفة وحضارات متباينة حية او بائدة وثقافات روحية ومادية.”[18]

    الرحالة العرب ، دار الهلال ،1956 .

      يستهل الكتاب بالتعريف باهمية الرحلات، ودورها في تطوّر الحضارة وتوسيع المعرفة. ويعزو الدكتور زيادة بعض عوامل تطوّر الحضارة العربية والاسلامية الى المعارف التي قدّمها الرحالة عبر رحلاتهم خصوصا بالتعريف بالاقاليم والمدن والقصبات، وتحديد المسافات التي تفصل بينها. وبالكيانات السياسية غير العربية وعادات وتقاليد شعوبها المتنوعة الاعراق. وبرسم الرحالة بذلك الطرق التجارية والمحطات المتنوعة عليها، يعرّفون بانواع السلع وبمصادرها، وكيفية استهلاك الغريب منها. والى ذلك يشكّل الرحالة العرب والمسلمون فرادة في تاريخ العصور الوسطى.

 والكتاب لا يختلف منهجا عن سابقه (قمم…) الا من حيث الفترة الزمنية، وتجانس الشخصيات. فهو يتناول ابرز الرحالة العرب والمسلمين وفق تواليهم الزمني خلال القرن الواحد بدءا بالقرن 6 / 12م. وانتهاءا بالقرن 9/ 15م.، ويفرد فيه فصلا طويلا لابن بطوطة لانه كان يعتبره رحالة محترفا امضى 28 سنة في الحل والترحال منقبا عن كل ما يتعلق بالحضارة الانسانية في معظم مجتمعات العالم القديم[19]. ويقول فيه:”لقد طبع ابن بطوطة الرحلة في القرن 14م. بشخصيته القوية النابضة بالحياة، المتطلعة الى كل ما حولها بشوق دائم…وقُدّرت المسافة التي قطعها بنحو مائة وعشرين الف كلم. وقد جرّب الا يقطع الطريق مرتين ونجح في ذلك الا في ما ندر. ولا يعرف تاريخ الرحلات من اجتاز مثل هذه المسافة قبل العصور الحديثة”[20].

    وان شغف الدكتور زيادة بالحضارة دفعه لانتقاء نماذج من مؤلفات الرحالة تتناسب مع النواحي الاجتماعية الدالة على تطور الحضاري؛ فاختار من الجزيرة العربية انواع الابنية وطرق بنائها، والشوارع، وا لمياه، والثمار، والتجارة، والحج. ومن العراق وصف المدن ولاسيما بغداد، والاسواق، والقيساريات، والخانات، وبيوت العامة وبيوت الجند[21]. ومن بلاد الشام المدن والابنية كالجوامع والكنائس والمدارس والاسواق والاسوار.[22]

   ان تعلّقه بالرحلات له ما يبرره فهو نفسه كان رحالة بامتياز، ويتبدا  ذلك في مقدمة كتابه افريقيات التي يحدثنا فيها عن تطوافه في انحاء المغرب العربي كلها، وفي صور من التاريخ العربي الاسلامي، وفي لبنانيات، وشاميات، واكثر ما يظهر ذلك في جزئي كتابه “ايامي“.

       افريقيات ،رياض الريس ،بيروت-لندن ،1991 .

    يتناول الكتاب مواضيع متعددة من التاريخخين الوسيط الحديث تمثّل الحضارة قاسمها المشترك. يتصدرها بحث “المدينة في الاسلام وظيفتها وخصائصها”[23]. يعتقد مؤرخنا انه كان لكل مدينة اسلامية وظيفة محددة داعما رأيه بالبينات. فهي كانت اما مركزا للجيش مثل القيروان والبصرة والكوفة، او مركزا للملك والادارة، او مركز لادارة محلية كتونس وقرطبة وفي الغالب تكون هي العاصمة. والى جانب هذه الوظائف الاساسية الاصيلة تمتعت بعض المدن بخاصات اخرى وبدور ميزها من غيرها مثل دمشق التي كان لها الفضل في التنظيم البيروقراطي الاداري في الدولة العربية الناشئة[24]. وبغداد العربية المنشأ والتي تميّزت بنقل التراث الهندي والفارسي والسرياني واليوناني الى اللغة العربية، ثم انها بنفسها خلقت الحضارة العربية والاسلامية[25]. وكانت لمراكش وظائف خاصة من حيث انها اولا كانت معقل الاسلام في الرقعة الجنوبية الغربية للمغرب العربي، ونقطة انطلاقه لتوضيحه وتفسيره بشكل صحيح. وثانيا لحماية العرب والمسلمين في الاندلس؛ فمنها انطلق المرابطون والموحدون لتقديم الحماية اللازمة[26]. وكانت قرطبة نقطة اجتماع لعناصر مختلفة من الشعوب والثقافات، ولم يكن فيها غليان فكري وتصارع حضاري على غرار مدن الثقافة المشرقية، انما كان فيها قبول لما ينتج في الشرق وامتصاص لعادات اجتماعية كانت هناك[27]. وشكّلت مع غيرها من مدن الاندلس معبرا رئيسا للحضارة العربية والاسلامية الى اوروبا بما فيها الفلسفة والفكر العلوم على اختلاف انواعها.[28]

      واختصت القاهرة باكثر من وظيفة: فهي انشاء فاطمي، وتحوّلت الى دار علم ونشر لفلسفة ودعوة جديدة عبر الازهر الشريف[29]. واصبحت في العهد المملوكي عاصمة سلطنة عظيمة فغدت وظيفتها اخراج الصليبيين من الشرق وصد الهجمات المغولية[30].  وتعهدت فاس في عهد بني مرين في القرانين 7/ 14 و 8/ 15م. اختزان العلم واحتضانه، وصارت ضمير الاسلام المتعلم في المغرب الاسلامي[31]. ويخلص استاذنا في بحثه هذا الى انه صار في طرفي العلم العربي مستودعان للمعرفة الاسلامية بواسطة وظائف المدن.

   ويتضمّن الكتاب ايضا بحثالمدرسة الاسلامية في المغرب العربي”: سأستهله بقول للبروفسور زيادة “في تاريخ الاسلام صفحات مشرقة وخالدة كثيرة، ولعل من اكثرها اشراقا تلك التي سجلها الاسلام في تاريخ التعليم”[32]. لقد عرف العالم الاسلامي مؤسسات تعليمية متنوعة مثل الكتّاب وهو اول مؤسسة تربوية اختصت بتعليم الاطفال، والرباط وكان في الاساس ثكنة عسكرية اقيمت لمراقبة السواحل وكانت المدرسة من بين المهمات التي اطلع بها[33]. ولكنه نحا تدريجا للاهتمام بالناحية العسكرية الصرفة لتقوم الزاوية بمهمة التعليم مكانه. و بكلامه عن الزوايا يفند االدكتور زيادة انواعها الثلاث. واذا كانت المدرسة تمثّل المرحلة الثانوية،[34]فان المدارس الموحدية ايام عبد المؤمن اختصت كل واحدة منها بوظيفة محددة كاعداد الموظفين الاداريين، وتعليم الامراء الموحدين، وتخريج الملاحين[35].

    اما المدرسة المشرقية فقد تميّزت عن مثيلاتها المغربية بحيث كان يتم اختيار طلابها اما لذكائهم، او منزلتهم الاجتماعية، ويتوقف نجاحها على الشيخ الذي كان يعنى بها[36]. وهي ضمّت الى الفقهاء والمحدثين، الاطباء والمهندسين والفلكيين واصحاب المعارف بالرياضيات والزراعة عيرهم. وشكّلت الجوامع الكبرى ما يشبه الجامعات اليوم[37]، لان التعليم فيها كان اعمق وألصق بالجذور[38]. وثمة فرق بين المؤسستين :”ان المدرسة كانت للدولة ومع الدولة، ولكن الجامع مع علمه ومع نفسه “[39].

وتحتل هذه المواضيع مركز الصدارة في مؤلفاته وابحاثه، وتَسْقطُ منها المواضيع التي باتت معروفة.   هذا غيض من فيض مميزات مؤلفات راحلنا الجليل في التاريخ العربي والاسلامي في العصور الوسطى، فكتبه تألفت من مجموعة ابحاث متجانسة من حيث الموضوع يكمل بعضها البعض الآخر اكتمالا لنظرته التاريخية. وقد دوّنها بطريقة فذة اخّاذة بمنهج توخّى فيه الاّ يخوض في الجزئيات لان الكليات هي الاهم. وما الكليات الا تصميم مفصل يستند الى المزايا والخاصات الرئيسة بطريقة سهلة واضحة خالية من التعقيدات المنهجية الجافة لأنه ابتغى بمنهجه هذا امتاع القارىء وتثقيفه عن طريق ابراز ركائز الحضارة التي ارسى اجدادهم اسسها ورفعوا مستواها الى ارقى درجات المعرفة في العصور الوسطى، فكانوا بحق رواد الحضارة العالمية. وما اقتصاره على الكليات الا لان الدخول في الجزئيات يوجب فهم جدلية المعادلات المتعارضة، واثبات مقولات، والدخول في المنهج الجدلي ما يقتضي من القارئ ثقافة عالية جدا خصوصا في المناهج والمدارس التاريخية المتعددة. وهذا لايعني مطلقا ان استاذي لم يؤرخ للمثقفين والباحثين، بل هم الذين خصّهم بها بالدرجة الاولى فاسحا لهم في المجال لتوسيع الافكار بل الخطوط الكبرى التي رسمها والعمل انطلاقا من الخاصات التي ابرزها، بحيث ان كل مقال من ابحاثه المنتشرة على صفحات مؤلفاته الوفيرة جدا يصلح موضوعا لاطروحة دكتوراه.

 وتأسيسا على مؤلفاته الوفيرة وانطلاقاً من العلاقة التي جمعت بين الطالب والاستاذ والصداقة التي ربطت بيننا على مدى ثلاثة وثلاثين عاما اقول بكل ثقة: ان نقولا زيادة كان عربيا بامتياز عابرا لحدود الكيانات السياسية الوسيطة والحديثة والمعاصرة، بعيدا عن العصبيات الاقليمية؛ فكان في آن واحد فلسطينيا ولبنانيا وشاميا وحجازيا ومصريا ومغربيا، نذر حياته لنبش كنوز الحضارة العربية والاسلامية من بين حنايا وجنبات المصادر ليسطرها ابحاثا ومؤلفات خالدة جديرة ان تتصدّر المكتبات العامة والخاصة .

      اننا باستذكاره اليوم نكرم انسانية الانسان المبدع، والمؤرخ العربي الفذ، ونكرم المعرفة بمعناها الاوسع والاعم. وما إلتزامنا معه بالحضارة العربية الا عنوان انتمائنا للفضاء العربي الحضاري الرحب.

فاليك مني، وانت في حضرة الله يا استاذي ويا صديقي الغالي تحية اكبار واجلال وتقدير.

الدكتور انطوان خليل ضومط


[1] -الاهداء ،زيادة نقولا،كتاب، صور من التاريخ العربي .

[2] – زيادة (نقولا)،عربيات ،رياض الريس ،بيروت-لندن ، 1994، ص 100

[3] – نفسه ،ص 106-116

[4] – نفسه ،ص 117.

[5] – نفسه ،ص 131.

[6] -عربيات ، ص134.

[7] – نفسه ،ص 131-132 .

[8] – نفسه ، ص139-140 .

[9] – عربيات ، ص 150 .

[10] – نفسه ،ص 151 و 159 .

[11] – عربيات ، ص 150 .

[12] – نفسه ،ص 152 .

[13] – عربيات ،ص 160 .

[14] – نفسه نص 160 .

[15] – نفسه ،ص 181 .

[16] -المكان نفسه .

[17] – عربيات ، ص 171 .

[18] – زيادة (نقولا)،قمم من الفكر العربي الاسلامي ،الاهلية للنشر والتوزيع ،بيروت ،1987 ، ص 44

[19] – زيادة (نقولا) ،الرحالة العرب ،دار الهلال ،1956 ، ص 122 .

[20] – المكان نفسه .

[21] -المرجع السابق ،ص 72-73 .

[22] – نفسه ،ص 72-75 .

[23] – زيادة ( نقولا )،افريقيات ،رياض الريس ،بيروت – لندن، 1991 ،ص 99 .

[24] – نفسه ، ص 99 .

[25] – افريقيات ، ص 100 .

[26] – المكان نفسه .

[27] – المكان نفسه .

[28] – افريقيات ، ص 101

[29] – المكان نفسه .

[30] – المكان نفسه .

[31] – افريقيات ، ص 101 .

[32] – المرجع نفسه ،ص 197 .

[33] – نفسه ،ص 198 .

[34] – افريقيات ، ص 199 .

[35] – المكان نفسه .

[36] – افريقيات ، ص 199 – 200 .

[37] – نفسه ، ص 200 .

[38] – افريقيات ، ص 201

[39] – المكان نفسه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *