دور القائمقاميتين والمتصرفية واشكالية الحداثة

القسم الاول: الجغرافيا والسكان.

 الاطار الجغرافي: ان دراسة تاريخ لبنان خلال العصور الوسطى تطرح مسألتين اساسيتين: كمية المصادر، والمنهجية.

  ان النقص في الاصول والمصادر واضح جدا اما لغياب المؤرخين اللبنانيين او لضياع كتبهم. فاكتفى الاختصاصيون والباحثون بكتب التاريخ العام التي لم تتناول من تاريخ لبنان الا ما كان يتوافق مع متطلبات الفتح والرؤية السياسية العامة في دولة الخلافة التي انحصرت اهتماماتها بالدفاع عن الثغور الساحلية، واقامة الحاميات الاسلامية فيها.

اما في المنهج فقد تناول عدد قليل من المؤرخين تلك المرحلة ومعظمهم دخل على التأريخ بمواقف مسبقة من الاحداث فنظروا الى الماضي انطلاقا من قيم ومفاهيم الحاضر الحبلى بالكثير من الاشكالات السياسية فتداخل فيها الديني بالقومي المتعدد الوجوه والتشعبات، حتى باتت دراسة الماضي مقترنة بمعطيات الحاضر، وبالتالي وقع هؤلاء بمغالطات منهجية فادحة عقدت دراسة الماضي.

وتأسيسا على ذلك، تطرح المنطلقات الاساسية للبحث سؤالا مركزيا: كيف عُرّف لبنان في العصور الوسطى، وكيف حُدد؟ للاجابة على هذا السؤال لجأت الى مؤلفات الجغرافيين العرب التي حددت الاقاليم والمناطق باسمائها، ووصفتها، وما يزال معظم تسمياتها مستخدم حتى اليوم، فباتت مصطلحات جغرافية طبيعية. وفي القرن العشرين حوّل بعض اصحاب العقائد والايديولوجيات بعض تلك المصطلحات الجغرافية الى تعابير سياسية، بل افترضوا لها كيانات سياسية ما كانت معروفة في الزمن التاريخي، ومنها بلاد الشام.

وابتغاء للفائدة ولعدم الوقوع في مهاوٍ ايديولوجية عدت الى بعض مؤلفات الجغرافيين العرب للاسترشاد بها: فوجدت ان المقدسي حدد بلاد الشام بما يلي:” واهل العراق يسمّون كل ما كان وراء الفرات شاما… وانما الشام كل ما قابل اليمن وكان الحجاز بينهما . . . وحدود الشام التي رسمناها مُجمع عليها”[1]. وهذا التحديد هو محض جغرافي ولم يكن يوما كيانا سياسيا قائما بذاته، بل كان موزّعا الى عدد من الولايات او النيابات تبعا للعهود. وبالتالي تصبح بلاد الشام منطقة جغرافية مثل: بلاد ما بين النهرين، وآسيا الصغرى، وبادية الشام، والحجاز… وصنّف الجغرافيون لبنان في بلاد الشام على اساس الاصطلاح الجغرافي، وحدده المقدسي بما يلي:” اما جبل لبنان فهو متصل بهذا الجبل – جبل اللكام-.[2]” واعتبره ابن الفقيه الهمذاني:” وبدمشق – اي في جند دمشق- لبنان وهو الجبل الذي يكون عليه العُبّاد والابدال…وهو متصل ببلاد الروم.”[3]، وعرّفه ياقوت الحموي:” ولبنان جبل…وقيل: ان فيه سبعين لسانا لا يعرف كل قوم لسان الاخرين الا بترجمان، وفي هذا الجبل المسمى لبنان…وفيه يكون الابدال من الصالحين.”[4] واعتبره المسعودي احد مراكز الموارنة:” وظهر رجل…من مدينة حمص يعرف بمارون اليه تنتسب المارونية من النصارى الى هذا الوقت- القرن الرابع/ العاشر…أكثرهم بجبل لبنان…”[5] وذكره جغرافيون عرب آخرون بما يتفق مع هذه التعاريف. فهو الى ذلك، اصطلاح جغرافي له مدلول اجتماعي متميّز بالابدال من الصالحين اي النساك، وبانه احد مراكز الموارنة. ونحن لن نتوقف في دراسة تاريخ لبنان الوسيط الا حول اشكاليتين اساسيتين لنتمكّن من الوقوف على التحولات المفصلية في القرن التاسع عشر، وهما الكيان اللبناني وشكله، والديمغرافية عند الفتح وتطوّرها.

الديموغرافيا: عند الفتح العربي الاسلامي هاجر قسم من السكان مع البيزنطيين والقسم الآخر لجأ الى الجبال معتصما بها. ويزعم بعض المؤرخين، لدوافع ايديولوجية او دينية، ان لبنان كان خاليا من السكان، لن نتوقف كثيرا عند هذه النقطة التي نرفض مضمونها جملة وتفصيلا ونحيل المهتمين على نص اليعقوبي من مؤرخي القرن الثالث/التاسع[6] الذي حدد الانتشار الديمغرافي في لبنان والمناطق المجاورة. ومن الثابت ان العرب، في مطلع الفتوحات، اسكنوا في المدن الساحلية عناصر فارسية للدفاع عنها ضد هجمات البيزنطيين المتوقعة، انما بنية الجبل السكانية وهويته السياسية تحددت لاحقا وعلى مراحل ويمكن ايجازها بما يلي: استقرار المردة – الجراجمة في الجبل بعد تفاهمهم مع الامويين، وقيام المقدمية المارونية الذراع الاداري والعسكري للموارنة في ظل البطريركية، والامارة التنوخية في منطقة الغرب الخاضعة مباشرة لسلطة الخلافة العباسية وفيما بعد للسلطة العسكرية التي صادرت صلاحيات الخلفاء السياسية والعسكرية، واستقرار جماعات من الشيعة في جبل عامل بعد نفي معاوية لابي ذر الغفاري الى الجنوب اللبناني. من دون ان ننسى التحوّل في اتنية السكان وفي طائفيتهم ومذاهبهم في المدن خلال العهدين الفاطمي والصليبي. واحدث العهد المملوكي، اثر الحملات العسكرية على لبنان ولا سيما بعد سنة 1305، تبدلا ديموغرافيا عميقا باسكان قبائل كردية وتركمانية على امتداد الساحل من انطلياس وصولا الى مغارة الاسد في معاملة طرابلس، وافرغ السفوح الجبلية من السكان الشيعة والدروز، ناهيك بقدوم قبائل عربية جديدة الى لبنان كالشهابيين والمعنيين…

موقف المؤرخين: جاءت مواقف المؤرخين متباينة من هذا التبدل والتطور السكاني، فاصحاب المواقف المسبقة استمروا يعتبرون لبنان جزءا اساسيا ليس من بلاد الشام كتعبير او مصطلح جغرافي بل من سوريا في حدودها الحالية مسبغين عليها ذاتية سياسية مفترضة، وهذا موضوع وإن كنا لا نقر منطلقاته وخلاصاته، يستأهل محاضرات كثيرة. وفريق آخر ما يزال حتى الآن يخلط بين العرب والمسلمين معتبرا ان كل مسلم عربي، وهذه مقولة دونها محاذير كثيرة غيّبت الحقيقة التاريخية وقضت قضاء مزدوجا على مفهوم العروبة اي السياسية والقومي بشقيه الجذري والانتمائي والحضاري.

القسم الثاني: العوامل التي ادت قيام كيان لبناني خاص.

1 – العوامل الداخلية.

ان التركيب السكاني المذكور بتعدد الطوائف والمذاهب استمر موضوع خلاف بين الطوائف على مستويين سوسيولوجي واقتصادي، وهما بلا شك مرتبطين عضويا، وكان اي تحوّل في هذا البنيان سيشكل عامل صراع، لأن الفريق الذي سيشعر ان مركزه مهدد سيبذل كل ما في وسعه للمحافظة على مكتسباته. اما الوضع السياسي فكان منبثقا من التركيبين المذكورين ويتأثر بالتحولات التي كانت تصيب المنطقة العربية جزئيا او كليا، وبالتالي لم يكن التحول في الحكم افراز اشكالية داخلية صرفة، لأن الحكم الذاتي لم يفارق المجموعات الاجتماعية اللبنانية المتعددة. وقد شكل الانتماء الطائفي والمذهبي وتلونهما بالتحولات السياسية عوامل قسمة بين اللبنانيين ( ويشمل كلامنا لبنان بحدوده الحالية لأن الكيانات السياسية بحدودها السياسية لم توجد قبل نهاية الحرب العالمية الاولى). هذا ناهيك بان العوامل التي ادت الى الصراع الطائفي في لبنان كثيرة جدا، ويصعب الوقوف عليها كلها، لأنها كانت حصيلة عوامل شديدة التشعب نشأت في الزمن التاريخي الطويل، وسنقتصر بالحديث على ابرزها لعلاقاتها السببية بقيام نظام القائمقاميتين، وتنظيمات شكيب افندي، ومن ثم بالمتصرفية :

أ – الميثاق الشهابي: بعد انقراض السلالة المعنية عام 1697 ارتضى الدروز اعطاء الامارة للأسرة الشهابية السنية، وكان من المستغرب ان يقبلوا بأمير ” غريب الدار” لو لم يتحدد في هذا الانتقال التحوّل من نظام التعايش الى الاجتماع السياسي الذي جعل نظام الامارة الجديد يقوم على مبدأ سلطة الشورى بين الاعيان والامير. ولعل ابرز مقوّمات هذا الميثاق كما حددها الدكتور جان شرف كانت: حصول العائلة الشهابية على امتيازات لقاء عدم زيادة الضريبة الا بمقدار معيّن. وبألاّ يجنّد الامير الاهلين الا برضى الاعيان لأنهم قادة مجنّديهم الفعليين وما الامير الا القائد الاعلى، وبتعبير اوضح اول بين متساوين. واعتماد تراتب اداري في المناصب يجعل من الامراء المتولين المقاطعات مساوين للأمير الكبير[7] على هذا المستوى.

ان هذا الميثاق يفسّر كل التحوّلات القسرية التي حصلت في الجبل، ويشرح من جهة ثانية عمليات التحوّل الاساسية في عهد الامير بشير الثاني بسبب خروجه عليه من اجل تحديث الادارة في الجبل، وما كان ممكنا تحديثها بوجود سلطة فاعلة للاعيان.

ب – اعتناق الامراء المسيحية: ساهم عهد الامير فخر الدين الثاني، ومن ثم عهود الامراء الشهابيين بتطوّر ديموغرافي اساسي لصالح المسيحيين الذين شرعوا ينزحون تدريجا نحو المناطق التي خلت بسبب الحملات المملوكية، كما بانتقالهم الى المناطق الدرزية مشكلين ايدي عاملة، وتطوّرت ملكياتهم عن طريق عقود الشراكة، وبفضل الاديار، التي برعاية من الامراء الشهابيين، انتشرت في الاشواف وازدادت املاكها تدريجا وازداد معها عدد السكان المسيحيين بوفرة ملحوظة. واخلّ هذا المتطور، غير المنتظر من الدروز، بشروط الميثاق الشهابي و” طرح مفهوم السلطة في الاجتماع السياسي التعاقدي… ودفع الى ضرورة تعديل التراتب بين الدروز والنصارى في الاجتماع السياسي… لا بل ان هذا العامل كان من اسباب تنصّر بالامراء”.[8] ويؤكّد هذا التنصّر مؤرخون كثر من بينهم حسين غضبان ابو شقرا المؤرخ الدرزي المعاصر للأحداث[9].

   وهكذا، فان العقد الاجتماعي غير المكتوب بين المسيحيين ( الايدي العاملة) والدروز الاقطاعيين كان في تبدل مستمر وابدا لصالح المسيحيين الذين حازوا ملكيات كثيرة كانت للدروز، وبالتالي فرض الوضع السوسيولوجي والاقتصادي والعددي الجديد واقعا مختلفا ادرك الامراء الشهابيون ابعاده، فكان هذا التحوّل المتنامي احد ابرز عوامل تحوّل الامراء  اللمعيين والشهابيين الى المسيحية.

ج – اصلاحات الامير بشير الثاني: عندما اخلّ الامير يوسف الشهابي بالميثاق الشهابي، وبسبب ما حلّ بالبلاد من المشاكل كادت ان تؤدي الى خطر حقيقي، اجمع الاعيان على تولية الامير بشير الثاني واشترطوا عليه بالمقابل العودة الى التعاطي السياسي معهم ” حسب احكام السالفين”، اي وفق الميثاق الشهابي. لكن الاوضاع السياسية المتلاحقة ودور الجزار فرضت سياسة جديدة واكبت هذه المرحلة الصعبة، وحتمت على الامير، من اجل استتباب الاوضاع، نقض الميثاق الشهابي واستبداله باصلاحات حدّت من سلطة الاعيان، ومنها: فصل الامور التعبدية عن الخدمة السياسية التي هي من اختصاص رجال السياسة، واقامة دولة العدل والمساواة والقضاء والامن وجباية الضرائب.

* في القضاء: ولتحقيق هذه السياسة، ومنعا لأي انحياز لأي فريق داخلي،  تبنى الامير بشير الشرع الاسلامي المدني وطبّقه على كل الرعايا مسيحيين ودروزا. لأن القضاء كان من اختصاص المقاطعجية، فمن اجل اضعافهم وبسط سلطته كاملة على ارجاء البلاد عمد الامير الى اختيار قضاة من كل الطوائف درسوا الشرع الاسلامي، وصاروا يطبقونه في كل المعاملات المدنية، ولم يحدد لهم اماكن اقامة ثابتة للقيام بمهامهم بل كانوا يتجوّلون في ارجاء الجبل يفضون المنازعات. ونذكر من القضاة المسيحيين البارزين: حنا حبيب مؤسس جمعية المرسلين، ويوسف اسطفان قبل ان يصبح مطرانا.

* في الامن: كان الامن في المقاطعات من اختصاص المقاطعجية: يسجنون، ويسوطون، ويلاحقون المخلين به. وكان ممنوع على الامير وفق الميثاق الشهابي تجنيد جيش من اتباعه الا بموافقة الاعيان، ومنعا لأي اشكال معهم، عمد الامير الى تجنيد جيش محترف من دون ان يكون افراده من رجاله جعله يرابط في الثكنات ويتلقى اوامره مباشرة منه، ولم يكن للأعيان علاقة به،  وصار ينفذ اوامر السلطة في مختلف المجالات: فنفّذ احكام القضاة، وجبى الضرائب…

* الضرائب:كان فرضها وجمعها من اختصاص المقاطعجية ” فنظّم الامير طريقة فرضها، فوضع قوائم اسمية بالمكلفين حُددت فيها المبالغ المتوجبة على كل منهم، وصار” الحوّالة” يجمعونها[10].

    وهكذا سحب الامير معظم السلطات من الاعيان واناطها به من خلال المؤسسات المستحدثة، فتحرر العامة من سلطة الاعيان ووصايتهم، وادركوا تدريجا اهمية دورهم حتى فرضوا عامية انطلياس عام 1821 وقادوها وفاوضوا الامير. ومن الادلة على ارتفاع شأنهم انضواء بعض الاعيان تحت لوائهم. ويوضح سير الاحداث انهم كانوا على مستوى مهم من المعرفة والادراك، ومن الادلة على ذلك ما ورد في مطالبهم في العامية: ان يكون للأمير ديوان ” مجلس تمثيلي” تتمثّل فيه كل طائفة بعضوين. ومن الاشارات المهمة على التبدل الديموغرافي ان قادة العامية كانوا عشرة من المسيحيين واربعة من الدروز.

د – حقوق الملّة: فرض الاوروبيون على العثمانيين اصلاحات على التواليي فكان خطي شريف كلخانه اولاها، تساوت بموجبه كل الطوائف امام القانون في الحقوق والواجبات. فافاد منها الموارنة ومن التبدل الديموغرافي لأنهم كانوا الطائفة الاكثر عددا للمطالبة بحقوق الملّة اي ان يكون الحاكم على الجبل مارونيا.

2 – العوامل الخارجية وانعكاساتها الداخلية. لن ندخل في تفاصيل هذه العوامل لأنها تقتضي دراسة واسعة وشاملة تتداخل مع المسألة الشرقية، ولأن تأثيرها لم يضاه العوامل الداخلية. ويمكن اختصارها: بان اطماع الدول الاوروبية الكبرى في المشرق العربي وبالسلطنة العثمانية ككل لعبت دورا اساسيا في مجريات الاحداث في جبل لبنان، فتلك الدول كانت تتحيّن الفرص لتذر قرنها في الصراعات الداخلية وتوظفها لصالحها.

من الواضح تماما ان احتلال ابراهيم باشا بلاد الشام بالتحالف مع الامير بشير الثاني، وتدخله في الشؤون الداخلية اللبنانية كفرض التجنيد الالزامي، وجمع السلاح من اللبنانيين، ومساواته في الخدمة العسكرية بين كل الطوائف خلافا للشرع الاسلامي والعرف السائد، ومعاداة الدروز له بسبب مخالفته لتقاليدهم وعاداتهم، وانحياز الامير الى جانب المسيحيين، ومحاربته الدروز بهم اشعلت نار الحقد بين فريقي الاجتماع السياسي في الجبل، وزادت في الانقسام العمودي بينهما الذي كان بدأ يتأسس نتيجة التطور الديمغرافي والعقاري.

وشكّلت الاصلاحات العثمانية الاولى عام 1839، بضغط من الدول الاوروربية الكبرى، صدمة كبيرة للمسلمين الذين ما اعتادوا ان يتساووا بالمسيحيين فاعتبروا الاصلاحات انتقاصا من حقوقهم. وفي الوقت عينه لم تكن الدولة العثمانية مقتنعة بالاصلاحات التي فرضتها عليها الدول الاوروبية، وتريد التخلص من الضغط الماروني في الجبل المطالب بالحكم بعد القضاء على ابراهيم باشا ونفي الامير بشير الثاني عام 1840. وأمن لها خلفه الامير بشير الثالث الفرصة الذهبية بما اتصف به من ضعف اداري وعجز سياسي، فاستغل العثمانيون الصراع الطائفي في الجبل وتحالفوا مع الدروز للقضاء على الموارنة. ولعل ما اورده ابو شقرا عن الانقلاب في مراكز القوى لأكبر دليل على ما ذهبنا اليه:” وفي احوال البلاد والعباد تغيّرات عظيمة ذات بال اذ وجدوا الدروز على شفير الهلاك والاضمحلال وفي حالة الضعف والهوان…وبعكس ذلك النصارى فقد وجدوهم على خلاف ما يعهدونهم من صفر الايدي، وخلو الوفاض، والخشوع والاحتشام، ولين الكلام. شاهدوهم في قعس وخيلاء، وعتوّ وشموخ آناف مرتبطين الجياد الصافنات بعد ارتباط الحمير والابقار وسكناهم العلالي الشاهقة بعد الاكواخ، تقبض منهم الأُكف على نصاب الحسام الصقيل بعد ان كانت لا تعرف مقبضا غير نصاب المخرز والمطرقة…فلم يغرب عنهم ان هذه الادلة الغريبة والحوالة العجيبة ان هي الا مغبة اضطهاد الامير بشير وحيفه وجوره على هؤلاء وميله الى اولئك حاصرا فيهم جميع الوظائف والمأموريات التي كانت تدر بها المنافع وتستنزف الاموال…الى غير ذلك من الامورالتي احزنت ذوي المقاطعات واوغرت منهم الصدور، فجعلوا يعملون في ارجاع القديم الى قدمه ساعين في تعزيز شؤون ابناء طائفتهم واصلاح احوالهم…مما شق على النصارى امره وابو الاستكانة والرضوخ له”[11]

   وعلى الرغم من المبالغة في موقف ابي شقرا تجاه نمط حكم الامير بشير الثاني، فقد اوضح ان انقلابا اساسيا حصل في الجبل لصالح المسيحيين على مستويين ديمغرافي وعقاري اقتصادي، مما كان يعني ان العقد السياسي والاجتماعي القديم ما عاد ممكنا استمراره، وبالتالي لا بد من اعتماد صيغة جديدة يرضى بها الدروز والمسيحيون. وكانت المنطقة حبلى بالكثير من التعقيدات التي تداخلت فيها مصالح الدول الكبرى، حتى بات الجبل اللبناني جزءا اساسيا من المسألة الشرقية، وما عاد ممكنا حل قضاياه بمعزل عن تطوّر الاحداث المتسارعة في الشرق العربي.

 وهكذا، احتلت الاسباب الداخلية الاجتماعية والسكانية والاقتصادية والدينية المرتبة الاولى في الصراع الذي نشأ في الجبل، وزادتها تعقيدا ممارسات الدول الكبرى الساعية ابدا لتحقيق مصالحها، مما ادى الى الانفجار الداخلي الكبير، الذي تعذّر حلّه بالعودة الى نظام ما قبل 1840 اي حكم الامراء فكان لا بد من اعتماد نظام جديد.

القسم الثالث: الحداثة

1 – دور القائمقاميتين في التحديث: اقر هذا النظام في 15 ايلول 1842 نتيجة تداول الدول الكبرى التي وافقت على اقتراح مترنيخ مستشار النمسا، واعتبرته انتصارا باهرا لدبلوماسيتها فقسمت الجبل الى قائمقاميتين. وبدت الاشكالية النظرية اكثر صعوبة عند التطبيق: فهل يجب اعتماد التقسيم جغرافيا بمعزل عن الوضع الديمغرافي الطائفي، ام طوائفيا يجعل كل طائفة تحتكم الى حكام من ابنائها بمعزل عن القائمقام الدرزي او الماروني؟

جاء هذا الطرح حادا في القرى المختلطة، وبدا أكثر تأزيما في القائمقامية الدرزية بسبب وفرة اعداد المسيحيين فيها، وكثرة القرى المختلطة. وتداول المعنيون حلولا عديدة: ومنها، تقسيم جذري مبني على تبادل سكاني بين القائمقاميتين بحيث تصبح كل قائمقامية متشكلة من طائفة واحدة متجانسة دينيا. او اعتماد وكلاء للدروز والمسيحيين في كل قائمقامية لرعاية شؤون ابنائهم، على ان يرتبطوا مباشرة بالقائمقام. وفي جلسة 7 كانون الاول 1842 تبنى العثمانيون الامر الثاني، وجعلوا طريق بيروت-دمشق خطا جغرافيا فاصلا بين القائمقاميتين.

لم يرض المسيحيون بهذا الحل الدستوري غير المتوزان لأنه لم يكن مبنيا على النسبية الطائفية، ولأنه يضعهم في الوقت عينه تحت الهيمنة الدرزية في القائمقامية الدرزية رغم عددهم الكبير فيها، في حين تمسك به الدروز لأنه جعلهم مساوين عدديا وعقاريا بالمسيحيين. وبدا الامر وكأنه مرحلة استعداد لجولة جديدة من الصراع الطائفي التي حدثت فعلا في 1844-1845 لتطرح مجددا مفهوم العلاقة الدستورية بين الفريقين، ومدى فعاليتها: فهل الافضلية للصيغة الدستورية النظرية غير القابلة للتطبيق العملي بفعل توحّد الطائفة رغم الامتداد الجغرافي وعدم تنازل ابنائها عن هذه الوحدة تحت اية ظروف، مما كان يطرح وجود الطائفة بالذات وتكافل ابنائها حتى في وجودهم في القائمقامية المغايرة لطائفتهم؟ فصيغة الوجود والتأكيد عليها كانت اهم من التعاقد الدستوري المبني فقط على الجغرافيا وحدها، لأن التوسع الجغرافي هو حق من حقوق الطائفة ولا يمكن التنازل عنه، بل هو في اساس التعاقد الدستوري، مما كان يعني ان اي دستور جديد كان عليه الاخذ بالاعتبار امران: وحدة الطائفة الدينية والحقوقية، وامتدادها الجغرافي من ضمن المنظور عينه اي وحدة الطائفة[12].

    وعليه، فشلت مشاريع التبادل السكاني، وصار عسيرا جدا إن لم نقل مستحيلا العودة الى النظام القديم المبني على وحدة الجبل في ظل حكم الامارة، ما حتّم تعديل نظام القائمقاميتين بما يكفل الوحدة السوسيولوجية للطوائف وابعادها الحقوقية.

تنظيمات شكيب افندي: في صيف 1845 وصل شكيب افندي مندوب الدولة العثماني الى الجبل فاوقف القتال واعتقل مسببيه، وجمع السلاح، ثم بادر الى تعديل نظام القائمقاميتين بعد ان ادرك الابعاد البنيوية في تركيبة الجبل الطائفية والسوسيولوجية، واعتبر ان المشاركة التامة للطوائف في تقرير السياسة العامة لكل قائمقامية قد تعيد الهدوء الى الجبل، وربما اللحمة القديمة. فعمد الى انشاء مجلس في كل قائمقامية تتمثّل فيه الطوائف جميعها بالتساوي من دون الالتفات الى التفاوت العددي بينها، مستعيضا عن النظام الاكثري بالمساواة بين الطوائف؛ فصارت كل قائمقامية تتألف كما يلي: القائمقام مع وكيل من طائفته يُنتخب من الاعيان وينوب عنه في غيابه. وتألف مجلس القائمقامية من: قاض ومستشار عن كل من: الدروز، والموارنة، والكاثوليك، وارثوذكس، وقاض ومستشاريْن عن المسلمين[13] باعتبار ان القاضي المسلم يصلح لكل المسلمين. وقد برر هذا التنظيم قائلاً:” لما كان اهالي جبل لبنان مقسومين الى طوائف عديدة يجب ان تتمتع جميعها بنعم الحضرة السلطانية فينتخب اعضاء المجلس من الاعيان الاكثر جدارة في كل طائفة…وهؤلاء القضاة والمستشارين يعينون بمعرفة مطارنة وعقّال كلتا الطائفتين[14] وقد حدد شكيب افندي صفات اعضاء المجلسين ورسم طريقة ممارستهم لمهامهم بما يلي:” يجب ان يتمتع كل عضو بالنزاهة والاخلاص ، وان يواظبوا على وظائفهم دون انقطاع، ويجتهدوا ان يكونوا على اتم الوفاق فيما بينهم وبين قائمقام كل منهم وان ينظروا في دعاوى ابناء مذهبهم ويفصلوا بها بالنزاهة والانصاف. واذا ثبت على احدهم انه سلك سلوكا مخالفا للمهمة الموكلة اليه وجب طرده والعمل على تعيين بديل منه…”[15]

  الى اي مدى ارست تنظيمات شكيب افندي اسس دولة لبنان الحديث؟

لست ادري اذا كان يصح اعتبار جبل لبنان انذاك دولة بالمعنى القانوني والحصري، ومع ذلك فان تلك التنظيمات حوت مبادئ دستورية حقيقية.

1 – فقد وضع لأول مرة نظام مكتوب لجبل لبنان اسس لنوع من دستور اعاد الوحدة الى الطائفة وللمرة الاولى على اساس دستوري وليس على اساس عرفي مذهبي او طوائفي عملا باحكام العصور الوسطى بجعل الطائفة يحكمها احد ابنائها.

2 – لقد اعترف العثمانيون ولأول مرة بحقوق الطوائف الدستورية عمليا وليس نظريا كما جاء في خطي شريف كلخانة عام 1839، وساوى ايضا بين الطوائف، وهي رؤية عثمانية جديدة بل متطوّرة في شرعة الحكم تتعارض بنيويا مع المفهوم العثماني السائد الذي كان يحصر مذهب الحكام باهل السنةّ .

3 – انشأ ما يشبه مجلس للسلطة الاجرائية برئاسة القائمقام، لامس جوهره صلاحيات مجلسٍ وزاري، لأن الصفة التقريرية لم تعد محصورة بشخص القائمقام انما باعضاء المجلس مجتمعين، وهي خطوة دستورية ديمقراطية حقيقية فيما لو مورست فعليا.

4 – اعترفت تلك التنظيمات بحق الاختلاف بين طائفة وأخرى، والقبول بهذا الاختلاف ومراعاته من اجل صون التعايش السوسيولوجي والدستوري، مما يعني انها اسست لقبول رأي الاخر ومناقشته، وبالتالي عملت على تطوير صيغة العيش المشترك.

5 –تميّز تنظيمات القئمقاميتين ببروز مؤسسة القضاء المستقلة، والخارجة عن سلطة القائمقام او اي حاكم آخر، ففصلت بين السلطات، وجعلت كل واحدة مستقلة عن الاخرى؛ وهي الى ذلك حدّت من هيمنة الاقطاعيين وتدخلاتهم، ضمنت حقوق المواطنين.

 6 – يمكن اعتبار تركيب مجلس القائمقامية نوعا من فدرالية الطوائف التي ارتضت بالاجتماع السياسي التعاقدي الذي يكفل دستوريا حقوق الطوائف والمذاهب من دون الافساح في المجال لهيمنة او امتياز طائفة على اخرى.

7 – من المؤسف ان تلك التنظيمات شددت على دور الاعيان الذي كان الامير بشير الثاني قد حدّ من فعاليته ورفع من شأن العامة مرسيا نوعا من التوازن الاجتماعي. فاسست من غير قصد لانفجار الحرب الطائفية الثانية.

8 – اعطت رجال الدين دورا فعالا بل محوريا في انتخاب ممثلي الطوائف، واذا كان الانتخاب عملية ديمقراطية، فانه تنافى مع تطلعات العامة التي وجدت فيه اعادة للصيغة القديمة المبنية على التآلف بين الاعيان ورجال الدين.

9 – لم تلحظ التنظيمات اي دور اساسي اداري او سياسي للأمراء بل اعتبروا من الاعيان، ودليلنا على ذلك خلو اسماء اعضاء القائمقاميتين من اي امير[16]، وهي خطوة ايجابية على صعيد المساواة.

10 – اوجبت على المجالس النظر الجماعي في الامور المعروضة عليها، فصار الاطلاع على مجريات الامور في الجبل واضحة للجميع، وبالتالي بات تلافي الخلل الامني قبل استفحاله ممكنا اذا صفت النوايا.  

11 – اناطت بوالي صيدا العثماني تعيين اصحاب المناصب ومراقبة الحكم، فصار مسؤولا عن تطوّر الاوضاع في الجبل، وما عاد ممكنا للدولة العثمانية، تجاه الدول الاوروبية الكبرى، التملص من سؤوليتها عن تردّي الاوضاع فيه..

   فعلى رغم كل ذاك التحديث الدستوري التعاقدي الذي كفل وحدة الطوائف، وأسس فعليا لقيام نظام حكم حقيقي تضامني فدرالي ينبض بركائز ديمقراطية متعددة، نتسأل لماذا فشل نظام القائمقاميتين، او بالحري لماذ حصلت الحرب الطائفية الثانية؟

فهل الفدرالية نظام سيّء، ام ان عقلية الاعيان انذاك كانت اعجز من ان تستوعب آلية التطوّر؟ لأنهم جهدوا لاستعادة حقوقهم بل سلطاتهم التي كان تخطاها التطور السياسي والعقاري والفكري، من دون التبصر بالنتائج.

فعلى الرغم من ان تنظيمات شكيب افندي خصّت الاعيان بمنزلة عالية فانهم رفضوا قبول التطور المؤسسي، وظنوا ان بامكانهم اعادة الزمن الى الوراء، فعندما اقترحوا الامير احمد ارسلان قائمقاما جعلوه يوقّع عهدا بانه اولٌ بين متساوين، مما كان يعني العودة للعمل بالميثاق الشهابي في فترة كانت الاحداث اقوى من ان تحل بالاعراف القديمة. فالميثاق الشهابي كان عاجزا عن مواكبة الاحداث المتفاقمة والمتسارعة وعن استيعابها اوحلها. ولما  عزل احمد وعيّن ابنه امين مكانه رفض مقولة الاعيان متذرعا ان الباب العالي عينه من دون استشلرة الاعيان، مما ادى الى انقسام الدروز على انفسهم.

    ولم يكن حال الموارنة بافضل اذ انقسموا بدورهم على انفسهم: فصار آل ابي اللمع فريقين واحد ايد الامير بشير عساف، والآخر الامير بشير احمد، وزاد في الامر سوءا مطالبة آل الخازن باسترداد ما كان أخذه منهم الامير بشير الثاني متوائمين مع الطرح الدرزي اي العودة الى نظام الاعراف، ناهيك بظهور آل كرم في الشمال منافسين للعائلات التقليدية.

    وعلى ذلك، لم يفشل نظام القائمقاميتن، كنظام مؤسسي، ولم يفرز مذابح جديدة في الجبل، بل ان الرؤية المتخلفة للأعيان عند كلا الفريقين المسيحي والدرزي هي التي ادت الى قيام الحرب الطائفية الثانية، لأنهم عجزوا عن استيعاب عجلة التطوّر ورفضوا الاعتراف بالحركية الزمنية، بل حتى بالتطوّر البطيء.  ولم يدركوا ان العامة لن تستمر ابدا في خدمتهم غير آبهين باختلال توازن الملكية العقارية التي كانت باستمرار لصالح العامة التي دأبت تستل نفوذهم. فشكّل تعنت الاعيان السبب المباشر للحرب الطائفية الثانية.

   وزاد بالامر سوءا عدم استيعاب الاعيان ابعاد ثورة طانيوس شاهين عام 1858 المطالبة بالجمهورية – حكم العامة- التي بدأت في كسروان كثورة اجتماعية لأنصاف العامة بالاشتراك بالحكم، لأن الاعيان تعاموا عن تطوّر اوضاعها غير آبهين بحيازتها ملكيات عقارية مهمة، وغير واعين للتطوّر الفكري الناتج عن نشوء المدارس، ومتخلفين عن رؤية الدوافع الحقيقية للعاميات على المستويين السياسي والسوسيولوجي؛ بدءا بعامية 1821 وانتهاء بعامية 1840، واعتبروها حركات ظرفية. ولم يدركوا خطورتها على اوضاعهم وامتيازاتهم الا عندما انتقلت الثورة الى الشوف طلبا لمؤازرة عامته الدرزية والمسيحية. عندئذ حوّلوها الى فتنة طائفية سنة 1860 حفاظا على اوضاعهم. واعمى التعصّب الطائفي العامة عن حقوقها ومطالبها وعن هدف الثورة الاساسي بعد ان طواطأ العثمانيون مع الدروز للقضاء على المد الماروني الديمغرافي والاقتصادي والفكري والسياسي.

وعليه، تبيّن ان الحكم الذاتي في الجبل ضمن صيغة التعايش التعاقدي الدستوري لم يتم استيعابه بشكل حقيقي بسبب تخلّف فكر الاعيان عن ادراك القيّم الدستورية، والتطور السوسيولوجي، وازدياد التعصّب الطائفي، فتصادمت دمويا طوائف الجبل الواحد سعيا وراء المكاسب. ولم يدرك لا الدروز ولا المسيحيون دقة الظرف، واستقوى كل منهم بالخارج حتى تدمّرت البنية الداخلية على المستويات كافة، مما يعني ان القصور في الوعي الذاتي من جهة، والجماعي من ناحية ثانية جاء كارثيا.

   ومنعا لتفاقم الامر كان لا بد من ايجاد صيغة دستورية أخرى تأخذ بالاعتبار بنية القائمقاميتين الدستورية وتُطوّرها، وتفرضها على الفرقاء المتنازعين، فخسر اللبنانيون حكمهم الذاتي لصالح حاكم اجنبي فرضته الدول الاوروبية الكبرى بالاشتراك مع الدولة العثمانية، فكان نظام المتصرفية.

  2– نظام المتصرفية والتحديث: أقرّ بروتوكول 1861 بالمجتمع التعددي في الجبل، وانطلقمن وحدة الطائفة فجعلها اساسا للتعاقد الدستوري، ومنطلقا للتنتظيم الاداري والقضائي. فصارت وحدة قائمة بذاتهايتعاطى ابناؤها فيما بينهم على المستويات كافة، وتعيش جنبا الى جنب مع الطوائف الاخرى وتتعاطى معها سوسيولوجيا واقتصاديا بطريقة تتكامل فيها الدورة الاقتصادية، وتستقر الحياة الامنية، وتتحفّذ الحالية السياسية نحو الافضل. وقد يكون من هذا المنطلق قسّمت المادة الثالثة من القانون الاساسي الجبل الى ست مقاطعات ادارية هي:

1″ – الكورة…الآهلة بالروم الارثوذوكس، ما عدا بلدة القلمون…وكل سكانها تقريبا من المسلمين.

2 – الجهة الشمالية في لبنان، ما عدا الكورة حتى نهر الكلب.

3 – زحلة وما يتبعها من ارض.

4 – المتن بما فيه ساحل النصارى واراضي القاطع وصليما.

5 – الارض الكائنة في جنوب طريق الشام حتى جزين.

6 – جزين واقليم التفاح.”

   ” ويكون في كل من هذه المقاطعات مأمور اداري يعيّنه المتصرّف، ويختار من الطائفة الغالبة، سواء بعدد نفوسها او باهمية املاكها.”

وعملا بالمادة الخامسة قُسّمت المقاطعات ” الى نواح…ولا يكون فيها ما امكن الا جماعات متجانسة من السكان. وتقسم النواحي الى قرى…ويكون في كل ناحية موظف يعيّنه المتصرف بناء على اقتراح مدير المقاطعة. ويرأس كل قرية شيخ ينتخبه الاهلون ويعيّنه المتصرف. وفي القرى المختلطة يكون لكل عنصر كافي العدد من السكان شيخ خاص لا شأن له الا مع ابناء مذهبه.” فتكرس بذلك حكم الطائفة الذاتي فيالشؤون الحقوقية والامنية للطائفة.

الجهاز الحاكم” يتولى ادارة جبل لبنان، بموجب المادة الاولى، متصرف مسيحي ينصّبه الباب العالي ويكون مرجعه اليه رأسا، ويعطى هذا الموظفالقابل للعزل كل حقوق السلطة التنفيذية، ويسهر على حفظ الامن العام في كل انحاء الجبل، ويحصّل الاموال الاميرية، وبمقتضى الرخصة التي ينالها من لدن الحضرة الشاهانية ينصّب تحت مسؤوليته مأموري الادارة المحلية، وهو يولّي القضاة ويعقد المجلس الاداري الكبير، ويتولى رئاسته، وينفّذ الاحكام الصادرة عن المحاكم…وكل عنصر من عناصر سكان الجبل يمثّله لدى المتصرف وكيل يعيّنه الكبراء والوجهاء في طائفته.”

   وتألف المجلس الاداري الكبير بموجب المادة الثانية من 12 عضوا بالتساوي بين الطوائف والمذاهب: 2 عن كل من: الموارنة، والكاثوليك، والارثوذكس، والدروز، والسنة، والشيعة. و” يكلّف هذا المجلس توزيع الضرائب، والبحث في ادارة موارد الجبل ونفقاته، وبيان آرائه الشورية في المسائل التي يعرضها عليه المتصرف كلها.” وهو الى ذلك يشابه دور المجلس النيابي اذ انيطت به الشؤون التشريعية.

” ويكون في كل مقاطعة مجلس ادارة محلي مؤلف من ثلاثة اعضاء الى ستة، يمثّل عناصر السكان ومصالح الملكية العقارية في المقاطعة…وعليه ان ينظر قبل كل شيء في الامور القضائية والادارية ويسمع مطالب الاهلين، ويبلغ المعلومات الاحصائية اللازمة لتوزيع الضرائب في المقاطعة. ويعطي رأيه الشورى في كل المسائل المتعلّقة بالمنافع المحلية.” مما جعل هذا المجلس شبيها بمجلس نيابي بسبب دوره التشريعي والرقابي.

   القضاء: اما بنية القضاء فقد نظمتها المادة السابعة:” يكون في كل ناحية قاضي صلح لكل طائفة، ومجلس قضائي ابتدائي من اثني عشر عضوا بنسبة اثنين لكل طائفة من الطوائف الست المذكورة في المادة الثانية، ويضاف اليهم عضو من المذهب البروتستانتي او الاسرائيلي كلما كان لأحد من هذه المذاهب مصلحة او دعوى، وتكون رئاسة المجالس القضائية لكل من اعضائها بدوره كل ثلاثة اشهر.” الامر الذي يؤكد على مساواة حقيقية ضمن فدرالية الطوائف، بل ممارسة ديمقراطية.

   اما المحاكم فتتم بموجب المادة التاسعة، على درجات:” وهي ان ينظر في دعوى المخالفات قضاة الصلح، وفي الجنح المحاكم الابتدائية، وفي الجنايات مجلس المحاكمة الكبير…”

” كل اعضاء مجلس الادارة بلا استثناء، وقضاة الصلح ايضا يتم انتخابهم ويعيّنهم رؤساء طوائفهم بالاتفاق مع كبراء الطائفة، وتنصّبهم الحكومة. اما اعضاء المجالس الادارية فيجدد انتخاب نصفهم كل سنة، ويجوز تجديد الانتخاب للذين انتهت مدتهم.”

  وبما ان النظام لم يكن جامدا، بل خاضعا لمقتضيات التطوّر والواقع فقد ادخل على نظام البروتوكول عام 1864 تعديلات شكلية لم تطل بنيانه الاساسي، ولعل ابرز التعديلات تبنت مبدأ النسبية في التمثيل الطائفي في مجلس الادارة فصار اعضاؤه على الوجه الآتي: 4 موارنة، 1 كاثوليك، 1 ارثوذكس، 3 دروز، 1 شيعي (متوالي)، و2 سنة.

   وعليه: يمكن الخلوص بان هذا النظام افرز  بعض الخصائص البنيوية المبدئيةالتالية:

1 – أكّد على وحدة كل طائفة بمعزل عن توزعها الجغرافي، وعلى دورها في مختلف الميادين السياسية والادارية والقضائية، فكانت المرجع الاساسي في التعيين في كل المناصب حتى الوضيعة منها.

2 – ثبّت دور رجال الدين في المجتمع والسياسة والقضاء فاعطائهم الحق الاساسي في انتخاب ممثلي الطائفة في الحقول كافة، ودورا قياديا ضمنيا.

3 – وضع الاعيان في المرتبة الهرمية الاجتماعية الثانية بعد رجال الدين، وأكّد على دورهم في اختيار الموظفين.

4 – اضعف دور رجال الاقطاع لصالح الوظيفة العامة التي صارت تختصر الوجاهة والقيادة، فعزّز المؤسسات الى حد ما على حساب الاشخاص، مراعيا فيها هرمية ادارية في منتهى الدقة والتنظيم…

 5 –  انطوى البروتوكول على ثغرة اساسية اذ لم تعط مواده العامة اي شأن، بل لم تذكرهم، في حين شددت على دور الاعيان، الذين قد يكون بينهم بعض العامة من المثقفين، او الذين حازوا عقارات مهمة، عاكسة بذلك الرؤية العثمانية الاجتماعية والسياسية، وبالتالي اقرت التفاوت الطبقي في مجتمع الجبل وعززذزته .

6 – اشركت بنود النظام الاساسي كل الطوائف في حل المعضلات الكبرى من خلال المجالس: مجلس الادارة الذي روعي فيه مبدأ النسبية، ومجلس المقاطعة، ومجلس القضاء. مما اسس لتطبيق نوع من  الديمقراطية في نظام الجبل الاداري.

8 – جعل المتصرف حكما في ظل المجلس، مما يعني: بقدر ما يكون ممثلو الطوائف واعين للأمور والقضايا المعروضة عليهم، ويجهدون بصدق لحلّها بالمقدار عينه يمكنهم استبعاد التدخل الاحادي للمتصرف.

9 – لم يجعل هذا النظام من المتصرّف المرجع الاعلى للجبل بل ربطه بوالي صيدا، ومن خلاله بالصدر الاعظم، فالسلطان. وربط ضمان تنفيذ مواده بالدول الكبرى. وبالتالي اوجد عدة مستويات من المراقبة لحسن التنفيذ.

10 – تمّ الفصل بين السلطتين الاجرائية والقضائية، وهذا منتهى التحديث في شرق كانت تسيطر عليه نظم بالية.

11- عزّز البروتوكول اعتماد اللامركزية الادارية من طريق مجالس المقاطعات مرسيا حوافز للتنمية ولوعي الذات الاجتماعية والانمائية في كل مقاطعة، وبالتالي التنافس الايجابي بين المقاطعات.

12-  شددت مواد النظام الاساسي على وحدة كل طائفة ضمن المجتمع المتنوع، وعلى اعطائها استقلالاً ذاتيا، وأكد في آن على تآزر داخلي بين الطوائف من اجل حسن انتظام الامور المشتركة وادارة شؤون البلاد، والحد من تدخل المتصرف. وباختصار انشأ فدرالية الطوائف واعترف بالمجتمع التعددي وبخصوصية كل طائفة، وابقى على وحدة الارض والدولة معا، فما عاد من حاجة الى تقسيم الارض والحكم.

13 – شكّل البروتوكول خطوة على طريق التطور في نظام الحكم، ونموذجا للتآلف بين الجماعات في المجتمع التعددي. فعلى رغم ارتباط المتصرف بالدولة العثمانية، واجتهاد معظم المتصرفين لتنفيذ سياستها، وعلى الرغم ايضا من سوء ادارة عدد وافر منهم وجشعهم للمال وانتشار الرشوة في عهودهم، فان عهد المتصرفية يعتبر من ازهى العهود التي عرفها لبنان في مختلف الحقول.

   واذا كان في التاريخ عبرا ومواعظ: نطرح سؤالا مركزيا في مقاربة لواقعنا الحالي: هل نحن في لبنان، على الرغم من حصولنا على الاستقلال الناجز، بحاجة الى بروتوكول جديد يعيد تنظيم اجتماعنا السياسي فيحصر تطلّعنا الى الداخل اللبناني فقط من دون اي ارتباط بالخارج مهما بلغت درجة قرابته منا، ومهما اعتقدنا انه يأخذ مصالحنا بعين الاعتبار.

 سانهي بحثي مستعيرا خاتمة كتابي “المماليك والعثمانيون “الصادر عام 1995 لأقول:” انها ثوابت تاريخية، معادلات لا تتبدل، صراع ابدي على السلطة، تلك السلطة الاعصار لا ترحم ولا تشفق، جشعة ابدا للدماء، شرهة دائما للضحايا، لا ترعى حرمة دين وان كان دينها، او عرق، ولا تميّز بين اخ وعدو، تجتاح كل من يعترض سبيلها. هكذا ولدت ولن تتبدل، وتستمر الشعوب الضعيفة تدفع ثمن صراعاتها وصراعات الآخرين: زعماء محليين او اجانب، لافرق، تلك الشعوب ستستمر ابدا وقود نار التنافس املاً بانبلاج فجر جديد من العدالة الاجتماعية.

في 30 – 1 – 2005                             انطوان ضومط  


[1] – المقدسي، احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم، تحقيق محمد مخزوم، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1987، ص134

[2] – المصدر السابق، ص160، 162

[3] – الهمذاني، احمد بن محمد المعروف بان الفقيه، مختصر كتاب البلدان، تحقيق محمد مخزوم، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1988، ص108

[4] – الحموي، ياقوت، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1968، ص131

[5] – المسعودي، احمد بن علي، التنبيه والاشراف، بيروت، 1968، ص131

[6] – اليعقوبي، احمد بن واضح، كتاب البلدان، طبعة دار صادر، دون تاريخ، ص327

[7] – لمزيد من الاطلاع انظر: شرف، جان، الايديولوجية المجتمعية، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1996، ص378 وما بعد

[8] – المرجع نفسه، ص417

[9] – ابو شقرا، حسين غضبان، الحركات في لبنان الى عهد المتصرفية، بيروت، دون تاريخ، ص8

[10] – شرف، الايديولوجية، ص379-380

[11] ابو شقرا، الحركات في لبنان، نقلا عن جان شرف، ” صيغة التعايش الدستوري في لبنان” حاليات، العدد 33، السنة 1984، ص30

[12] – شرف، صيغة التعايش الدستوري، ص33

[13] – مجموعة المحررات السياسية عن سوريا ولبنان، المجلد الاول، من سنة 1840الى 1860، تعريب فيليب وفريد الخازن، مطبعة الصبر، جونية، 1910، ص219

[14] – المصدر السابق، ص 219-220

[15] – المحررات السياسية، ص219

[16] – انظر قائمة اسماء اعضاء القائمقاميتين في المحررات السياسية، ص220-221

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *