محمد بن جرير الطبري 225-310/840-922

 اولا: حياته ممؤلفاته

1 – حياته : ولد الطبري بآمل قصبة اقليم طبرستان عام 225/840، عهد به والده، وكان ميسور الحال، الى علمائها لتهذيبه وتدريسه. بدت عليه معالم النجابة منذ نعومة اظفاره: اذ حفظ القرآن وله من العمر سبع سنين، وصلٌى بالناس  بعمر الثمانية، وكتب الحديث بسن التاسعة. وإشباعاً لشغفه بالعلم قام بعدد من الرحلات: بدأها بالرّي ومدن بلاد فارس، ثم توجه الى العراق وحط رحاله في البصرة، فواسط ، ثم الكوفة ومنها الى بغداد، وفيها جميعها كان يحضر حلقات العلماء. ثم ترك العراق قاصدا مصر وقبل الحلول فيها مرٌ على بلاد الشام وقصد بيروت حيث لقي العباس بن الوليد البيروتي المقرىء[1]. وصل الى الفسطاط عام 253/867 ثم عاد الى الشام مجدداً فإلى مصرعام 256/870 واينما حل كان يقصد العلماء والفقهاء ينهل من علومهم. اما اشهر الذين اخذ عنهم فهم: الرازي، والدولابي، وابن حميد، ومحمد بن العلاء الهمذاني، وقد كتب عن كل من الاخيرين ما يزيد على المائة ألف حديث «حتى انتهت اليه الرئاسة في التفسير والفقه والتاريخ » على حد تعبير شاكر مصطفى[2]. وندب الطبري لتأليف كتاب في الفقه لأنه وجد الناس حوله تشعّبوا فرقا كثيرة، ولتخليص الفقه من الاسرائيليات.[3] ثم عاد الى بغداد فطبرستان، فبغداد مجدداً حيث استقر وشرع في تأليف كتبه، وقد اغفل في كتابه « اختلاف الفقهاء » ذكر احمد بن حنبل، ولما سئل عن السبب اجاب: كان ابن حنبل محدثاً ولم يكن فقيها، ما اثار عليه الحنابلة وكان عددهم كثيرا يوم ذاك في بغداد فهاجموه في المسجد ثم في داره. وتوفي الطبري في بغداد يوم 26 شوال 310/ 16 شباط 922 تاركا عدداً وافراً من المؤلفات.

2 – مؤلفاته :ترك الطبري العديد من المؤلفات بعضها لم يكمله، كما ينسب اليه بعض الكتب، اما اشهر مؤلفاته فهي:

  • تاريخ الرسل والملوك، ويسميه بعضهم تاريخ الامم والملوك
  • جامع البيان في تفسير القرآن
  • تهذيب الآثار وتفصيل معاني الثابت عن رسول الله من الاخبار
  • اختلاف الفقهاء
  • تبصير اولي النهى ومعالم الهدى
  • لطيف القول في احكام شرائع الاسلام، وفيه يشرح مذهبه في الفقه
  • الخفيف في احكام شرائع الاسلام

  وقد ذكر ياقوت الحموي عددا من مؤلفات الطبري لم تصلنا[4].

   ما يهمنا من هذه المؤلفات العديدة هو كتاب تاريخ الرسل والملوك، وهو قسمان: الاول منذ بداية الخلق، والثاني التاريخ الاسلامي حتى سنة 302/914. استهل القسم الاول ببداية الخلق، وابليس، وآدم، ثم تحدث عن الانبياء بدءأ من نوح وانتهاء بالرسول محمد. وأرّخ بعد ذلك لتاريخ الفرس منذ منوشهر حتى كسرى ابرويز، ثم بني اسرائيل، وملوك الروم ، فملوك اليمن، وانهى هذا القسم باجداد الرسول.

     اما التاريخ الاسلامي فقد تناول فيه السيرة النبوية، فالعهد الراشدي، ثم الاموي، فالعباسي حتى سنة 302/914، واقتصرت موضوعاته على التاريخ السياسي والعسكري، وقلما نجد فيه معلومات اجتماعية اواقتصادية.

ثانيا– منهجه :

أ – نظرته التاريخية : من العسير فهم نظرة الطبري الى التاريخ بمعزل عن ثقافته المشبعة بالعلوم الدينية من فقه وتفسيروحديث، التي اسبغت على شخصيته هالة خاصة، وربما مميزة. فقد كان رجل دين بامتياز جهد لوضع مذهب فقهي خاص به، اذ لم تكون إلتفاتته الى التاريخ الا من هذا المنظار والهدف. فالتاريخ محكوم اساساً بارادة الآهية تسيّر احداث الكون، وعلى الحكام ولا سيما الخلفاء ادراك هذه الحقيقة، فبقدر ما يسعون لخدمة الله بالقدر نفسه يجازون خيرا، وكلما اخفقوا في هذا التوجه تصيبهم النوازل.

   ان الكون، من المنظار الاسلامي، متسلسل الحلقات، كل دائرة من دوائره تكمل التي تليها، وللانبياء شأن كبير في ضبط جموح الحكام وارشاد الناس. من هذا المنطلق أرخ الطبري « تاريخ الرسل والملوك » فالانبياء، من حيث هم مقدسون وهداية للناس، ضرورة ماسة لهداية البشر وقيادة الحكام. لذلك كانت عودة الطبري لبداية الخلق وتدوين تاريخ الانبياء والشعوب التي ارتبطت بهم. فالهدف الاساسي هو تاريخ الانبياء ما جعل تاريخ فترة ما قبل الاسلام يدور حولهم بالدرجة الاولى، وبالدول التي ارتبطت بهم بالدرجة الثانية، على رغم المعلومات الدقيقة التي اوردها حول تاريخ الفرس والروم. محدداً بذلك نظرته الى الكون والتاريخ فكل نبي كان يمهد لمن سيليه، تلك هي المشيئة الالهية، التي ستختم الدوائر المذكورة بالرسول محمد وبرسالته السماوية « الاسلام » الذي هو « الدين عند الله ». ما يعني أنه قلّد نظرة ابن اسحق حول وحدة الفكر الديني، معتبرا ان الديانات السابقة للاسلام ليست الا مقدمة له. وتقتضي هذه النظرة وحدة الفكر التاريخي ايضاً، لأنها مبنية على المعطى السياسي الذي لا يفهم الا من خلال ارتباطه بالديني المتأثّر بدور الارادة الالهية بحياة البشر. ممّا جعل تأريخ الطبري يتمحور اساساً حول التاريخ السياسي والعسكري من دون اعطاء البعدين الحضاري والاجتماعي دوراً يذكر، لأن الاحداث السياسية تسير بمشيئة الاهية، وتعبّر عن ارادة الله في خلقه تبعاً لخضوع كل شعب من الشعوب، التي أرخ لها الطبري، لتعاليم النبي الذي ارسله الله له. وقد جاءت هذه النظرة شبه عالمية لأن الطبري اهمل التأريخ للشعوب التي لا انبياء لها ممن جاء ذكرهم في القرآن كالزنوج والهنود والصينيين وغيرهم. وربّ سائلٍ وهل كان للفرس نبي ورد ذكره في القرآن؟! قد يكون الجواب في أن الاسلام اعتبر الزرادشتية اصحاب كتاب، فضلاً عن ان معظمهم دخل في الاسلام في ما بعد وبالتالي يجب دراسة تطور تاريخهم عن طريق المقابلة بين « الجهل » و « دين الحق ».

   وجعلته هذه النظرة يخلّ بالتوازن في فترات التاريخ السابق للعهد الاسلامي بحيث قصرها على الانبياء ومن يدور في فلكهم، وعلى الساسانيين وتاريخ اليمن من دون ان يولي الشعوب الاخرى اهتماما، علما ان مؤرخين سبقوه الى كتابة تاريخ عالمي كاليعقوبي، فجاءت نظرته العالمية، من هذه الزاوية، ضيقة ربما بتأثير من مفاهيمه الدينية الصارمة لانه لم يبذل جهداً كافياً للوقوف على تواريخ شعوب اخرى كان يمكنه الوصول اليها.

    اما نظرته الى التاريخ في العصور الاسلامية فهي استمرار ببعض وجوهها للتاريخ السابق الذي شكّل المقدمة للسيرة النبوية، التي اعطت الكون انطلاقة جديدة ترضي الله، ما جعله يركز على جوهرها، فهي المحور الاساسي في تاريخ المسلمين، والنبراس الذي يجب ان يحتذى. وان التلازم بين السياسي والديني عند الطبري جعل الاحداث السياسية تتصدر كل الحركة التاريخية وتختصر المستجدات الاخرى من اقتصادية واجتماعية وحضارية بوجه عام. والطبري بحكم عمله في التفسير والفقه، لا بل كونه فقيها ومفسرا اعتبر الاجماع ركنا اساسياً للمسلمين، فمن دونه لا وحدة دينية، وبالتالي لا وحدة سياسية. من هنا جاء تركيزه على وحدة السلطة ومركزيتها، خصوصا لان الحكام على اختلاف مراتبهم تولّوا السلطة بارادة الاهية ثوابا او عقابا للمسلمين، فيجدر التركيز عليهم وجعلهم محور الاحداث أكانوا سيئين ام فاضلين، لأن في التاريخ عظات وعبرا، ولأن الاجماع وحده يوحد المسلمين ويدفعهم لتخطي كل العقبات التي تواجههم. وعلى هذا، جعل الخلفاء يتصدرون الحركة التاريخية، على الرغم من ضمور دورهم في عصر الطبري، فالاحداث السياسية والعسكرية مرتبطة بهم ومنطلقة منهم، وشكّل العراق عموما، وبغداد خصوصاً، نقطتها المحورية. اما الاحداث الجانبية، على اهميتها بنظرنا اليوم، فلم تحتل الا مركزأ ثانويا في الرسل والملوك كالدويلتين الطولونية والاخشيدية وغيرهما. في حين احتل القرامطة فسحة مهمة فيه لأنهم كانوا، بنظر الطبري، عامل قسمة وتمزيق للحالة الاسلامية، فركّز على اعمالهم التدميرية على المستويات السياسية والاخلاقية الدينية. وقد يكون الحكام، من وجهة نظره، تسنّموا السلطة بارادة الاهية فاولاهم وحدهم دورا محورياً عليهم، ولم ينل الشعب سوى نصيب ضئيل جداً من اهتمامه معتبراً ان لا دور لهم في تطور الاحداث السياسية. وباختصار يعتبر الطبري مؤرخ السلطة السياسية خلفاء وولاة وعمالاً وقادة عسكريين بامتياز، فهم وحدهم لبّ الحركة التاريخية. ولم يحتل التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والحضاري عموما منزلة تذكر في تاريخه الا في بعض لمحات او اطلالات باهتة بين الحين والآخر تتراءى لنا في معتركات الاخبار السياسية والعسكرية. ولعلّ مرد ذلك الى انغلاقه على ذاته وكتبه، وانصرافه الى مذهبه الفقهي، وعزوفه عن الزواج وتأسيس عائلة، والى نظرته المحورية للخلفاء من حيث قيادتهم للأمة، ويؤيد هذا الرأي موقف الطبري المقل بالتأريخ لأركان الحكم الآخرين ولا سيما الوزراء بحيث اطل عليهم اطلالة سريعة جدا لا تتناسب مع ادوارهم البالغة الاهمية في عصره. وعليه، يمكن الاستدلال ان ابعاد الدولة كانت مشوشة في رؤية الطبري للتاريخ بحيث اهمل الحديث عن القضاة والنظام الاداري عموما، وبالتالي جاءت نظرته التاريخ مسطحة افقية على رغم احاطته الشاملة بالاحداث، التي عززها منهجه الحولي.

ب – مصادره: وهي بدورها تقسم الى قسمين: ما قبل الاسلام والتاريخ الاسلامي. فقد استمد معلوماته عن التاريخ ما قبل الاسلام من المصادر المتوفرة: ففي ما يتعلق بالانبياء اعتمد على سيرة ابن اسحق، وما تركه وهب بن منبّه فضلاً عن كتب التفسير. واستقى معلوماته عن تاريخ الفرس من الكتب المترجمة، ومن الوثائق التي كانت محفوظة في كنائس الحيرة وغيرها. واخذ تاريخ الروم اوالبيزنطيين عن الكتب المترجمة عموماً، واخبار اليهود من الكتاب المقدس وروايات يهودية. اما اخبار تاريخ العرب في الجاهلية فقد اخذها عن كتب الاخباريين الذين تناولوا هذا الموضوع ولا سيما وهب بن منبه، وابن اسحق، وهشام بن محمد الكلبي.

   واستمد التاريخ الاسلامي من كتب الاخباريين ونكاد نقول من مؤلفات كل الاخباريين الذين محضهم ثقته التي بناها على الثقة بالاسناد، مثل: محمد بن شهاب الزهري، وابن اسحق، وسيف بن عمر، وعوانة بن الحكم، والواقدي، والمدائني، والهيثم بن عدي. كما اعتمد على المؤرخين الذين سبقوه واولئك الذين عاصروه. فجاءت مصادره غنية جدا شديدة التنوع ومستقاة اجمالاً من مناطق الاحداث، وقد تكون الاغنى والاوسع والاشمل للقرون الهجرية الثلاثة الاولى.

ج- طريقةالمعالجة: عالج الطبري مادته التاريخية من منطلق علم الحديث، فأحل الاسناد مركز الصدارة، من دون جرح وتعديل بالرواة على طريقة المحدثين مكتفياً بثقته الشخصية بالراوي المبنية اجمالاً على قوة اسانيده فمثلاً اخذ عن الواقدي في الاخبار التاريخية واهمله كثيراً في السيرة النبوية. اما مضمون الرواية فلم يخضع، عموما، الى اي جرح اوتعديل او نقد آخر. وقد يكون مرد ذلك الى امرين:

1 – ايراده لمعظم الروايات المتوفرة ما كان يشكل نقداً ضمنياً لها.

2 – امانته التاريخية  وورعه الديني الذي دفعه لنقل الروايات كما هي كي لا يتحمل مسؤولية الحكم عليها، وهذا ما صرّح به في مقدمة كتابه: « وليعلم الناظر في كتابنا هذا ان اعتمادي في كل ما احضرت ذكره فيه على ما رويت من الاخبار، التي انا ذاكرها والآثار التي انا مسندها الى رواتها فيه، دون ما ادرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس الا القليل اليسير منه…فما يكون في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما ينكره قارئه، او يستشنعه سامعه من اجل انه لم يعرف له وجها من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، انما اتى من بعض ناقليه الينا، وانٌا ادينا ما أدي الينا. »[5]

     وعلى هذا، انتقى الطبري الروايات من منابعها وفق اسانيدها فقط لأن مضمون الرواية يزكّيه، قوة الاسانيد والثقة بمن استخدمهم، مفضّلاً السند الاكثر قربا من الحادثة. اما مضامينها، بما تحوي من صدق اواختلاس او دس، فلا اهمية لها ما دام راويها موضع ثقة. ولمّا كانت الرواية بحد ذاتها تتأثر احيانا بقوة الذاكرة او بضعفها، وبالميول والاهواء، وبالتالي لا يمكن الجزم بصحتها وصدق راويها وسلامة حواسه، رفع الطبري المسؤولية عنه واحالها على الرواة واقفاً خارج الرواية، لا بل خارج الاحداث تاركاً التثبت من صحة الرواية ونقدها لجهود مصادره ولمن سيأتي بعده . وبالتالي اقتصر عمله على نقل الاخبار من دون اتخاذ موقف نقدي منها الا احيانا قليلة بقوله :« والصحيح عندنا » او « الرواية الاولى اولى بالصحة » او « زعموا »[6].

   وقد جعله هذا الموقف من الروايات يورد كل ما وصل اليه منها، او على الاقل تلك التي اعتبر اصحابها موضع ثقة بطريقة قلّ حيادها، فتعددت الروايات حول الموضوع الواحد، لا بل حول جزء من الرواية الواحدة[7]، فتداخلت لا بل تضاربت في بعض وجوهها، وتشعّبت توجّهاتها، قاطعة السياق العام للخبر الرئيسي، اذ تعددت شخصياته ما جعل بعضها الثانوي يطغى على الشخصية الاساسية احياناً، فافتقر تاريخه الى الوحدة وارتباط السياق. وتحوّل الطبري بايراده عددا ضخما من الروايات وحياده التام ازاءها، الذي بلغ حد السلبية احيانا، الى اخباري يحاول الاحاطة بكلية الخبر من دون اعتماد افضليات في المصادر، وتالياً في متون الروايات. فشابهت طريقته هذه، على الاقل ظاهريا، اسلوب المحدثين، الذين صنفوا الاحاديث الى مستويات، من دون ان يصنّف هو الروايات التي اوردها للخبر الواحد الا نادرا. وعلى الرغم من عيوب هذه الطريقة فانها جعلت تاريخ الرسل والملوك مستودعاً هائلاً لروايات القرون الثلاثة الهجرية الاولى، مخلداً اصحابها ممن ضاعت مؤلفاتهم، وبالتالي حفظ لنا الذاكرة التاريخية للقرون المذكورة.

    وكانت اسانيده قوية جدا يعود معظمها لمن شارك او شاهد الحوادث خصوصاً في الفترة السابقة على عصره، واستخدم ايضا اسانيد مختصرة تعود الى اخباريين ثقاة عند الطبري كقوله:« قال الواقدي»[8] او « ذكر عن المدائني»[9]، او« قال ابومخنف » [10]وقد اعتمد هذا المنهج الصارم في كل مؤلفه باستثناء الاجزاء الثلاثة الاخيرة لأنه كلما اقترب من التأريخ لعصره كلما كان يوجز الاسانيد كاستخدامه صيغة المجهول:« قيل»[11] او« ذكر بعضهم»[12] او «وقال غير الهيثم» ليذكر رواية مختلفة او متعارضة في بعض وجوهها[13]. وبالتأريخ لعصره اعتمد على جهود غيره من دون ان يتجشم عناء التفتيش عن الاخبار بنفسه، واورد اخباراً من دون ذكر اسانيدها[14]، او قال «حدثني فلان او جماعة من اهل تلك الناحية»[15]. وشكل ايراده لهذا العدد الهائل من الروايات ميزة خاصة به لم نعهدها عند مؤرخ آخر، وهي _اي الروايات_ الى ذلك تتيح للمؤرخ الحديث التوغل في استقصاء الحقيقة التاريخية فاسحة له مجالاً اوسع لاعادة تركيب الماضي عن طريق مقارنة ما تركه الطبري بما كتبه معاصروه او من سبقوه كالبلاذري مثلا.

   وقد اعتمد ثلاثة مناهج في تأريخه: التاريخ حسب الموضوع، والنمط الحولي، والتراجم. فاستخدم الاول في الفترة السابقة لظهور الاسلام لصعوبة اعتماد النمط الحولي فيها خصوصا انه لم يكن للعرب تقويماً ثابتأً قبل عام 115ق.م.[16]. اما في التاريخ العربي والاسلامي فقد أرخ وفق النمط الحولي، ولم يكن الطبري رائد هذا المنهج اذ سبقه اليه، على ما يعتقد بعض المؤرخين، الهيثم بن عدي وغيره. وهذا النمط من التأريخ يفتت الحادثة بين سنة وأخرى، واحيانا في السنة عينها اذا تعدت الحوادث الشهر الواحد، او اذا جرت في الوقت عينه احداث متداخلة ممّا كان يدفع المؤرخ للحديث عنها جميعها بالتناوب، وبالتالي كان يفقد الاخبار عنصر الوحدة والتكامل بسبب العودة المتكررة اليها. ومع ذلك، فان هذا المنهج يسمح للمؤرخ بالرؤية الشمولية افقيا وعمودياًً، ذلك ان تداخل الاحداث على مستوى اقاليم الدولة كافة يتيح فرصة أكبر لاستيعابها. وان لم يكن الطبري رائد التأريخ الحولي فهو مؤسس تطويره إذ كان يفرد، في السنة التي يتوفى فيها الخليفة او احدى الشخصيات البارزة، ترجمة كاملة له يذكر فيها كل الحوادث التي جرت في عهده بشكل متسلسل وموجز[17]، ممّا كان يعيد اللحمة للحوادث بعد تمزقها، من دون ان يغنينا ذلك عن العودة الى دراسة الحوادث حين ورودها للمرة الاولى. وهذا ما قصدنا به المنهج الثالث اي التراجم الذي صار مع الطبري متلازما مع المنهج الحولي، وسيقلده مؤرخون عديدون.

    تقويم عام :نال الطبري الكثير من المديح والاستحسان كما من النقد السلبي فعدد له المؤرخون الكثير من الهنات، ولعل ابرز المآخذ عليه هي:

1– تأثرت نظرته التاريخية بالمشيئة الالهية، فابتعد عن التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والحضاري عموما فلم يعن بالادارة والقضاء والثقافة، بل حصر همٌه بخبرات الامة السياسية والعسكرية في دولة الخلافة في المشرق من دون ان يتطرق الى اوضاع المسلمين في بقية المناطق كالاندلس مثلاً.

2– جاء مفهومه للاجماع الاسلامي متمثلاً بالخلفاء وحدهم، وعلى الرغم من ضمور دورهم في عصره، ظلوا عنده يحتلون منزلة عالية، ولم ينل الوزراء، الذين مارسوا ادواراً اساسية، سوى صورة هامشية في تاريخ الرسل والملوك. وعلى رغم التفتت والتجزئة التي اصابت دولة الخلافة، فان الدويلات، التي نشأت بمباركة الخلفاء العباسيين، والتي مارست ادوارا فاقت احيانا شأن الخلفاء والقادة العسكريين المتسلطين عليهم وعلى كل الشؤون في العراق، بل شكلت احيانا كثيرة لب احداثه،لم تحتل سوى إلتفاتات باهتة جدا في تاريخه.

3– لم يبذل جهداً كافياً للتثبت بنفسه من الاحداث التي عاصرها، بل اعتمد فيها على جهود غيره، وقد جاءت الى حد موجزة، قياساً بالمراحل التاريخية السابقة. ويفسر شاكر مصطفى هذا الامر بقوله :« وقد يكون فهمه للتاريخ على انه مستودع خبرات الاجيال السابقة.»[18]

4– قبل الكثير من الاساطير والاسرائيليات في التأريخ للفترة السابقة للتاريخ الاسلامي من دون نقد خصوصا انه طبق في التاريخ الاسلامي منهج المحدثين على مصادره.

5- ان بعض هذه المأخذ مستمد ربما من قياس الحاضر على الماضي، الذي يفترض وعياً منهجياً متطوراً يستند الى رؤية شمولية للحوادث، وهو امر لم يكن متوفراً حتى في أواخر العصور الوسطى[19] إلا عند قلة من المؤرخين.

    وعلى الرغم من النقد الذي يوجه الى تاريخ الطبري خصوصا ان بعض المؤرخين افترضوا لعصره تطوراً مزعوماً لا يتناسب مع تطور التأريخ في القرن الثالث الهجري، منطلقين احياناً من مسلمات الحاضر. يبقى تاريخ الرسل والملوك احد ابرز منجزات المؤرخين العرب والمسلمين من حيث ان ذكره لهذا العدد الضخم من الروايات يشكل الذاكرة التاريخية السياسية والعسكرية للقرون الهجرية الثلاث الاولى، ولولاه لكان الكثير من حقائق التاريخ قد ضاع كما ضاعت كتب العديد من الاخباريين. وسيبقى فضل الطبري عميما على الاقل لتطويره منهج التأريخ الحولي، لأن المؤرخين استمروا يقلدونه قرونا عديدة.

   


[1] – عاصي(حسين)، الطبري، دار الكتب العلمية ، بيروت، 1992، ص 57

[2]  – مصطفى، التاريخ، ج1، ص 253

[3] – زيادة، قمم من الفكر، ص58

[4] – انظر حول مؤلفات الطبري:الحموي(ياقوت)، معجم الادباء، ج6، في اماكن متعددة، ص 424-449

[5] – الطبري(محمد بن جرير)، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار المعارف، مصر، 1969، ج1، ص 7-8

[6] – الطبري، تاريخ الامم والملوك، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1407ه، ج3، ص510

[7] – الطبري، طبعة دار الكتب العلمية، 3/466، 4/85/5/338

[8] – الطبري، طبعة دار المعارف، ج8، ص 261ونجد هذه العبارة في العديد من الاماكن، وطبعة دار الكتب العلمية، 3/424

[9] – نفسه ، دار المعارف، ج8، ص 489 وغيرها كثير

[10] – الطبري، الكتب العلمية، 3/447

[11] – نفسه، دار المعارف، ج8، 67، ودار الكتب العلمية، 4/50، 66

[12] – الطبري، دار المعارف، ج8، ص 82

[13] –  الطبري، دار المعارف، ج8، ص 104  ودار الكتب العلمية، 3/466 و4/85

[14]  – ج8، ص 598وج9، ص 29، 52، 71…

[15] –  الطبري، دار الكتب العلمية، 5/365

[16] -Ryckmans. J. L’Institution monarchique en Arabie méridionale avant l’islam, Louvain. 1951, p71

[17] – انظر مثلا :سيرة عمر بن الخطاب، ج4، ص 208-241 ، او سيرة عثمان بن عفان، ج4، ص 489 وما بعد، وسيرة المأمون (طبعة الكتب العلمية) 5/197-206

[18] – مصطفى، التاريخ، ج1، ص 260

[19] – انظر لاحقا دراستنا عن ابن طولون الدمشقي الذي توفي في القرن 16 وقد اعتمد منهج الطبري عينه ص 340 وما بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *