استاذي الكبير

ان نقولا زيادة المؤرخ والمفكر يعرفه ،بتفاوت، معظم رجال الفكر والثقافة في العالم العربي ورواد التأريخ في العالم. اما نقولا زيادة الانسان فكان حكرا على اهله واصدقائه وجلَهم من اعلام المعرفة والثقافة في كل ميادينها، وكان لكل منهم منزلة عنده احتفظ لنفسه بمعيار ترتيبها، ومن حسن حظي انني كنت من المحظيين المقربين منه، فاعتراني برحيله فراغ هائل رحت اسده بمناجاة صديقي الاعز .

بفقدك يا استاذي الكبير تفاعلت في حنايا روحي عواطف متنوعة؛ تآكلني الحزن وساد نفسي ضباب اسود حالك ضاق به صدري. وفي غمرة هذا الجو الكئيب استذكر جلستنا الاخيرة التي سبقت وفاتك باسابيع ثلاثة؛ وعلى رغم من انك كنت بكامل وعيك فقد اعتراني هاجس انها قد تكون جلستنا الاخيرة، تحدثنا فيها عن الايمان والدين وتأثيرهما على حياة البشر وسلوكهم. استذكرها باجلال واحترام، ودمعة خجولة تأبى التدحرج من مآقي عيني لاقول لك مودعا: هناك عند بلوغ روحك المشبعة بالايمان حدود الفجر الجديد، في حضرة الله، لم تتركني وحدي بل ذخّرتني بدروس وعبر وصور من الماضي ما زلت لا اعرف فيما اذا  كان استحضارها ستؤاسيني ام ستزيد في غمي اسى. تلك كانت محطات تنوعت مسالكها وعبرْتُها بمعيتك، وخزّنتها في اعماق ذاكرتي، استمد منها زادا في اجتيازي دروب الحياة المتعرجة، وفي رؤيتي لفلسفة الوجود، وفي منهجي كمؤرخ تتلمذ على يديك.

ألوذ بالذكريات وأفعّلها مخافة ان يخبو بعضها في صناديق النسيان فاخسر من جكمتك الخير العميم. فانا في حياتك قلّما احتجت الى تفعيل  ذكرياتي لأننا كنا على تواصل مستمر اغرف مباشرة من مخزونك المعرفي الغني جدا بما خبرته من تجارب عمرك المديد، ومعارف شديدة التنوع تراكمت خلال قرءآتك العلمية ومؤلفاتك الوفيرة. كانت لقاءاتنا، على وفرتها، تكسبني في كل مرة معرفة جديدة، وتوقظ في رؤيتي اسئلة فضولية اجهد للاجابة عليها. فكانت يتعمق تفكيري بما كتبت فاعيد صياغة بعضه واصوّب ما كان قد فاتني.

لقد زهوت بل فاخرت في محتطين اثنين على مدى علاقتي بك: الاولى عندما تبنيتني علميا واخذت بيدي مرشدا موجها مناقشا لابحاثي وبعض مؤلفاتي. والان بعد غيابك الجسدي استعرض بعض مفاصل المرحلة الاولى واستهلها باستقراء الاعوام الثلاثة والثلاثين الماضية التي جمعت بيننا والتي بدأت سنة 1973 يوم دخلت دكانك الذي اسميتَه “ديار الشام في عهد المماليك” لاحضّر شهادة الماجستير. بدوت شديد الوقار، عبوسا. استحوذت علينا علميا نحن الستة والعشرين طالبا بمحاضرتك الاولى بما حفلت به من توجيه علمي واكديمي، وبالكثير من المعلومات الموثقة بالتواريخ، من دون ان تستأنس بورقة او كتاب، معوّلا على ذاكرتك التي قل نظيرها وهي استمرت وفيّة لك حتى يوم رحيلك.

اسست تلك السنة بداية لمرحلة جديدة في حياتي، شرعت اتعرّف خلالها الى نقولا زيادة الانسان؛ انتهى عبوسك بعد ان استقر في الصف تسعة طلاب جعلتَ منا اخوة يرعاهم أب حازم، خلوق، موجه. لم تعد غرفة الصف المكان المفضل لإلقاء المحاضرات بل تحولت الكافبتيريا او اي مكان جميل في الطبيعة الى صف جديد. وكانت الحصة تجاوز الساعتين من دون ان ندري. وأظنّك تذكر كيف حوّلتنا نحن طلابك الى محاضرين بعد ان رميت كل واحد منا باحد كبار مؤرخي المماليك ليدرس منهجه ومضمون مؤلفه، فكان نصيبي القلقشندي باجزائه الاربعة عشر، وما كنت قد سمعت به قبلا. وصار لزاما على كل منا ان يحاضر، وعلى الآخرين مناقشه. فاكسبتنا الجدية في العمل، والصبر على المصاعب، والثقة بالنفس. وعلمتنا احترام ذواتنا بعد ان انّبت احدنا بكثير من التهذيب والفعالية في آن لأنه حاول في نقاشه تجاوز الناحية العلمية الى الامور الشخصية، بل لأنه مزج بين الامرين.

ولما شرعت باعداد رسالتي لنيل شهادة الماجستير، ومن بعدها اطروحة الدكتوراه وضعت مكتبتك في تصرفي، وصرت تستقبلني في منزلك كلما احتجت الى ارشاد منك، وكم كنت متطلبا! سامحني الله. ولشدة طيبتك استقبلني مرة، وباصرار منك، في المستشفى حيث كنت تجري فحوصا طبية. فحفرْتَ يا استاذي الكبير تلك الميزات في شخصيتي، ولازمتني مدى تدريسي في الجامعة اللبنانية. نعم كنتَ المثال الذي حاولت الاحتذاء به.

 لقد اكسبتني الكثير من العظات ان جاز التعبير لأنك كنت تحضّني على التعمق بالحضارة العالمية بكل مضاميرها، وتصرّ على ان التاريخ ابرز ركائزها؛ لأنه كان بنظرك غنيا بالمعارف والمواعظ والعبر، وسجل لاحداث وحضارة الماضين، وكنت تشجّع المؤرخين بل تدفعهم للكشف عما كان ما يزال مخفيا منه خدمة للانسانية، ومن ذلك قولك الذي طلما رددته امامي ودونته في احد كتبك: ” في التاريخ العربي قاعات قل داخلوها، وسبل قل طارقوها، وزوايا قل والجوها، وفي هذه القاعات والسبل والزوايا خير كثير، لو انصفها الناس “[1].

 كان يؤلمك الا يفهم التاريخَ القيّمون على الحكم في العالم بتساؤلك التالي: “هل من درس تمليه علينا هذه الاحداث البعيدة؟ هل من رؤية يمكن ان تعكسها تلك الحوادث بانكساراتها وانتصاراتها بآمالها وآلامها بحيث بدل ان نتلفت الى الخلف تحملنا الى التطلع الى الامام؟[2] فانا اترحم على روحك باستمرار ولكنني اليوم ومن خلال اقوالك ولا سيما الاخير استمر اذكرك واتغذى من عمق نظرتك الى الوجود.

 اما المحطة الثانية فبدأت بعيد حصولي على شهادة الدكتوراه عندما عندما اتخذتني صديقا لك، وهذه وان كانت ثمرة للاولى فانها فاقتها مكانة وتأثيرا في نفسي. فانا لن انسى ابدا تبنيك لي علميا واخذك بيدي الى المنتديات الثقافية في العالم العربي، واشراكي بعدد وافر من المؤتمرات العلمية. كنت تزهو بي وكأنك تقول هذا احد ثماري العلمية. ولم تقف الامور عند هذا الحد بل جهدت لتعرّفني باهل الفكر في العالم العربي، خصوصا اولئك الذين كنت تستضيفهم في بيتك الذي تحول الى منتدى علمي. هذا المنزل في الدار الخضراء لن ننساه لا انا ولا اصدقاؤك الاخرون، فهو سيبقى رمزا للعلم واللقائات العائلية، رمزا للصداقة، رمزا للمحبة، رمزا لتجاوز الطائفية البغيضة، رمزا لانقولا زيادة المثقف والانسان.

لن انساك يا صديقي، لأنك جسّدت بحضورك اللافت، وصفاء نفسك، وعطفك الابوي، خير المثل الاعلى الذي اجهد للاحتذاء به. واتسأل في هذا اليوم الجلل فيما اذا كان يصح قول بعض الناس: ان الاموات تسمع من يناجيها، فان كنت تسمعني فاعذر تقصيري بايفئك جقك، وسامح طفولتي في حضرتك.

               انطوان ضومط


[1] – زيادة، نقولا، كتاب، صور من التاريخ العربي ، صفحة الاهداء

[2] – عربيات ، ص 171 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *